سورة البقرة | حـ 77 | آية 49 : 50 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

مع كتاب الله في سورة البقرة ومع قوله تعالى وهو يمن على بني إسرائيل وينبهنا نحن أيضا أن نلتفت إلى مثل هذه المعاني فيقول: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ ماذا يكون عندما يستمر الظالم في ظلم ضحيته؟ أن ذلك يولد في نفوس الناس أو الطائفة أو الجماعة نفسية العبيد، ونفسية العبيد تطيع سيدها، ونفسية العبيد تفكر
بطريقة جمعية، لا يستطيع واحد منهم أن يفكر تفكيراً مستقلاً، ونفسية العبيد لا يمكن أن تبدع شيئاً ولا فكراً، ونفسية العبيد لا يمكن أن تشارك في تنمية مجتمعاتها، ولكن الله... سبحانه وتعالى مع هؤلاء الذين يكفرون لأنهم كانوا تحت الإرهاق المدة الطويلة من الله عليهم وأخذهم وحملهم حملاً إلى الهجرة. إذا رأيت منكراً فلتزله، انظر إلى النفسية الأبية التي علمها لنا رسول الله، أو فلتعرض عنه. وقصّ علينا قصة ذلك
الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم سأل عابداً قال... هل لي توبة؟ قال: لا. تسعة وتسعين نفساً! ما هذا؟ فقتله، فأكمل به المائة. لقد سدَّ باب الرحمة في وجهه. وذهب إلى عالم فسأله، فقال: مَن ذا الذي يمنعك من التوبة؟ تُب إلى الله، يقبل الله توبتك، لأن التوبة ليست متعلقة بالماضي، إنها متعلقة بالمستقبل. التوبة مراقبة للنفس البشرية وانتقال. إلى مراد الله فقال له: "وما الذي يمنعك من هذا؟ ولكن العالم أصبح عالماً يحلل الأمور التي أمامه. أراك
بارداً. قوم سوء تركوك تقتل تسعة وتسعين نفساً، ما من أحد منهم قام فأطلق رصاصة، ولا أحد منهم قام فقبض عليك، ولا أحد منهم قام فقدمك لمحاكمة، ولا أحد منهم اعترض أي شيء، هؤلاء أناس سيئون جداً، نفسيتهم هكذا، نفسية العبيد. هؤلاء أناس يجب عليك أن تنتقل منهم، فإني أراك بأرض قوم سوء فاخرج منهم واذهب إلى أرض كذا، أرض دلوا عليها، فإن فيها أقواماً يعبدون الله. لكن هذه ليست عبادة الله، هذا خراب أن يُؤخذ فينا المظلوم فلا يتحرك ساكن. وأن يُقتل المقتول فيكون دم البشر
عندنا أهون من دم الحيض، تجد كثيرًا من الناس تسأل في الحيض وفي النفاس ولكنها لا تسأل عما أُريق من دماء المظلومين في الشرق والغرب، هذا لا يرضي ربنا، ولذلك يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى إن الكافر العادل خير من المسلم الظالم لأن الملك أساسه العدل، يعني سيُفضَّل الكافر العادل على المسلم إذا كان ظالماً. إذاً لا بد على عقل المسلم أن يستوعب الدرس وأن يعلم أن الاستمرار في الظلم في طائفة ما أو في جماعة ما يولد نفسية العبيد، وأن هذا ضد مراد
الله من خلقه وأنه ولا بدَّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بدَّ من أن نستعظم في أنفسنا دماء البشر أكثر من دماء البراغيث أو من دماء الحيض أو من أي دمٍ آخر لا قيمة له. ولذلك رأينا فرقة الخوارج، أحدهم ضرب ذبابة فنزل دم الذبابة على ثوبه، فأخذ يسأل هل هذا نجس. هل هذا يبطل الصلاة؟ هل يجوز أن أصلي في هذا الثوب وهو متوجه لقتال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟ إذًا
هذا الذي لم يفرق بين الدماء ويسأل في دم البعوضة ويستحل دم من كرم الله وجهه، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم". وعلى بابها والذي قال أنت مني بمنزلة هارون من موسى والذي ورد فيه من الفضائل في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل أكثر من ثلثي الكتاب وفي الصحابة كلها الثلث، سيقتله، وبعد ذلك هذا دمه حلال، هذا الإمام علي، هذا زوج السيدة فاطمة عليها السلام، هذا حلال الدم، وبعد ذلك من ليس حلالاً أن يسأل عن دم البعوض، يجب علينا أن نعلم أن هؤلاء قد خرجوا عن الدين الذي أراده الله للبشرية عدلاً
وإنصافاً وأمناً وطمأنينة وسلاماً، ولم يريدوه على هذه الصفة أبداً. فيذكرنا ربنا ألا نقرأ هذه الآيات على أنها تاريخ، بل نقرأها على أنها تفيدنا في هذه الحياة الدنيا. ولا نقرأها على أنها قد وُجِّهت لبني إسرائيل، ولكن نقرأها على أنها تُبيّن لنا ما الذي يُحبّه ربُّنا من البشر وهو يخاطبهم، وتُحذّرنا من أن نتّبع سُنَن الذين كانوا من قبلنا حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلنا وراءهم، وتُحذّرنا من أن نسير كما سارت الأمم ولما صارت أرسل
الله لهم الأنبياء يتعاقبون نبياً بعد نبي حتى يصححوا لهم المسيرة، وبعد النبي لن يأتي أحد لأن هذا عهد الله الأخير. "بُعثت والساعة كهاتين" وأشار إلى السبابة والوسطى. "اقتربت الساعة وانشق القمر"، "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون". آخر كلام القرآن هذا هو العهد الأخير فهو ليس... كتاباً يحكي قصصاً ولكن جعل في هذه القصص عبرة وأمرنا أن نهتدي بهم، أولئك الذين هداهم الله "فبهداهم اقتده"، وأمرنا أن نبتعد عن من غضب عليه أو عن من ضلّ "غير
المغضوب عليهم ولا الضالين"، قال تعالى في تعداد النعم على بني إسرائيل: "وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا". آل فرعون وأنتم تنظرون يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى أنه لا يتدخل لنصرة البشر بما يشبه المعجزات إلا إذا نصرت وبدأت بالالتزام والعمل، فلما التزموا مع موسى وجعلوا دورهم قبلة وصلوا وصاموا وآمنوا ووافقوا أن يخرجوا معه نصرهم
الله. سنذهب هناك إذن سنجد أن "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" إذاً وما النصر إلا من عند الله، كيف يتم هذا النصر؟ يتم بإلقاء الرعب في قلوب الآخرين، أن يذهب ويرسل طائرة فلا يعمل المحرك، أو تهب عاصفة فتُسقط هذه الطائرة بمن فيها. أليس هذا من عند الله؟ ألم تذكروا "إن تنصروا الله ينصركم" بأساليب مختلفة وبقوة؟
ولذلك نبّهنا إلى النصر على النفس والنصر المؤيّد من عند الله، إنما لا تطلب نصر المؤيّد من عند الله وأنت لم تنصر ربنا بعد. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.