سورة البقرة | حـ 25 | آية 2 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله نعيش هذه اللحظات مع قوله سبحانه وتعالى "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين". ذلك تأتي في اللغة العربية للإشارة إلى البعيد والله قريب، فلا بد أن الكلمة التي تعلمناها في السنويّة ليست صحيحة، هذه تكون لغة ماذا، خاصة بالسنوية، أي أن هذا للقريب وذلك للبعيد. قلنا له: حسناً، أعطنا المعلومات الصحيحة التي هي على مستوى الدكتوراة.
الأستاذ في الجامعة ماذا يفعل؟ قال: ذلك تأتي للتعظيم، ذلك عالم الغيب والشهادة للتعظيم، ها، ذلك أول ما العرب. يسمع ذلك وبعد ذلك يرى الذي بعدها قريباً كأنني قلت ذلك الرجل، فعلى الفور يشعر بأن هذا الرجل ليس عادياً، هذا الرجل عظيم. فعندما قالوا ذلك عالم الغيب والشهادة، قال: الله عظيم. أول ما قالوا ذلك الكتاب، والكتاب بين أيدينا ها هو، فأين هو بعيد؟ على الفور يقول: هذا عظيم، هذا الكتاب. عظيم، أو هذا كتاب عظيم، أصبح ليس ككل الكتب،
ولماذا؟ ولذلك نضعه فوق، ولا نضع شيئاً فوقه، ولا أحد يستطيع أن يرميه هكذا لأخيه عندما يقول له: "ناولني المصحف". لا، فهو يقبّله ويناوله له، فيأخذه ويقبّله أيضاً. ما هذا التعظيم العظيم؟ هذا آتٍ من ذلك، ذلك الكتاب، ذلك. جعلت المصحف لا يمسه أحد إلا طاهر عظيم. يقول لك أحدهم: إن آية "لا يمسه إلا المطهرون" لم تنزل في المصحف، بل في اللوح المحفوظ. فيرد عليه: لا شأن لنا بهذا، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمس القرآن إلا طاهر". وسيدنا عمر عندما ذهب إلى فاطمة بنت الخطاب دخل عليها. قال لها ما هذه الصحف التي تقرأين فيها فخبأتها. قالت له: لا
يمسها إلا طاهر، فاذهب فاغتسل. فذهب فاغتسل، فأعطتها له وهو طاهر. التعظيم يأتي من ذلك. لدينا اسم الإشارة "ذا"، تدخل عليه الألف والهاء للتنبيه فيصبح "هذا"، وتدخل عليه الكاف التي للخطاب فيصبح "ذاك". في هذا وفي ذاك وتدخل عليها اللام، قالوا لماذا؟ قالوا زيادة في المبنى لزيادة المعنى. كلما زاد المبنى -المبنى الذي هو مبنى الحروف- فما هو "ذاك" ثلاثة حروف، و"ذلك" أربعة حروف. تقول لي:
لا، هم ثلاثة. أقول لك: لا، إنما فيه الألف ليست مكتوبة، فهي "ذا ذا". الألف واللام لا تُكتب هنا، "في ذلك" فهي أربعة حروف، "فذلك" أربعة حروف، وتدل على البعيد أو العظيم: "ذلك الكتاب". وأما "الكتاب"، فالألف واللام هنا كما درسناها سابقاً، قد تكون للجنس، وقد تكون للعهد الحضوري أو العهد الذهني، وقد تكون للاستغراق. فهي تصلح هنا للاستغراق كما قالوا. لا، لا يصلح ذلك. كل كتاب لا يصلح. جنس الكتاب قالوا
يكون هذه للعهد. نحن عندنا الألف واللام في العربية للثلاثة هؤلاء: العهد أو الاستغراق أو الجنس. طبقها وانظر هل سيستقيم الكلام أم لا. الكتاب المعهود الذي بيني وبينك هو ذلك الكتاب، أو الكتاب الحضوري الذي بين أيدينا. الذي حاضرٌ ها هو ماشٍ، يصحُّ أن يكون إذا الألف واللام هنا للعهد، أما الذهني "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً"، وأما الحضوري وهو ما بين أيدينا في المصحف الشريف "ذلك الكتاب"، والكتاب هذه ما معناها؟ دعنا نذهب إلى جذرها، كاتب، ماذا يعني كتب؟ أي ضمَّ شيئاً إلى شيء، وسُمِّيَ هذا كتاباً لماذا؟ لأنه
ضمَّ الحرف إلى أخيه فصارت كلمة، وضمَّ الكلمة إلى أختها فصارت آية، وضمَّ الآية إلى أختها فصارت سورة، فيكون كتبًا، أليس كذلك؟ نعم، إنه كتبٌ. أي أنه ضمَّ، والكتاب مصدر أُطلق على هذه الذات التي هي المصحف الشريف، أو المتلو بالألسنة، أو القائم بالأذهان والقلوب، أو أُطلق على المعاني كلها. هذه وجوه لشيء واحد مثل المكعب الذي له ستة وجوه وكله مكعب واحد، ومنها الكتيبة. الكتيبة معناها ضم عسكري، فالعسكري يُشكِّل فصيلة، وضم الفصائل يُشكِّل كتيبة. إذاً الكتيبة آتية من الضم أيضاً. فالكتاب فيه ضم، والكتاب له خصوصية بذلك لكل...
وسيلة اتصال عن كل وسيلة اتصال هو سماه كتاباً، لم يسمه مصحفاً ولا صحفاً ولا متلواً ولا مقروضاً ولا أي شيء مما يصلح أن تسمى به هذه الآيات أو السورة. سيظل الكتاب الوسيلة الأكثر فعالية في تربية الإنسان. لماذا؟ انظر إلى الفرق بين هذا الكتاب وبين الفوتونات الضوئية التي تكون على الإنترنت والذي يكون على شاشة الكمبيوتر تجدها
أنها بضغطة تزول، يضرب القرص الصلب، تنقطع الكهرباء، يحدث شيء ما غير متوقع. والكتاب باقٍ سبحان الله، تفتحه في أي وقت من ليل أو نهار، تجلس تقرأ فيه وترجعه وتقرأ وترجعه. يبقى هذا الكتاب يقتضي المراجعة، تستطيع أن ترجع إليه في أي وقت كان والمراجعة. ماذا تعني هذه الكلمة "التكرار"؟ إنك سترجع إليه مرة بعد مرة، مرة بعد مرة، مرة بعد مرة، وفي كل مرة ما الدافع لأن ترجع إليه؟ ما الدافع لهذه المراجعة؟ "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"، "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، إذاً... التدبر والمراجعة هذه، الدافع إليها هو التدبر. يريدك أن تتدبر. هل هذا التدبر وارد إذا كانت هذه ألفاظاً أو إذا كانت هذه فتناً؟ أبداً. التدبر لا يتأتى إلا بالمراجعة، والمراجعة لا تتأتى إلا مع الثابت، والثابت هو الكتاب. فسيظل الكتاب ولو كان بكل صوره ما دامت فيه قدرة المراجعة سيظل هو. الوسيلة المثلى لإيصال المعلومات والفهم إلى بني البشر. لا
يُفهم من هذا أننا ضد الإنترنت ولا ضد الشبكة الفلانية أبداً. هذه القضية حقيقة من الحقائق، وهي أن هذا الكتاب سمّاه ربنا كتاباً للمراجعة من أجل التأمل والتدبر، من أجل التكرار، من أجل أن يستفيد الإنسان منه فائدة بعد فائدة. فائدة ولما فيه من خاصية عجيبة وهي استنباط أحكام جديدة أبداً كلما رجعت إليه لا يناقض بعضها بعضاً بل تتسع دائرة المعرفة بها. خاصية من خصائص القرآن التي سنراها معاً. المفسرون ذكروا حوالي عشرة أقوال في الكتاب وأيضاً على اختلاف التنوع، الاختلاف التضاد، لكن نحن نريد أن نعيش. معه لا أن نورد كلام
المفسرين لا ريب فيه، ونفي الريب، والريب يُطلق في لغة العرب على الشك، يعني لا شك فيه، يعني واضح، شيء واضح. ويُطلق على الحاجة: "ما قضينا من تهامة كل ريب" أي كل حاجة. ويُطلق على التهمة في لغة العرب: "ارتبتني" يعني اتهمتني، قالت بثينة. يا جميل أربتني يعني اتهمتني، قلت كلانا يا بثينة مريب، يعني كلانا متهم. يا بثينة لا تغضبي، فالريب يُطلق بمعنى التهمة، ويُطلق بمعنى الحاجة، ويُطلق بمعنى الشك. فهل
يجوز أن ننفي الريب بكل معانيه عن الكتاب، فإنه لا شك فيه، وإنه لا تهمة فيه، وإنه ليست هناك حاجة إلا الله. فنحن نقول هذا الكتاب لا نريد به الدنيا ولا نريد به شيئاً سوى الله. يجوز. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.