سورة النساء | حـ 622 | 27-28 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة النساء | حـ 622 | 27-28 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة النساء يقول ربنا سبحانه وتعالى: "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا". وقد فسرنا هاتين. الآيتان من حيث السياق ربطناهما بقضية هيكل القرابة وما حرّمه الله علينا وما أحلّه في قضية الزواج وإنشاء الأسرة، ولكن يمكن أن نفهمهما أيضاً كأنهما في استقلال، يعني لو
لم يرد في القرآن إلا هاتان الآيتان، فسيكون هذا كافياً. فالله تعالى قال هكذا بمفردها، قال ماذا؟ قال والله... يريد أن يتوب عليكم، إنها تنظم العلاقة التي بيني وبينه، فهي لا علاقة لها بالقرابة ولا بالمذاهب ولا بالانحراف ولا بغير ذلك إلى آخره. أنت أيها الإنسان في علاقتك مع ربك، أهي علاقة خوف ورعب من النار ومن غضب الله في الأساس؟ أم علاقة مغفرة وتجاوز ورحمة وقبول في الأساس؟ ما هو أساس هذه القصة؟ ما هو
الأصل؟ "والله يريد أن يتوب عليكم". الأساس هو الحب، الأساس هو الرحمة، الأساس هو المغفرة والتجاوز، الأساس هو القبول، الأساس هو التوبة. إذن هذه تمنع الوسواس. عندما يأتيني شخص ويقول: "أنا خائف جداً ولا أعرف ماذا أفعل، لماذا أنا خائف؟ أخشى أن يخسف أتفهم الله، ولكنك لا تفهم من أنت. إنك صنعة الله، عندما يصنع أحد شيئاً ما، فإنه يفرح به ويخاف عليه أن يتكسر أو يصيبه شيء. والله سبحانه وتعالى يفرح بك أيضاً ويحرص على ألا تتكسر أو يصيبك شيء، فهو يتوب عليك، كأنه - كما يقول المشايخ.
يقول لك أهل بلدنا: هل أنت غبي أم ماذا؟ هل أنت غبي أم ماذا؟ يعني أحمق. أنت لا تدرك من أنت! والله يريد أن يتوب عليكم، هذا هو الأساس الذي بينك وبينه. حسناً، هذه النقطة الأولى: أنت إنسان خلق الله فيك القدرة على الاختيار. "وهديناه النجدين"، تستطيع أن تسلك... طريق الخير وتستطيع أن تركب طريق الشرع باختيارك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر باختيارك. حسناً، وبعد ذلك ماذا ستختار؟ هل تبحث
وتفكر: "أنا سأختار الله، لماذا؟ لأنه هو الذي خلقني ورزقني، والشيخ قال إنه يحبني، فإذن ماذا يكون موقفي؟ ما دام قدم لي هذا المعروف، فسأحبه أنا أيضاً". هناك قال: "لكن ما دام سيتوب علينا، فليس من الضروري أن نرتكب الذنب أولاً لكي يتوب علينا. من أين سيتوب علينا إذن؟ نحن نسير في الطريق الخطأ بدلاً من الطريق الصحيح. ما الذي يجعلنا نسلك الطريق المستقيم؟ نحن نسير معوجين، وبعد ذلك عندما نكبر... ولذلك تجد الناس هكذا، يقول لك: الله تصلي كفَّ الله الشر، الله! أنت ما زلتَ صغيراً. أأنتِ تحجبتِ يا فتاة؟ لماذا تخنقين نفسك هكذا؟ حسناً، قم
لنفعل ماذا؟ قال: امشِ هكذا في هذا الطريق، وهو الطريق المعوج، واستمر في السير فيه حتى يأتيك الأجل المحتوم، ووجدت نفسك قد كبرت. تُب إلى الله، قم فماذا يكون؟ الحمد لله، هكذا تمام. طيب، فيتبين لك أن هذا التفكير إلى أين سيأخذك. شخص يقول لك: امشِ في طريق الله والتزم، وآخر يقول لك: لا، يوجد التزام، هناك حرية. وهي ليست حرية، بل هذا هو التفلت. الحرية لها معنى آخر، اسمع. لكنه يسميها هكذا "حرية"، فأنا إذن أمام الالتزام ماذا أفعل؟ قال: امشِ في التفلت فلا أحد ضامن عمره،
الرب واحد والعمر واحد. طيب، ما دام الرب واحد والعمر واحد، كان مشايخنا - كان الشيخ عبد العزيز الشريف - يقول لنا: "أصل العمر واحد، فاحذر أن تضيع ولا ثانية منه لأن العمر واحد". ففهم الرجل أننا لا نضيع ولا الطاعة لأنها لن تعود الثانية التالية. هل تفهم؟ العكس من الشهوات يقول لك إنه أصل العمر واحد، ولذلك يجب أن أكون جباناً لئلا يضيع مني هذا العمر، ويجب أن أكون أنانياً، ويجب أن أكون حريصاً على الشهوات. أتعلم؟ لو كانت هذه الشهوات متعة فقط، لكنها توصلك إلى الميل العظيم لأنك بني آدم فانظر كيف تظهر هنا
قضية الاختيار، فالله في هذه الآية يجعل لنا اختيارًا ويرشدنا كيف نختار، فيقول: "والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا"، يقولون: ما دمنا في الدلالة الاستقلالية "خلق الإنسان ضعيفًا" في... ماذا لم يقل؟ يتحقق أن إطلاق قلة القيود تزيد الموجود. فالقاعدة هكذا: أنه عندما تقل القيود يكون الموجود ماذا؟ يزداد. ضعيف في جسمه أو في عقله أو في
إرادته أو في صحته أو ضعيف في تحصيله للأرزاق أو ضعيف في سلطانه وجاهه أو ضعيف في علاقته الاجتماعية أو ضعيف في مُرادُ الله ليس ضعيفاً في أي شيء، يعني لو قال "ضعيفاً" في شيء معين لكان مقيداً بهذا الشيء، فيكون ضعيفاً هنا فقط، وليس جبّاراً في أشياء أخرى. أبداً أنت ضعيف في كل شيء، حتى الشوكة التي يُشاكها المؤمن خير له، لأنه عندما تدخل شوكة في رجلك هكذا قُم. صوتك ضعيف ونفسيتك
في الحقيقة ضعيفة مهما تجبّرت فهي ضعيفة أيضاً، وتركيبتك هكذا ضعيفة. أنت تحتاج إلى دخول دورة المياه، وما دمت محتاجاً إلى دخول دورة المياه فأنت ضعيف، ملكاً كنت أو حاكماً أو محكوماً. وقد خُلق الإنسان - الرجال والنساء، الصغار والكبار - ضعيفاً، فأصل الخلق فيه ضعف، فتعامل كن جيداً واسلك في أمر الله وطريقه وابتعد عن الشهوات حتى لو كانت براقة، فإن طريق جهنم محفوف بالشهوات البراقة، والجنة طريقها محفوف بالمكاره، حُفت
الجنة بالمكاره وحُفت النار بالشهوات. وإلى لقاء آخر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.