سورة النساء | حـ 841 | 176 | تفسير القرآن الكريم | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه مع كتاب الله وفي سورة النساء وفي آخر آية منها يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وهذه الآية الكريمة أعلت من شأن الإفتاء حتى يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الماتع إعلام الموقعين عن رب العالمين أن الله سبحانه وتعالى قد نسب هذا الفعل لنفسه، ونسبة الفعل لله تدل
على عظمة هذه المهمة وتدل أيضا على أن الأحكام الشرعية إنما مصدرها الله جل جلاله، وأن البشر ليس لهم إلا الفهم والنقل والاستنباط وليس لهم أن ينشئوا الأحكام إنشاءً بإجماع المسلمين سلفا وخلفا شرقا وغربا أن الحاكم هو الله، ولذلك فليس في الإسلام رجل دين يستطيع أن يشرع مع الله أو أن يشرع وفقا للمصلحة أو أن يشرع وفقا لمقاصد الشرع للناس، وإنما هو يقوم بدور
المجتهد، فإن أصاب فله عند الله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. وكل من وصل إلى درجة الاجتهاد فله أن يناقشه فيما ذهب إليه من استنباط وأن يرد بعضهم على بعض من الأئمة المتبعين المجتهدين وكذلك كانوا عبر العصور وكانوا من أجل أنهم من العلماء ومن الأتقياء يحبون بعضهم بعضا ويحترمون بعضهم بعضا وكان هناك أدب عندهم في رد بعضهم على بعض وهكذا نرى الأمر بين أبي حنيفة ومالك وبين مالك والشافعي وبين الشافعي وأحمد وغيرهم من مجتهدي الأمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يقفون عند حدودهم وكلهم
من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر رشفاً من الديم وواقفون لديه عند حدهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم فهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيبا، بارئ الـنسم فكان المجتهدون إنما يصدرون ويردون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عن رب العزة سبحانه وتعالى، فالحاكم على الحقيقة هو الله دون سواه، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا مجتهد من مجتهدي الأمة ولا عالم ولا تقي ولا عارف. ولا ولي إنما الأمر والحكم بيد الله سبحانه وتعالى وحده، ولذلك إن الحكم إلا لله، إن
الحكم إلا لله أسلوب فيه من الحصر والقصر بأن جعل الحكم لله وحده. هذا المعنى لم يختلف فيه المسلمون أبدا. بعض المحدثين من الكتاب والأدباء يقولون إن المعتزلة كانت قد حكمت العقل، وإن الأشاعرة كانوا قد حكموا النقل وهذا كذب على الأشاعرة وكذب على المعتزلة فكلاهما وباتفاق الحاكم عندهم هو الله من غير خلاف بين أحد من المسلمين إن الحكم إلا لله ولكن المعتزلة تقول إن العقل يدرك الحسن الطَّبَعِي والقبح
الطَّبَعِي وأهل السنة يوافقونهم في هذا القدر فالمعتزلة تقول إن كل إنسان يعلم أن الرائحة الكريهة مذمومة وأن الرائحة الطيبة الزكية ممدوحة يعلم أن الصدق ممدوح وأن الكذب مذموم كل العقلاء يعلمون أن الظلم سمي بهذا لأنه فيه ظلمة وأن النور بخلاف الظلمة هكذا يقول المعتزلة وأهل السنة يوافقونهم على هذا القدر من تحسين العقل وتقبيحه للأمور الطَّبَعِية
والأخلاق التي يتفق عليها كل الناس مؤمنهم وكافرهم، ولكن هل هذا الفعل الذي تقوم به أيها البشر يترتب عليه ثواب عند الله؟ فالمعتزلي يقول إن العقل البشري يقدر على أن يحكم على هذه الأفعال التي يأتي بها الإنسان ويقول إنها أفعال يمكن أن يرضى الله عنها أو يغضب الله عليها، ولكن أهل السنة يقولون إن علم ذلك لا يكون إلا من قبل الوحي إلا بإرسال رسول، ويضربون على ذلك مثالا بقضية أسموها شكر المنعم، عندما يقدم أحدهم
لك معروفا فإنك تشكره وهذا أمر محمود، تقول له شكرا، فهل إذا ما قدم لك الملك العظيم حبة قمح، ملك من الملوك غني له سلطة له سلطان على البلاد والعباد ألقى إليك بحبة قمح من خزائنه وخزائن غلاله، فلما أمسكت بالحبة وجدتها في الحقيقة أنها مقسومة قسمين أو ثلاثة فهي ثلث حبة أو أعني ربع حبة، فهل من اللائق
أو المعقول أن تجلس عند قصره وتقول له شكرا يا ملك شكرا يا ملك شكرا يا ملك تمضي فيها الساعات أو أنك بذلك تكون تسخر منه وجهان العقل يعني بين هذا وذاك، والله أنا أشكرك لأنك أنت أنعمت علي بهذه النعمة، لكن هذه النعمة في مقابل ملكه لا شيء، ولذلك فشكرك عليها قد يحمل على أنه شكر يخفي سخرية أو استهزاء أو نحو ذلك، والعياذ بالله تعالى مما يوجب غضب الملك عليك. قالوا
هذا الشأن في كل النعم التي نحن فيها فكل النعم التي أنت فيها لا تساوي شيئا أصلا في ملك الله على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا في صعيد واحد صفا واحدا هكذا وسألوا الله ما أرادوا وأعطاهم الله سبحانه وتعالى كل ما يريدون، أتقف فتقول له يا رب أعطني عشرة مليارات، وبعد أن تقول له أعطني عشرة مليارات تقول دولار لأن الدولار أغلى قليلا، بدلا من عشرة مليارات يعطيها لك بالجنيه ولا شيء غير كاف، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب، لو كل أحد من الستة مليارات وقف وسأل وأعطاه الله الذي
سأله كله فإنك لا تنقص من ملكه إلا كما ينقص المخيط تضعه في البحر ثم ترفعه لما تأتي بالإبرة وتضعها في البحر وترفعها ماذا أخذت من المياه هكذا مثل هذا هي أخذت شيئا يعني ضئيلاً هو الذي أعطاه لك كله هكذا يجوز إذن أن نقول بالسبحة الحمد لله الحمد لله الحمد لله الحمد لله أم لا يجوز؟ لماذا يجوز؟ لأن سيدنا رسول الله قال لنا إنه يجوز، ولكن لو تركنا ربنا من غير رسل لما كنا نعرف أيجوز أم لا يجوز، فلا بد من إرسال الرسل ولا بد أن الله لا يتركنا عبثا وإنما يوضح لنا الطريق إليه عبادة
وعمارة، ولذلك فقد أوضح لنا الأخلاق وقال سيدنا إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وكان يحب الأخلاق الحسنة وقال أحسن الحسن الخلق الحسن وقال وأن تخالق الناس بخلق حسن يستفتونك قل الله يفتيكم وإلى لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة السلام عليكم