سورة البقرة | حـ 202 | آية 180 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

مع كتاب الله وفي سورة البقرة يرسم الله سبحانه وتعالى طريق السعادة في الدنيا والآخرة وينبهنا إلى ماذا نفعل في حياتنا وقبل مماتنا تهيئة لليوم الآخر وتركا لهذه الدنيا عمارا لأولادنا وأحفادنا ومن بعدنا يقول سبحانه وتعالى كتب عليكم وهذه عبارة معناها أن الله قد افترض فرضا علينا فلا بد علينا أن نستجيب له وأن نمتثل لأمره. كُتِبَ عليكم مستعمل، كُتِبَ عليكم الصيام، يعني فُرِضَ عليكم الصيام، فُرِضَ. كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدكم
الموت. أحدكم مفعول به والموت فاعل، لكن المفعول قد تقدم على الفاعل، وإذا تقدم المفعول على الفاعل فلا بد أن لذلك غرض، والغرض هنا هو أنه لا يتكلم عن قضية الموت بل أنه يتكلم عنك أنت. كُتب عليكم إذا حضر أحدكم، إذا قدم أحدكم على الموت الذي هو فاعل من أجل أن تعلم أن هذا الفعل إنما سوف يفيدك أنت وليس فعلاً يترتب على الموت، وإنما هو فعل يفيدك في حياتك الدنيا ويفيدك في حياتك الآخرة. فكأنك موضوع
الكلام في حين إنك فضلة عند النحويين ولست موضوع الكلام. موضوع الكلام هو الفاعل "الموت"، ولكن قُدّم المفعول إشارة إلى أهميته في هذا السياق. "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ". الإنسان بعد وفاته يصير ملكه في حياته تركة. إذن ليست التركة إلا بعد الوفاة، فما أملكه في حياتي الدنيا وأنا حي هو
ملكٌ لي، أتصرف فيه كيف أشاء، ما دام تصرفي فيه لمرضاة الله ورسوله وإقامة هذه الحياة التي هي مأدبة الرحمن. فيجوز لي أن أبيع ملكي أو أن أتصدق به، وقد تصدق أبو بكر بكل ماله وتصدق عمر. بنصف ماله، بنصف ما يملك، ويجوز لي أن أهبه لمن أشاء، ويجوز لي أن أتمتع به على الوجه الذي أشاء، ما دام هذا التمتع في حدود الشرع الشريف، في أوامر الله ونواهيه، لا يخرج عنها. إذاً فملكي في حياتي أنا حر التصرف فيه، حر التصرف فيه. إن
ترك خيراً والخير. المال هو الملك. الوصية هي تصرف موقوف نفاذه لما بعد الموت، إذ سيظل ما في ملكي على ملكي أتصرف فيه كيف أشاء ما دمت حياً. فعندما أموت فإن هذه الوصية تنفذ في تركتي وتذهب إلى من أردت أن تذهب إليهم. فالوصية تصرف موقوف لما بعد الموت بخلاف...
الهبة هي تصرف في الحياة الدنيا مباشرة، فلو وهبتك جزءاً من مالي فهو ملك لك الآن تتصرف فيه فوراً، ولكن لو أوصيت إليك بثلث تركتي، فإنه في حينها نبحث ما تركت ونرى الثلث ونعطيه لك حينئذٍ بعد الوفاة. وفي الحديث "لا وصية لوارث" سداً للتلاعب في مقادير الميراث، وهو حديث ورد. بسند فيه مقال ولكن أخذ به كثير من المجتهدين ولم
تجمع الأمة على الأخذ به، وفي حديث جابر حدد الوصية بالثلث وقال: "الثلث والثلث كثير"، فيبقى أقصى شيء هو الثلث. وقال العلماء: ويجوز الوصية للوارث وفوق الثلث بإجازة الورثة؛ لأنهم حينئذٍ إنما يتنازلون عن بعض حقوقهم لأن التركة انتقلت إلى... ملكهم بعد وفاته فيتصرفون فيها كيف يشاءون حتى لو كان أزيد من الثلث حتى لو كان لوارث من الورثة، وذهب بعض الأئمة كالهدوية والناصرية إلى أن الوصية تكون للوارث أيضاً ولم يأخذوا بمنطوق الحديث لما فيه من
مقال في سنده، وعليه يسير أهل مصر فيجعلون الوصية صحيحة حتى للوارث لكنهم حددوها بالثلث، قال بعضهم إن هذه الآية قد نسخت، وهذا قول ليس بسديد، فإن القرآن هداية كله من أوله إلى آخره على مستوى الحرف، وهذا الحديث لم ينسخ هذه الآية، وقول بعضهم أن هذه الآية قد نسخ حكمها قالوه لماذا؟ قالوا لحديث: "لا وصية لوارث" وهنا يقول أن ترك خيراً. الوصية
للوالدين والوالدين من الورثة، فهذا الحكم قد أُلغي. قال: "لا، أنت لم تنتبه". قال له: "ماذا؟ انتبهت". قال: "الوالدان قد يكونان مسلمين وقد يكونان غير مسلمين، وإذا كان الوالدان غير مسلمين فإنهما ممنوعان من الميراث لأنه لا توارث بين أهل ملتين، وحينئذٍ يُسن للإنسان أن يوصي لهما". وتبقى الآية كما هي كما قال المفسرون، وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، ونعود مرة أخرى لنستكمل هذه الآية في لقاء آخر، والحمد لله رب العالمين.