سورة البقرة | حـ 44 | آية 17 : 18 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة البقرة | حـ 44 | آية 17 : 18 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله سبحانه وتعالى نعيش هذه الدقائق في سورة البقرة، والله سبحانه وتعالى يضرب مثلاً بشأن المنافقين فيقول: "مثلهم" أي مثل هؤلاء المنافقين، كاف هنا تأتي للتشبيه "كمثل" يعني مثل مثل، الكاف هنا... للتشبيه "كمثل الذي استوقد ناراً"، الألف والسين والتاء تدخل لأجل الطلب، حفظناها هذه من أيام "الاستهزاء" و"يستهزئون" وغيرها. فالألف والسين والتاء تدخل للطلب، فيكون معناه
أنه طلب أن يوقد ناراً. حسناً، شخص يريد أن يوقد ناراً، أيكون له مصلحة أم ليس له؟ أم أنه عبث أم جاءت معه هكذا؟ لا، بل يكون له مصلحة. مصلحة والألف والسين والتاء التي تقتضي الطلب يدل ذلك على الحاجة، وما لا يدل يدل على الحاجة، فيكون إذا هو وهو يستوقد النار إنما استوقدها من أجل حاجة أرادها، والحاجة هذه معناها ماذا؟ خلة ينبغي أن تُسد، يعني حاجة عندي، يعني محتاج أن أسد هذا، فاحتاجه إلى الأكل واحتاج. إلى الشرب وأحتاج إلى النوم وأحتاج إلى وإلى وإلى من احتياجات الحياة، فأريد أن أسد جوعتي وأن أروي ظمئي وأن أفعل كذا
وكذا. والنار هذه، لماذا نريدها؟ قال: تنير في الليل، نستطيع أن ننضج عليها الطعام، نستطيع أن نتدفأ بها في الشتاء، نستطيع أن نجعلها دليلاً لنا بحيث أن البعيد... يراني فيأتي إما للضيافة وإما لهداية الطريق وإما أنني أنا نفسي أريد شخصاً ينقذني، فعندما يرى الناس النار أعمل. ولذلك كانت هناك شعوب كثيرة تستخدم الدخان في الرسائل. النار، الله، إذاً هذه النار مهمة لأن فيها دفئاً ولأن فيها نوراً ولأن فيها مصالح مختلفة. أتذكرون سيدنا موسى عندما جاءه.
في الوادي المقدس طوى فشاهد نارًا فذهب إليها وأخذ منها غزوة وأخذ منها قبسًا وأخذ منها كذا إلى آخره، لكنها كانت دالة عليه. هو يريد أن يأخذ منها هذا، فلما أتاها وجدها شيئًا آخر. مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا، يعني طلب أن توقد له نار أو طلب أن... يحص النار ليكون لشيء أم لا لشيء، فلما أضاءت ما حوله، الله، لقد أخذ جزءاً من منافعها وهي الإضاءة، يعني النار أنارت فعلاً ورأى
نورها عندما أضاءت، والنور ينعكس على الأشياء فيظهرها للعين البشرية، والرؤية هذه التي تمت بعينه أهي معرفة أم جهل؟ إنها معرفة، سيكون رائياً الشجرة شجرة والحجر. الحجر هو الحجر، والبئر هي البئر، وهو يعرف ما حوله، لأنه لو مشى في الظلام دون أن يعرف لاصطدم بالشجرة وسقط في البئر وكُسرت رِجله. إذاً المقصود قد تم وبدأت الفائدة تتحقق لهذا الإيقاد. ذهب الله
بنورهم، انطفأت النار، أي عرفت حلاوتها وسُحبت مني، بمعنى أنني عرفت شيئاً من فوائدها وبقية الفوائد سُحبت. مني فلن أستطيع أن أشوي عليها قطعة لحم، ولن أستطيع أن أتدفأ بها، ولن أستطيع أن أرسل رسالة استنجاد بها، ولن أستطيع، وحتى النور الذي رأيته بعيني، حتى النور وهو الإيمان الذي رأيته بعيني ولامس قلبي أول ما لمس، حتى هذا أيضاً سيكون حسرته أشد، أتعلم لو لم تكن قد أنارت. تماماً كما
هو في الظلمة، في الظلمة وانتهى الأمر، لكن هذا نور، وكما يقولون في العامية "حَنْسَة"، "حَنْسَة". ماذا يعني ذلك؟ يعني أعطاه شيئاً ثم سحبه منه مرة أخرى. نقول: "يا الله، أأنت تحنسني أم ماذا؟" وإن الذي يتعرض للحنس هذا يُقال إنه يشعر بحسرة شديدة، لأن الذي جرّب ليس كالذي لم يجرب. كان أحد الأمراء في الأسرة المالكة السابقة يقيم حفلة، ثم يحفر حفرة كبيرة ويضع فيها كريم الشانتيه والمارون جلاسيه المتبقي من الحفلة ويردمه، فهو لا يرضى أن يترك الفلاحين يأكلونه. فسألوه: "لماذا تفعل ذلك يا سمو الأمير؟" فأجاب: "لو تذوقوه لن يتركونا وشأننا".
ألقوا هذه الأشياء الجميلة. ولكن، ماذا لو اعتادوا عليها وأصبحنا نحن قد أفسدناهم؟ لن نستطيع أن نأتي لهم بمثلها في المستقبل. وبالطبع هذا منطق مرفوض لأننا كما قال تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً". فهذا منهج معوق، أما... من أين يأتي المنهج المعيق من فكرة أن من جرَّب شيئاً وحُرم منه عزَّ عليه ذلك؟ هذه فكرة صحيحة، لكنها لا تصلح في قضية الإطعام. قضية الإطعام هذه يجب أن تكون لوجه الله. فهنا
أنت، أيها الكافر، للأسف لم تر الإيمان، ولم تسمعه، ولم تطَّلع عليه، ولم تجربه، ولم تره. حلاوته لا من قريب ولا من بعيد ولا أي فائدة من فوائد لكنت منافقاً بعد أن تسمع الإيمان وبعد أن توافق عليه بلسانك وبعد أن تختلط مع جماعة المؤمنين وبعد أن ترى أثر هذه الحلاوة في قلوب الناس تأتي بنفسك آخذاً نفسك من نفاقك فيُطفأ عليك النور فتكون أشد حسرة. لفقدك هذا الذي جربت، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. ثم يؤكد أن هذا الكلام لا يتعلق بمثال النار، إنما النار
ذُكرت لفائدة وهي أنها أنارت فطُفئت. إنما الذي هو في حال المنافقين أشد وأنكى، فقال: صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون. نحن في النار في ظلمات لا يبصرون، أي سُلِبَ منهم البصر فقط. لكن من الممكن أن يتحسس بيديه، ومن الممكن أن يسمع بأذنه، ومن الممكن أن يتصل بما حوله ولو كان في الظلام. أما حقيقة المنافق فهي أنه سُلِبَ الإدراك تماماً. فهذا المثال ليس على حقيقته، إنما
هو لضرب المثل بالانسحاب فقط وليس بجهات الانسحاب. فعندما... سحَبَ منهم، سحَبَ منهم الأبصار، لكن في قضية النار لا. أما المنافقون فهم أشد مما مُثِّل بهم، ولذلك قالوا: الرجال لا تقف عند المثال، ممنوع البحث في المثال. في آداب البحث والمناظرة، وضعوا قاعدة اسمها: المثال لا يُبحث فيه. هذا المثال لضرب جهة واحدة من الجهات وليس تماماً. الحاصل استكمالاً لكمال الحاصل، ماذا نفعل؟ ذهب وصفهم ابتداءً، فأصبحوا "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ". عندما قال "صُمٌّ" أي فقدوا
السمع، ثم "بُكْم" أي لا يتكلمون، أصبحوا خرساً، "عُمْي" أي لا يبصرون، وبعد ذلك قال - فجاء بالفاء هنا - "فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" من أجل ذلك. انظر إلى رحمة ربنا، فعدم رجوعهم هو بسبب حالتهم تلك. مُسبَّب بعدم الإدراك، فعندما آتي بشخص منافق وأريد هدايته إلى الله، ماذا أفعل به؟ قال: علِّمه، علِّمه، لأنه عندما يدرك لعله يرجع. لماذا هو غير راضٍ بالرجوع؟ لأنه لا يعلم، لأنه لا يشعر. وقد وُصِفوا بعدم الشعور، ووُصِفوا بمرض القلب الذي يحول دون الوصول إلى المعرفة الصحيحة، ووُصِف بعدم.
العلم ووصفوه بأن هذه الحواس معطلة، فإذا احتلنا بصورة أو بأخرى فأعلمناه وجعلناه مدركاً، لعله أن يرجع عن نفاقه. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.