سورة النساء | حـ 698 | 66 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة النساء | حـ 698 | 66 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة النساء يقول الله سبحانه وتعالى: "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً". لهم وأشد تثبيتاً من هذه الآية أخذنا حقيقة نصف بها دين الإسلام وأنه دين اليسر وأنه دين رفع الحرج حتى أصبح رفع الحرج مبدأ إسلامياً
لا ينفك ولا يتجزأ عن دين الإسلام وحتى صارت التيسير قاعدة من القواعد الخمس التي بُني عليها الفقه الإسلامي وقاعدة من القواعد التي تكوِّن العقل. الفقهي المسلم عقل المجتهد، فالمجتهد عنده الضرر يزال، وعنده المشقة تجلب التيسير، لأن الشريعة مبنية على اليسر، وعنده أن الأمور بالنية وبالمقصد، وعنده أن العرف له مكان في الفقه الإسلامي "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وعنده أن اليقين لا يزول بالشك، قواعد
مكونة لعقل المجتهد لا يستطيع أن ينفك عنها ولا يرى الدين إلا من خلالها، فمن أين أتت هذه القواعد من القرآن الكريم؟ والقرآن يبين لنا أن هذه الشريعة هي اليسر وليست هي المشقة، وليست هي الكدر والمعاناة، هي فيما أمرت هي اليسر، ولكن لأن حياة الإنسان متشابكة فقد يظن أن قيامه للفجر للصلاة معاناة، وقد يظن أنَّ وضوءه بالماء البارد حينما يفقد الماء الساخن معاناة، وقد يظن أن
قطعه لنومه معاناة، وقد يكون ذلك صحيحاً. نام متأخراً بعدما شاهد التلفزيون في الهرج والمرج الذي يقدمونه، فقام وهو متعب وقت الفجر، وعنده سخان كهرباء والكهرباء قطعت، فاضطر أن يتوضأ بالمياه الباردة ففي ذلك شيء من المشقة. إنما المشقة التي سينالها الإنسان عند تركه للصلاة والمشقة التي سينالها المجتمع عندما لا تكون فيه صلاة والمصائب التي ستترتب في العلاقات الاجتماعية بين الإنسان وزوجه وولده وجيرانه وأصحاب عمله وجماعة حيه مصيبة سوداء
ومشقة ليست بعدها مشقة في النزاع والخصام والاضطراب والقلق والحيرة المؤدية بحياة البشرية والإنسان والنفس كالطفل. أن تهمله شبَّ على حب الرضاع، وأن تفطمه ينفطم. ولو شبَّ على حب الرضاع لحصلت المشقة والتعب الحقيقي النفسي والجسدي والبكاء. عندما فطمناه عن ثدي أمه هو في مشقة وفي بكاء وفي حرمان، لكنه حرمان لا بد منه حتى تستقيم حياته. فهكذا فعل الله بنا وبيَّن أن هذا النظام الذي ارتضاه لنا هو اليسر وهو الذي
قد خلا من الحرج، ولو أننا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم لأنهم أدركوا أن الله لا يريد لنا إلا المصالح، فما بالك أن الله لم يأمرنا أن نقتل أنفسنا وما بالك أن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا أن نترك أوطاننا، إذاً فهذه الشريعة قد وضعت الأغلال والأسرى الذي كان على أمم سابقة لأنها شريعة تخاطب العالمين إلى يوم الدين، شريعة متسقة مع عصرها، ولذلك ليس فيها حرج ولا عناء ولا بلاء. تخيل لو
أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا، فكّر هكذا، أنت أول ما تصل. لخمسة وخمسين سنة اقتل نفسك، أهذا حكم شرعي هكذا؟ افترض هكذا، افترض أن هناك شيئاً قال هكذا، يعني "ما فعلوه إلا قليل منهم"، هل تنتبه؟ ويقولون بعد ذلك، يقول: لا، خمسة وخمسين سنة من سنين الله التي اليوم فيها بخمسين ألف سنة من سنواتنا، لا، خمسة وخمسين سنة، ماذا يعني ذلك؟ لا ليست خمسًا وخمسين سنة، يعني خمسًا وخمسين سنة، لا هذا غير معقول، هذا لفٌ ودوران. الله لم يفعل بك هكذا، الله لم يقل لك اقتل نفسك، بل على العكس، يقول لك حافظ على نفسك، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، ويجعل الخروج من الأوطان
كبيرة من الكبائر. ومن أخرجك من وطنك أجاز لك قتاله حتى لا تخرج من وطنك، فسبحان الله! أي أنه ليس فقط لم يقل لك اقتل نفسك، بل قال لك لا تقتل نفسك ولا تخرج من ديارك. إذاً هذه رحمة، فكيف نواجه هذه الرحمة؟ ﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً﴾. أشكر ربنا أنه لم يكلفك بما لا تطيق، أشكر ربنا أنه أقامك فيما أقامك لأجل مصلحتك أنت يا ابن آدم. افهم، ولو فهمت ينوِّر الله قلبك وتصبح راضياً عن الله، ولو رضيت ستُسلِّم له
وتقول له: نعم، كل مرة من هذا، فأنت رحيم وأنا أريد من هذا. ويبقى في رضا وحلاوة في القلوب وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته