سورة النساء | حـ 775 | 125 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. #علي_جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة النساء يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا". فهذه آية شرحنا أجزاءها إلا أنها تمثل قاعدة مهمة للاجتماع البشري وكلما تخلت عنها المجتمعات فلم تسلم وجهها لله على مستوى أفرادها ثم على مستوى جماعتها ثم على مستوى علاقاتها مع الآخرين وأنها
لم تسلم ذلك الوجه لله فاتبعت هواها وما رأته في نفسها فإنها لا تكون حسنة السير في هذه الحياة الدنيا ولا تكون هذه المجتمعات مجتمعات ربانية ولا تشعر في النهاية بالسعادة، قد تشعر بالقوة كما كانت الحضارة الرومانية، كما كانت الحضارة الفرعونية، إلا أنها لا تشعر بالسعادة لا في أفرادها ولا في نظمها ولا في أموالها، لا تشعر فيها بالأمن والأمان والاستقرار مع قوة هذه الحضارات، إلا أن الإنسان فيها متألم، أما
إذا أسلم وجهه لله أفراد ذلك المجتمع فإن الإنسان يعيش فيها في أمان وفي سلام وفي ود وفي سكينة وهذا المعنى لا يدركه إلا من جربه ولا يدركه إلا من قرأ عنه والحمد لله رب العالمين كان المسلمون عبر التاريخ كما هو واضح في كتب أدبهم وفي كتب تاريخهم وفي كتب فكرهم وفي كتب فقههم كان واضحا أنهم يعيشون في ود وأنهم يعيشون في رحمة وأنهم يعيشون في سلام مع وجود المعصية ومع وجود النكد والتكدير
في الحياة الدنيا كشأن كل حياة، إلا أن المسلمين لم يبيدوا شعوبا كما أبادت حضارات أخرى الشعوب، ولم يفتحوا محاكم تفتيش كما فتحت حضارات أخرى محاكم تفتيش تفتش عن ضمائر الناس وعن أفكارهم وتعذب أجسادهم في الدنيا قبل الآخرة لم تفعل هذا ولم تفرق بين الأسود والأبيض حتى إنها قد مكنت لعبيدها أن يتولوا الحكم في فترة سميت بالمماليك هو مملوك وعبد ثم لأنه كفء وضعوه في القيادة لم يحدث في تاريخ البشرية
أن مكنت الأنظمة تمنع عبيدها من أن يصيروا حكاما لها إلا عند المسلمين، في مجتمعات تشعر فيها بالإنسان. لم يحدث أبدا في مجتمعات المسلمين التفرقة العنصرية، لم يحدث أبدا في مجتمعات المسلمين أن عرفت الطبقات، عرف الغنى وعرف الفقر وعرفت المجاعات، ولكنه لم يحدث أبدا أن ملك أحدهم الأرض ومن على الأرض كانت الإقطاعيات الكبرى في أوروبا فكان الإقطاعي يملك الأرض ويملك من على الأرض، لم يحدث في تاريخ المسلمين بالرغم من أنه حدث ظلم من الحكام بسبب البشر، لم يحدث
من المسلمين أنهم استحلوا الأعراض وأنهم جعلوا ليلة الزفاف للحاكم كما حدث في حضارات أخرى، لم يحدث عند المسلمين أن دخل الحر تحت اليد حتى صارت القاعدة الفقهية الشهيرة الحر لا يدخل تحت اليد فلم يخطفوا أحدا من البشر ولم يبيعوا أنفسهم عند الدين يعني أدينك تزداد المديونية أشتريك أو أنت من فقرك تبيع أبناءك وحدث هذا وما زال يحدث في حضارات أخرى إذن نحن لا ندعي أن تاريخ المسلمين هو تاريخ مجموعة من الملائكة الكرام، لم يكونوا قط بشرا لهم أخطاؤهم
ولهم معاصيهم، وإنما ننظر إلى هذا التاريخ بإجماله. بعضهم يقول: أين هذه الإحصاءات التي تدل على الأمن والأمان في مجتمعاتكم؟ نعم هناك إحصاءات، ولكن على كل حال بالجملة، هل استعمرنا البلاد وحملنا خيراتها إلى الحجاز وتركناها في حالة لم يحدث ذلك، بل جاء المسلمون ودخلوا البلاد فتزوجوا من أهلها وعاشوا فيها، ودخل الناس بعد ذلك بأجيال كثيرة من غير إكراه ولا إجبار بالسلاح في دين الله أفواجا، سعادة تراها عند المسلمين الذين قدروا الإنسان وأسلموا وجوههم لله واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، وأنهم أحبوا الله سبحانه وتعالى
فآمنوا به الكفر وكفروا به وعمروا الأرض ولم يدمروها لا ندعي أنهم قد خلت أفعالهم من المعصية فهم بشر وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون لم ندعي أبدا نظافة الحكم من كل ظلم فإن الظلم قائم من لدن ابن آدم الذي قتل أخاه وإلى يوم الدين ولكن بالمجمل هل فعلنا هذه الفضائع التي لوثت الحضارات الأخرى وما زالت تلوثها إلى الآن لم تحدث أبدا، وما هذا إلا من أجل هذه الآية الجليلة: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن
واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا"، من أجل هذه الآية التي عاشها المسلمون في واقعهم أفرادا وجماعات، حكاما عبر العصور وفي كل مكان وكان ذلك نهجهم وإلى يومنا هذا فإنهم لم يرتكبوا تلك الفظائع التي نسبت إلى دول كانت في قوة دولتهم وإلى حضارات كانت في قوة حضارة المسلمين فهناك حضارة الفراعنة وهناك حضارة الرومان وهناك حضارات الصين وهناك حضارات الهند وهناك حضارات الإنكا والهنود الحمر ولكن هل من كان سليما كهذه الحضارة وما سبب ذلك وما ضابطه، إن سببه وضابطه
هذه الآية في سورة النساء التي اتخذها المسلمون شعارا لهم وواقعا في حياتهم: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا"، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين ننتمي إلى تاريخ نتبرأ فيه من كل نقص ومعصية ونرفع رؤوسنا بين العالمين لما كان من أجدادنا حين أسلموا وجوههم لله وكانوا محسنين واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا والحمد لله رب العالمين وكانوا في خلة مع الله أحبوا الله حتى تغلغل حبه في كل وجدانهم ذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم وأنشؤوا المساجد فحولوها إلى معابد للعلم
وإلى معابد لصحة الإنسان وإلى معابد للقضاء بين الناس بالعدل وإلى معابد للتكافل الاجتماعي وإلى معابد يعبدون فيها الله سبحانه وتعالى ليس بمحض العبادة والصلاة وإنما بالعلم وبالعمل فآمنوا وعملوا الصالحات وأشهدوا الله سبحانه وتعالى على أنفسهم فكانوا خيرا، ومن أخطأ فقد أخطأ وتاب من تاب ولكن في مجمل الحال كان المسلمون ولا يزالون والحمد لله يحتاجهم البشر حتى يخرجوهم من الظلمات إلى النور هناك خرافة التقدم والتخلف أن المسلمين في تخلف وأن غيرهم في تقدم ومقياس ذلك المادة ومقياس ذلك الكم إلا أن الإنسان الذي أماتوه
أمام الله ثم أماتوه أمام أنفسهم يحتاجون إلى المسلمين من أجل هذه الآية الكريمة أن نسلم وجوهنا لله سبحانه وأن نحسن وأن نميل في حنيفية إبراهيم وأن يتخلل حب الله في كل جزء من أجزاء أجسادنا وقلوبنا وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته