محاضرة : التراث الإسلامي بين التوثيق والفهم | بتاريخ 11-1-1995 | أ.د. علي جمعة

والحقيقة أن موضوع التراث موضوع كبير وضخم ولا يمكن أن نلم به في جلسة أو جلستين أو جلسات، فهو نتائج العقل البشري، نتائج العقل البشري المسلم عبر تلك القرون البعيدة، وفي قانون الآثار المصري يحدد مائة سنة سابقة حتى نعتبر الشيء في عالم الأشياء أثراً، وهو تحديد كان يسبقه أيضاً. تحديد سابق وهو عصر الخديو إسماعيل، وكان عصر الخديو إسماعيل نقطة فارقة
من النقاط الفارقة في تاريخ مصر وفي تاريخ الشرق، تغير فيه كل شيء. وأراد الخديو إسماعيل أن يُخرج مصر من سياقها التاريخي لتصبح قطعة من أوروبا، فجاءها خير كثير من هذا وجاءها شر أكثر، وحدث هذا التغيير وحدث. معه شيء كثير من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي في مصر. غيَّر الخديو إسماعيل نمط حياة الإنسان المصري، غيَّر برنامجه اليومي، غيَّر التقويم، غيَّر الساعة، غيَّر الأزياء، غيَّر
نمط المعيشة. هذه بدايات بدأت مع محمد علي. بدأ محمد علي التعليم الموازي، ترك الأزهر في حاله وأنشأ موازياً له تعليماً سماه. التعليم المدني وأرسل البعثات إلى أوروبا، فحدث بعد ذلك ما أسميناه بازدواجية التعليم. أصبح هناك من يدرس الشرع ومن يطلع على التراث ومن يستطيع أن يتعامل معه، وهناك أيضاً من أصحاب العلوم والفنون من لا يستطيع أن يتعامل مع هذا التراث. وسُمي هذا بالسلفي وهذا بالعصري، وأصبحت هناك معركة ما. كنا نود أن تكون بين الطربوش والعمامة،
وظل هذا في ازدياد إلى عصر الخديوي إسماعيل. كانت ساعتنا ساعة غروبية تتناسق مع العبادة. الساعة الثانية عشرة نضبط الساعة مع أذان المغرب فنعرف مضي الساعة الأولى من الليل، الساعة الثانية من الليل، الساعة الثالثة من الليل. فعندما نقرأ حديث البخاري أن مَنْ... ذهب إلى صلاة الجمعة في الساعة الأولى فله كذا وفي الساعة الثانية فله كذا، يفهمه الناس لأنهم يعرفون ما هي الساعة الأولى وما هي الساعة الثانية. اختلف الحال وأصبحت الساعة الثانية عشرة هي وسط النهار، والنهار أصلاً ليس أربعاً وعشرين ساعة،
بل يختلف باختلاف الأيام في السنة، أربعة وعشرين. الساعة السابعة عشرة دقيقة، أو الساعة الرابعة والعشرين إلا سبع عشرة دقيقة، وفي هذه الأربع والثلاثين دقيقة يختلف أذان الظهر عندنا الآن. فنجده مرة يؤذن في الحادية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة، ومرة في الثانية عشرة وسبع دقائق، لأن هذه المساحة هي التي يختلف فيها اليوم. واقعياً كان المسلمون يكيفون أنفسهم وتجعل هذه الشعائر التي يطبقونها تنطبق تماماً مع البرنامج اليومي الذي يعيشونه. لم يكن هناك أي تنافر ولا اضطراب ولا ضيق ولا فوات للصلاة. كانوا ينامون بعد العشاء ويستيقظون قبل الفجر. كانوا يدركون ما معنى
الثلث الأخير من الليل الذي يستجيب الله فيه الدعاء. كان هناك تفاعل حقيقي مع هذا دخلت الأوبرا واضطروا إلى أن يخلعوا سراويلهم المغربية التي كانت أقرب إلى مسألة ستر العورة في الصلاة ويلبسوا الأزياء الإفرنجية والياقات البيضاء المنشاة التي لو جاء عليها ماء لفسدت، فأصبح من علامات الفسق لبس الجوارب، وأصبح كما كانوا يقولون: "كفر بفلان يا أولاد ولبس الجوارب"، لأن لبسه للجوارب كان دالاً. على أنّه لا يتوضأ وكان دليلاً على أنّه خرج من منظومة ومن نسقٍ معين ودخل في نسقٍ
آخر. ترك الناس الصلاة لأنهم ذهبوا عند المغرب إلى دار الأوبرا، والذين يذهبون إلى الأوبرا كانوا من عِلْيَةِ القوم. سهروا هناك حتى الساعة الثانية ليلاً، فضاع عليهم صلاة المغرب والعشاء، وضاع عليهم الفجر، تعطل سائق السيارة فلم يصلوا هم الآخرون وانتشرت ظاهرة عدم الصلاة بين الناس وشاع ترك الصلاة بالكلية وأصبحوا وكأنهم - ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً وفجأة وبسرعة وبمجرد أنه قد غيّر لهم عاداتهم لأن العبادة عندهم قد صارت عادة،
فسهل عليهم وعلى هذا الجيل من البشر أن يتركوها المدن التي ابتُليت بمثل الأوبرا مثلاً هذا شيءٌ بسيط لا نقف عنده الآن، لكن هذه اللحظة الفارقة، لحظة عصر الخديوي إسماعيل، كانت لحظة يمكن أن نعدّ ما قبلها من التراث حتى يدخل إنتاج الشيخ الباجوري في ذلك. الشيخ الباجوري توفي سنة ألف وثمانمائة وستة وخمسين، وإسماعيل جاء سنة أربعة. وسبعين أربعة وستين فلا بأس أن نعد عصر الخديو إسماعيل كما عدّه قانون الآثار أنه مرحلة ما قبلها يعد من الآثار وكذلك ما قبلها يعد تراثاً.
هذا التراث الذي بدأ مع تدوين العلوم عند المسلمين الأوائل في القرن الأول الهجري أو في أواخر القرن الأول الهجري على التحديد وامتد إلى عصر الشيخ شيخ الإسلام الباجوري شيخ الجامع الأزهر الذي توفي سنة ألف وثمانمائة وستة وخمسين، هذا التراث والنتاج الفكري جعل لنفسه محوراً وهو النص، الكتاب والسنة، النص بما اشتمل عليه من أحكام ومن مقاصد شرعية، تشتمل هذه المقاصد على قيم، وهذه المقاصد والقيم
تعمل في وسط قواعد، وتعمل كل... هذه المنظومة في مجال السنن الكونية الإلهية التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الكون والنفس والمجتمع، جعلوا النص محوراً لحضارتهم، ومحور الحضارة معناه أنهم جعلوه معياراً للتقويم، جعلوه منطلقاً للخدمة، جعلوه مرجعاً يرجعون إليه، ولذلك نجد أنهم قد ولّدوا علوماً كثيرة: علم الفقه، علم الأصول، علم النحو، علم الصرف، علم... الوضع وهكذا علم البلاغة كلها يريدون بها أن يخدموا النص، علم الخط يريدون به
أن يخدموا النص، هذا الخط العجيب الذي يقول عنه ابن مقلة إن كتاب الله قد نزل على نسبة إلهية فاضلة، نسبة عجيبة معجزة، فلا بد أن يُكتب بخط مبني على نسبة إلهية فاضلة، وتفتق ذهن ابن. تركيزه على مسألة المسدس الدائري الذي رسم فيه الألف واستطاع بميزان الألف أن يرسم الحروف كلها، فرُسِمت كل الحروف داخل المسدس داخل الدائرة. يقول أبو حيان: "لقد أوحى الله تسديس الخط لابن مقلة كما
أوحى الله للنحل بتسديس بيوتها"، وليس هناك خط على وجه الأرض وإلى يومنا هذا هناك علاقة. فيها نسبة طبيعية مثل نسبة الدائرة اثنين وعشرين على سبعة داخل الخط. ليس هناك مثل الخط العربي، وما تفتق ذهن المسلمين بذلك إلا لأنهم قد خدموا النص وأرادوا خدمته وجعلوه محوراً واضحاً لحياتهم. الفنون وما حدث فيها من رسم وتشكيلات نباتية وتلاعب بالخطوط الهندسية والأشكال الهندسية، كل هذا والتلاعب بالألوان، إنما يحاولون به أن
يصلوا إلى خدمة شيء معين جعلوه محوراً ينطلقون منه في حياتهم. اقتضى وجود النص مسألة التوثيق، ومسألة التوثيق هي السؤال الأول الذي يطرح نفسه على الإنسان الذي يسعى إلى معرفة الحق: هل الذي بين يدي الآن هو الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا سؤال توثيق المصدر سواء كان هذا هو القرآن أو كان هذا هو السنة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن أجل الإجابة على هذا السؤال وُجد ما يقرب من عشرين علماً تتعلق بعلم الرجال وعلم
الأسانيد وعلوم الجرح والتعديل وعلوم مصطلح الحديث، علوم كثيرة تحاول أن تضبط المسألة. ليس هناك كتاب على وجه الأرض له تلك الأسانيد المتصلة التي يقول كل قارئ للقرآن - والقارئ هنا معناه متحمل القراءة، عالم القراءة -: "لقد سمعت هذا الكلام حرفاً بالتشكيل وعلى هذا الخط الموجود أمامنا من شيخي الذي ولد يوم كذا ومات يوم كذا وكان اسمه كذا وكان يضحك وكذلك كان يبكي في المواقف المذكورة. تاريخ حياته كله موجود في ملف في هذا العلم الذي يقول هذا الشيخ أنه سمع هذا
الكلام عن شيخ آخر وله كل هذه المواصفات. ليس هناك أحد في هذا السند من المجاهيل التي لا نعرفها، فنحن نعرف كل واحد، وهذا النقل ليس عن شخص يمكن أن يكذب شخص واحد، ويمكن أن يخطئ، ويمكن أن يضعف في موقف معين، ليس عن اثنين فقط، بل عن ثلاثة، أربعة، عن ألف، بل قد يكون عن آلاف. ابن الجزري في كتابه "النشر" أورد ما يقرب من ألف طريق للقرآن، وهو كتاب واحد حصر ألف طريق، كان هناك ألف عنهم
ابن الجزري، وهؤلاء الألف قد تلقوا عن ألف من مشايخهم وهكذا. والأمر أعظم من هذا بكثير. قبل الحرب العالمية الثانية أُنشئ في ألمانيا معهد لمقارنة نسخ المصحف. ملّ بعض المستشرقين من افتخار المسلمين بكتابهم وأنه محفوظ عليهم، وأنه وارد إليهم بالأسانيد التي لو قارناها بكتب الديانات الأخرى لوجدنا أن التوراة مثلما يقول ابن حزم لها سندان فقط، آخر شخص في السند بينه وبين سيدنا موسى ألف سنة، وأن الإنجيل نسخته الأصلية لا توجد، إنما
الذي يوجد له ترجمة يونانية. طيب لا بأس من المترجم لا نعرف. مسألة مضحكة ومحزنة ومخزية أن يظل العقل البشري في حيرة من أمره أمام... هذا الوضوح البيّن بين مقارنة ظاهرية سطحية تثبت من كل جهة قبل التعمق أن هذا الدين دين حفظه الله سبحانه وتعالى، ودين الله قد دافع عنه الله وجعله مهيمناً على ما بين يديه من تلك الأديان والكتب. من المترجم لا نعرف ما هي الأسانيد حتى إلى تلك الترجمة، لا نعرف. في السند عندنا
وصل به الحال إلى أن رحل البخاري رضي الله تعالى عنه لطلب الحديث، فذهب إلى شخص للرواية، فوجده ممسكاً بعشب في يده يحاول أن يجذب إليه بهيمته، فرسه أو حماره. فلما جاء الحمار أو الفرس إليه، أمسك به ورمى العشب. فتركه البخاري وسار، قال: "إنك قد كذبت إلى هذا الحد يتم عندنا الرد، هذا شخص غير محترم. وذكر البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا عندما وجد امرأة تريد أن تمسك بصبيها
وابنها، فأعطت له تمرة، ثم لما أمسكت به أرادت أن تحرمه منها، فقال: "لو فعلتِ لكذبتِ". هذا المنهج، منهج توثيق المصدر، أثّر تأثيراً. كبيرًا في عقلية المسلمين وامتدَّ ذلك التوثيق من المصدر إلى كتب الناس، ولذلك هناك علمٌ قد نشأ اسمه علم الأثبات والمسانيد. علم الأثبات السند ينتهي إلى المؤلف وليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحنا إذا ما أردنا أن
نقرأ كتابًا لا بد علينا أولًا أن نتوثق أن هذا الكتاب منسوب نسبة صحيحة إلى مؤلفه بالسند المتصل. أيضاً ألف الشوكاني كتاباً ماتعاً سماه "إتحاف الأكابر بأسانيد الدفاتر" وليست بأسانيد الأحاديث النبوية، هذا أمر آخر في علم الحديث. لكن علم الحديث وعلم القراءات وما حدث فيهما من توثيق أثّر على عقلية المسلم كمسلم وكمنهج، فأصبح طلب التوثيق ضرورياً في كل. حياته فأصبح هناك طلب لقضية
أسانيد الدفاتر، هذا يحفظ الشكل فلا بد علينا أن نحفظ الوسيلة والطريقة التي بها النقل. نرى ذلك عند ابن الصلاح في مقدمته عندما يرشد الطلبة والنساخ إلى كيفية كتابة النصوص ونقلها والتأكد من صحتها بمصطلحات هي أنقى وأبر من مصطلحات المستشرقين وأضبط، ومن ضمن ما ذكر ابن الصلاح أنه ينبغي علي عند القراءة إذا وجدت سقطاً أو خطأً ألا أصلح في أصل النسخة خشية أن يكون
ما أظنه سقطاً أو خطأً ليس كذلك، بل علي أن أصلح في الهامش وأن أشير بعلامة صح فوق الكلمة وأخرج في الهامش وأقول ما أريد سواء كان من لديّ أو كان من نسخة أخرى حتى أدَع للآخرين من بعدي أن ينظروا في هذه النسخة، ولا أقطع عليهم الطريق، ولا أحرف كلام الناس، ولا تصبح لديّ دكتاتورية في العلم بأن ما ذهبت إليه أنا قطعي، وأن ما ذهبت إليه أنا لا بد على الناس جميعًا أن يمتثلوا فيه، وتُثبت على النسخة والسماعات هذه سمعت
هذا الكتاب من الشيخ الفلاني حيث قال لي أنه سمعه من الشيخ الفلاني بتاريخ كذا في المكان الفلاني، فيحدد الشخص والزمان والمكان حتى إذا كان هناك اشتباه في الأسماء بين المشايخ يحدث تمييز، وإذا كان هناك كذب أو زيادة قد حرفها محرف أو... وضعها واضح جداً هذه عند العلماء الذين يعرفون، فلا يمكن أن تقول قرأت عليه سنة خمسة وتسعين وهو قد توفي سنة ثلاثة وتسعين، هذا مرفوض، فهناك خطأ بالتأكيد، وقد كُشِفَ بهذا الأسلوب كثير من أنواع التلاعب، وهذا علم قائم بذاته في الحقيقة، أن تتحول المناهج إلى تلك الملكات هي نفتقدها نحن الآن. نحن
أصبح لدينا معلومات ولم يعد لدينا علم. والفرق بين المعلومات والعلم أن المعلومات مفردة، والعلم نسق مرتبط بعضه مع بعض، له منهج وله استعمال. وهذا هو الفرق بين العالم والمثقف. فالمثقف لديه كثير من المعلومات في مادة معينة، لكنه ليس عالمًا في هذه المادة، بل قد تفوق معلوماته معلومات بعض علماء هذه المادة، لكن لا بد علينا أن نعي المنهج، وأن نعي طرق الاستعمال، وأن نعي الربط بين المعلومات، وأن نعي المعلومات أيضاً حتى نحصل على علم معين. وضعوا ثمانية
طرق من طرق التحمل وتحمل العلم أيضاً، أخذوها من الحديث، بعضها يتعلق بطريقة الأداء، فيمكن أن الشيخ والتلميذ يسمع ويقول قد سمعت هذا، وهذا يكون أضبط لأن الشيخ عندما يقرأ صحيحًا. وقد يكون التلميذ هو الذي يقرأ والشيخ يسمع، وهذه أقل في الضبط لأن الشيخ قد يعزب ذهنه ويسرح، والقارئ قد يخطئ ولا ينتبه الشيخ، أو يغفل أو
يشرد، فهي أقل دقة لكنها قوية أيضًا في التدرج إلى ما يسميه العلماء بالوجادة، والوجادة هي أن يجد كتاباً فيقرأه، وهو ما نفعله جميعاً الآن من غير قراءة على عالم يستطيع أن يصحح وأن ينقل وأن ينقل الملكات والمناهج، بل هذه المعلومات. على كل حال، حضارة المسلمين لم تمت، حضارة المسلمين نامت فقط، والنائم يستيقظ والله سبحانه يبعث من في القبور، على أن هذه النائمة استمرت
عند المسلمين بعد دخول المطبعة. الأميرية التي أنشأها محمد علي سنة ألف وثمانمائة وواحد وعشرين، كانت تطبع كتباً للجهادية والدفاع وما إلى ذلك، والفنون والصنائع والزراعة والطب، ثم بعد ذلك بدأت في طباعة المصحف بعد اثنين وثلاثين عاماً لأن المشايخ. حرَّموا طباعة المصحف ابتداءً بأمرين: أمر موضوعي وأمر شكلي. الأمر الموضوعي أنه سيكون فيه أخطاء فادحة، وأنه لا بد علينا أن نكتبه بأيدينا حتى نتأكد من عدم وجود الأخطاء. والأمر الشكلي أنهم قد سمعوا أن الأسطوانة التي يدور
عليها ورق الطباعة مصنوعة من جلد الخنزير، فلا ينبغي أن تدنس الصفحات. المصحف بجلد الخنزير فتأخر طباعة المصحف، ثم بعد ذلك أصدر محمد علي باشا قراراً بأنه سيطبع المصحف ولو كان حراماً. لننتهِ إذاً من هذه القضية. وكانت هذه خطوة أيضاً وعلامة فارقة في التخلص من ارتباط الأحكام الشرعية بالسياسة. طبع المصحف، طبع مائتي نسخة منه في أول الأمر واصطلح فيه أيضاً. أخطاء فاحشة فصححها، وقد تكلف التصحيح ثلاثة عشر جنيهاً ذهباً لأجل تصحيح المصحف المطبوع. وبعد ذلك
بدأت دار الطباعة الأميرية بعد ثلاثين أو أربعين سنة في إنتاج أوائل منتجاتها الأدبية، فقام علماء المطبعة الأميرية من المصححين المطبعيين - وكانوا من كبار العلماء - الشيخ قطة العدوي والشيخ نصر الهوريني الشيخ الهوريني له ديباجة على القاموس المحيط والقابوس الوسيط فيما ذهب من لغة العرب شماطيط فألَّف الديباجة، والديباجة لا يؤلفها إلا من هو أعلى من الفيروزآبادي الذي جعل الأمر شماطيط لكن هذا يبين لك من المصحح، وليس المصحح المطبعي الآن لا يدري
عن نفسه شيئًا، وهي مهنة من... لا مهنة له، لا بل كان من كبار العلماء ويتكلم بالتشكيل وبالفَصْل وبغير ذلك إلى آخره. لقد ترى اهتماماً كبيراً في قضايا التوثيق والنقل حتى أصبحت الطبعة الأميرية من أي كتاب وإلى يومنا هذا هي العمدة والمعتمدة. الشيخ قطة العدوي كذلك حسن بك حسني كذلك أحمد باشا زكي. شيخ العروبة كذلك أحمد باشا تيمور أيضاً، وبدأ أحمد باشا تيمور فيما نُطلق عليه الآن بتكشيف التراث في التذكرة التيمورية وفي الموسوعة التيمورية، فقد كان يقرأ ويأخذ الفوائد والشوارد والقواعد وغيرها ويضعها في
نظام خاص طُبع حتى بعد وفاته لأنه كان يفتح الملفات ولا يغلقها لأنها دائماً يُلقي فيها. الدرر التي يلتقطها من بحار التراث في اتجاهه الأدبي اللغوي إلى أن ألف أكثر من ثلاثين كتاباً على هذا النحو، وأغلبها قد طُبع بعد وفاته لأنها لم تكتمل حتى في حياته، إذ إنها مستمرة، وإنما هي ملفات فهرسة قام بها كثير من علماء الأمة ممن عرفناهم وممن لم نعرفهم يا المجهولين بالحفظ على قضية التوثيق أثناء الانتقال من المخطوط إلى المطبوع، وأول
من كتب في العلم المستقل وهو علم نقد النصوص ومحاولة نشرها نشراً علمياً هو برجستراسر، حيث كتب كتابه بالعربية، وكان عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي كان يلقيها على طلبته في جامعة القاهرة. بعد ذلك كتب من العرب الله وترجم شيئًا ما الدكتور أحمد شلبي، ثم تتابعت بعد ذلك الكتب التي تتحدث عن كيفية نشر التراث نشرًا محققًا مخدومًا له فهارس وله مقدمة، وكيف نقارن بين النسخ، وكيف نخرج نسخة معتمدة، وما هي شروط تلك النسخ، واستفيد في هذا المجال بكثير مما توصل
إليه الإنسان في الشرق والغرب. واختلفت المصطلحات ولكن المقصود هو الوصول إلى المضمون والمعنى، وهو أن نحافظ على التراث وأن نوثقه. هذه إطلالة سريعة على قضية توثيق التراث قديماً وحديثاً. إلا أن هذا التراث الذي بين أيدينا في الحقيقة لا بد لنا أن نفهمه، وكثير من الناس يرفضون التراث رفضاً تاماً، وهذا الرفض رفض وجداني. فقط لأنه لم يفهم التراث أصلاً حتى يرفض ما فيه، وكثير من الناس يقبلون التراث قبولاً تاماً، وهذا أيضاً قبول وجداني لأنه لم يفهم ما فيه، لم يفهم
ما الذي قبِله. هذا هو خير من الأول لأنه ينتمي إلى آبائه الصالحين وإلى سلفه الأماجد، لكن ليس هكذا يا سعد تورد. الإبل لا بد علينا أن نفهم التراث، والتراث مكتوب بشفرة. هذه الشفرة نريد أن نلقي شيئاً من الضوء عليها. أول هذه الشفرة هو التصور الكلي للكون والوجود والعدم، وهذا مفقود عند جماهير المسلمين من العلماء المشتغلين بالتراث. تنبه إلى هذا وإلى شيء منه الشيخ طنطاوي جوهري
رحمه الله، فألف كتابه. الماتع بهجة العلوم محاولاً أن يُلقي ضوءاً على تلك التصورات الكلية التي كانت في أذهان السلف الصالح. هذه التصورات نجدها في مقدمات علم الكلام، ونجدها في علم لم يعد يُدرَّس اسمه الحكمة العالية وموضوعه الوجود والعدم. نجد مثل هذه التصورات عند التأمل والتدبر في عباراتهم، ونجدها في المنطق السوري العربي. وهكذا نجدها مشتتة، وألّف عبد القادر بن بدران
كتاباً سماه "المدخل" يحاول فيه أن يلقي الضوء على جانب آخر من هذه الشفرة التي كُتب بها التراث. اهتم الأتراك كثيراً بمثل ذلك حتى يفهموا؛ فالدولة العثمانية وهي ناطقة بالتركية أرادت أن تفهم، فكان العلماء يريدون أن يفهموا ويُفهِموا بعمق. حتى يساهموا في ذلك فكانت مؤلفاتهم تشتمل على كثير من حل تلك الشفرة، فالعنصر الأول من هذه العناصر هو التصور الكلي للوجود، كانوا يتصورون أن الوجود ينقسم إلى ما هو له حيز وما ليس له حيز، ما له حيز يسمونه الجوهر،
وما ليس له حيز يسمونه العرض، هذه القضية نجدها في النحو نجدها أنها سيطرت على الصرف وعلى البلاغة وعلى المنطق وعلى الفقه وعلى الأصول وعلى كل الكتب الموجودة تحت أيدينا مسألة الجوهر والعرض، ولا بد أن نفهمها بتوسع وأن نفهمها بدقة، فأين نفهمها؟ لا بد علينا أن نقرأ المقولات. ما المقولات؟ هذه علم، ألّف فيه الشيخ الباجوري وكان... يدرس في الأزهر وهو غير علم المنطق وغير الحكمة العالية وغير كذا وكذا، ولكن كيف يخرج الإنسان ليتعامل مع التراث بدقة وبفهم عميق دون أن يدرك الشفرة التي كُتب بها التراث؟ وهنا نجدهم
وقد أرادوا للعلم أن ينتقل، وأن ينتقل بدقة وبسهولة وباتساع، يلجأون إلى النص وإلى الأغاني، إلى الأغاني. التي كان يغني بها الأطفال حتى في التجويد تسمى المنظومة تحفة الأطفال، فبدأ ما كان يدندن بأغاني قدر أحمق. خطاب كان يغني بزيد الطويل الأزرق بن مالكي في بيته بالأمس. كان متكئاً بيده غصن لواه فالتوى، فهذه عشر مقولات سوى، وهذه قد جمعت الجوهر والعرب على رأي الحكماء حتى إذا. ما نسي شيئاً معيناً يعيد الشيء. زيد هو الجوهر الطويل، الكمّ الأزرق،
الكيف بن مالك. النسبة في بيته، المكان بالأمس، الزمان كان معك. الوضع بيده، الملك غصن لواه الفعل فالتوى الانفعال. فهذه عشر معرفة عندهم تصور للإدراك لقضية الإدراك. يقول العلم تصور وتصديق، والتصور هذا إدراك يعني حصول صورة الشيء الذهن وهذا الإدراك إما أن يكون على سبيل اليقين وإما أن يكون ليس كذلك، ليس يقيناً. والذي ليس يقيناً إما أن يكون راجحاً فيسمى ظناً، أو مساوياً
فيسمى شكاً، أو مرجوحاً فيسمى وهماً. أما اليقين فقد يكون منه ما هو مطابق للواقع وما هو مخالف للواقع، والمطابق للواقع قد يكون. ثابتاً عن دليل أو ليس ثابتاً عن دليل، والثابت عن دليل هو العلم، والذي ليس ثابتاً عن دليل هو التقليد. وذلك اليقين المطلق هو اعتقاد، سواء طابق الواقع فيكون صحيحاً، أو لم يطابق فيكون فاسداً. هناك خريطة لقضية المعرفة، لقضية الإدراك عندهم، هذه صفحة من صفحات الشفرة، تقسيم الوجود، تقسيم. العلم تقسيم كذا وكذا صفحات كثيرة مثل هذا لا يتسع الوقت لعرضها، لكن هذه الخرائط هي مكونات تلك الشفرة التي
لا يمكنني أن أدرك ما يقولون. بل إن كلامهم يصبح غاية في السخافة والسماجة وقلة العقل والدين إذا لم ندرك تلك الشفرة، فإن أدركناها وجدنا أنفسنا أمام... علماء في غاية الإبهار ونحن نكون في غاية الانبهار لأنه مجهود قرون وليس قرناً واحداً أو قرنين، وليس عالماً واحداً أو عالمين. هذه أمم مرت على قرون متطاولة وخدمت النص الشريف، ومن هنا تحدث أزمة في الأمة لأن الذي لم يدرس هذا وقرأ وضحك واستهزأ وتركه وراء ظهره يفعل ذلك. عن يقينٍ وبكل كِبْرٍ وخُيَلاء،
والذي درس ذلك وعرفه يتمسك به إلى أن يضحي بنفسه وحياته في سبيله، لأنه يعلم أن هذا هو الحق وهذا هو العلم وهذا هو الاحترام وهذا هو كذا، فتزداد الفجوة ما بين العمامة والطربوش كما كان يعبر يحيى حقي رحمه الله. هنا ينبغي علينا إذا... ما أردنا أن نفهم التراث أن نفهم شفرته في التصورات الكلية عن الوجود والمعرفة مثلاً، لأنها صفحات يتكلمون فيها عما يُسمى بالمبادئ العشرة، يجعلون هناك مقدمة للعلم. هذه المقدمة
لا بد علينا أن ندرسها دراسة جيدة حتى نفهم ما هو ذلك العلم. من رام فناً فليقدم أولاً علماً بحده وموضوعه. تلى وواضع ونسبة وما استمد منه وفضله وحكم معتمد واسم وما أفاد والمسائل فتلك عشر للمنى وسائل وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعاً انتصر يغني بها الطلاب الصغار في أروقة الأزهر وما حوله من حواري وطرقات يسيرون يترنمون بهذا ويعدونه من ذكر الله كيف أتشوق لعلم دون أن
أعلم ما هو ذلك العلم، ما هو حدُّه، ما اسمه، ما موضوعه، من الذي دوَّنه، ما هي المسائل التي فيه، الجمل المفيدة إلى آخره، نصٌّ من الشفرة، النظريات الحاكمة. هناك نظريات حاكمة لكل علم من العلوم كانت قائمة في أذهانهم، إن علَّمناها للطلاب ودخلنا إليهم بها فإنهم يفهمون سريعًا. ويقبلون ويرفضون ويضيفون ويناقشون لأنهم قد فهموا القضية، فهموا الشفرة، فهموا اللعبة بلغة السياسة، لأن معناه أستاذ السياسة. لكن لو لم يفهموا النظريات الحاكمة أصبحت جزئيات تحول العلم إلى معلومات. فإذا
امتحناهم في الاختبار الشفهي وقلنا لهم شيئاً، يجلس يبكي ويقول: أنا لم أفعل شيئاً، لا أعرف مرة المقررة مرة. المقررة. طيب، إذا، مثال لهذه النظريات الحاكمة. وأرجو من سعادة الرئيس أن ينبهني إذا ما تجاوزت حدي. وفي النحو مثلاً، وهو من أصعب العلوم على قلوب كثير من الدارسين، إلا أنه من ألذها وأحلاها عند العارفين. ولقد مررت أنا شخصياً في فترة من
فترات حياتي إلا أنني كنت... أبكي عندما أقرأ في ابن عقيل في حين أنني لم أكن أبكي تماماً عندما أقرأ القرآن وذلك أنني في هذه المرحلة كنت أفهم ابن عقيل أكثر لأنني فهمت ما الذي يريده. فمن النظريات الحاكمة لعلم النحو مثلاً نظرية المحل، هي تخيُّل أن هناك مستطيلاً بجواره مستطيل آخر وأن هذا المستطيل كالرف نستطيع أن نضع فيه شيئاً مثل الكوة أو الرف، موضع نستطيع أن نضع فيه شيئاً. هناك نظرية أخرى
في النحو هي نظرية العمل، أن بعض المواد التي نضعها في هذه المواضع مشعة تؤثر في غيرها، تلقي الضوء على غيرها فتؤثر فيه، كأنها أشعة هكذا خرجت منها وذهبت لتؤثر في يشغل المحل الآخر هناك نظرية يمكن أن نسميها بنظرية النسبة وهي العلاقة بين هذا المحل وذاك المحل. هناك نظرية أخرى يمكن أن نسميها بنظرية التعلق وهي نوع من أنواع الارتباط العضوي بين شيء وبين آخر. بعد ذلك، بعد هذه النظريات، ولو شرحت تلك النظريات الحاكمة في علم النحو مثلاً لرأينا. الطالب يفهم كثيراً قضايا
الجمل التي لها محل من الإعراب والجمل التي ليس لها محل من الإعراب، وكذلك لأنه يقول: "أنا سأُزيل هذا وسأضع مكانها جملة"، وهذا الحرف عامل، وهذه في عمل معنوي، وهذا عمل ليس بمعنوي، وهكذا. وتُحل كثير من شفرة وصعوبة الشيء الذي أمامي بعد تفهيم الطالب. المعرفة تعني هذه النظريات، فإننا نجده يناقش ويقول: "لا، أنا سأختار كلام البصريين هو المعقول"، ثم يفكر بعد ذلك ويقول: "ولكن أيضاً الكوفيين لهم حق، فما هي حجتهم؟ لديهم حجة كذا وكذا، لكن أنا مع البصريين أكثر، واضحة عندي أنهم البصريون"، وهكذا يكون إماماً في النقاء ويضيف لو أراد. شيئاً جديداً للفعل، لكنه يفعل عن علم لا عن جهل وتخبط واستغفال،
من الشفرة التي يفهم بها التراث، ومن مكوناتها قضية المصطلحات، سواء كانت هذه المصطلحات عبارة عن أشخاص أو ألفاظ أو تعريفات أو جمل. فرقٌ بين "تأمل" و"فتأمل" و"فلتتأمل"، وقالوا إن "تأمل" إذا وردت بعد كلام فهذا الكلام فيه يكون فيه دقة وتفصيل، أما "فليتأمل" ففيه دقة وتفصيل زائدة. والتزموا
بذلك فهماً وكتابةً، فرقوا بين قولهم "وبالجملة" و"في الجملة"، فقالوا إن هذه تتعلق بالكليات وهذه تتعلق بالجزئيات، والتزموا بهذا كتابةً وفهماً. فرقوا مثلاً بين "والحاصل كذا" و"والمحصل كذا"، فإذا كان هناك كلام قليل يريد أن يشرحه قال: "والحاصل" ويبدأ. الشرح أو كان كلاماً كثيراً يريد أن يختصره يقول "والمحصَّل" ويلخص، فهذه عكس
هذه. وكان أي طالب علم يخلط في هذه الأشياء لا يُقبل؛ لأنه قد خرج عن المنهج العلمي. إذاً، فهذا نفهم منه ونستنبط أنهم كانوا يتعاملون بمناهج يمكن أن نتأملها وأن نصيغها. القاضي قال، القاضي قال، الإمام قال. الشيخ: فهذه تختلف باختلاف العلوم، يقصدون في التفسير القاضي البيضاوي، لكنهم في علم الكلام يقصدون الباقلاني، لكنهم في الشافعية يقصدون القاضي حسين، وهكذا. الإمام: يقول إذا ذُكر الإمام في الأصول فهو الرازي، على أنه إن ذُكر في الفقه فهو
الجويني إمام الحرمين، ولم يخالف في ذلك إلا ابن الحاجب. فإنه أطلق الإمام في مختصر الأصول على الجويني فقط، فيجب أن ينبهوا أنه حصل هنا اختلاف، لأنه لو لم ينبهوا هكذا لكنا سنحمله على الرازي. وماذا يضيرني في ذلك يعني؟ ما يهم أن يكون رازياً أو جوينياً؟ فتوثيق المصدر أصبح ملكة عندهم في توثيق المصدر حتى لا يقول من شاء. ما شاء الله في دين الله لا بد علينا أن نكون موثقين وواضحين في هذا المجال من عناصر الشفرة والقواعد والضوابط، وهذه أيضاً من الأمور المفتاحية التي تفتح لنا كثيراً من الفهم في التراث.
القواعد والضوابط، فالقاعدة والضابط هو أمر كلي يشتمل على أحكام جزئياته غالباً، وهذه القواعد والضوابط مهمة تشكل العقل المسلم، فمثلاً في علم الفقه، قواعد علم الفقه وضوابطه مردودة إلى خمسة، خمس القواعد المحررة المذهبية للشافعي التي بها تكون البصيرة: الضرر يُزال، والعادة قد حُكِّمت، وكذا المشقة تجلب التيسير، والشك لا يُرفع به متيقن، وخلوص النية إن أردت أجوره. هذه القواعد: الضرر يُزال، العادة محكمة، الأمور بمقاصدها... نسيت الاثنين الآخرين، نأتي مرة أخرى باليقين الذي لا يزال بالشك، وهكذا نأتي بهم دائماً.
فهذه القواعد تفرعت منها قواعد أخرى إلى أن وصلت إلى المائتين، وتفرعت من المائتين قواعد إلى أن أصبحت أكثر من ألف قاعدة وضابط وما إلى ذلك، تضبط الفقه كله وتضبط الفتوى وتكوّن العقلية، وهنا الأهم هي أنها تساعد في الفهم من ضمن الشفرة. هذه لها عناصر كثيرة، مهمتنا أن نلقي الضوء الآن على أنه لا بد علينا أن نفك هذه الشفرة. من ضمن هذه الشفرة ما يسمى بالنحت الخطي، وجدنا في المخطوطات واحاً ويكتب حاءً هكذا، فإنه كذا وكذا ما هذه الحاء؟ وماذا بعد؟ في النهاية قال وحينئذ من كثرة
الكتابة اختصروا كلمة "حينئذ" في "الحائب" وهكذا قال: "سم سم". ماذا؟ فسألنا بعضنا: "ماذا تقصد بـ'سم' يا مولانا؟" فقال: "هذا عالم من العلماء". طيب، هل كان اسمه 'سم'؟ لا، اسمه ابن القاسم العبادي ورمز له بحرف السين والميم. ومن ضمن أدب السلف الصالح في أتينا إليها فنطقناها بالنطق الأول فنقول: قال ابن القاسم، قال زيد، لا، قال زيادي، قال حج، لا، قال ابن حجر، وهكذا. أتعجب من شخص يمسك الكتاب وهو لا يدري من أين جاءت الأقوال، ولا من الذي قالها، ولا مَن هذا، ولا حتى طيب، قلها اسم، طيب، فقط يعرف. مَن هو السم الذي
لا بدّ علينا أن نتجرعه في هذه القضية؟ إننا نستطيع بفهم التراث أن نلحظ مناهج كثيرة قد توصّل إليها السلف واستقرت عندهم، ولا بدّ علينا من أن نتابعها، ومن أن ننميها، ومن أن نضيف إليها ما يوافق عصرنا لتحقيق مقاصدهم وغاياتهم، وأن نضيف إليها. مناهج أخرى نستطيع بتلك المناهج أن نصف الواقع وأن نتعامل معه وأن نهيئه لنزول النص عليه وأن تصبح عندنا ملكات حتى في التعليم لإدراك ذلك النص وكيفية تحويله إلى إجراءات قابلة للتطبيق في الواقع وهذا
هو تطبيق الشريعة في معناه الصحيح فنلحظ من مناهج السلف ربط العلم بالعمل لم يكن عندهم العلم مجرداً، بل كان العلم مرتبطاً ارتباطاً عضوياً وأساسياً وكجزء من العلم بالعمل، ربط المنظومات الناتجة من الذهن المفكر بالرؤية الكلية بالعقيدة. هناك انبثاق دائماً، ولذلك تجدهم في اتجاه واحد ويتطورون دائماً إلى الأحسن، ونجد عندهم منهج ربط النقل بالصياغة اللغوية والمنطقية، وهذه
تدخلنا في فلسفة اللغة وفي علم. السيمانتيك: نريد أن ننشئ ونصور نظريات تكون متسقة وتهيئنا، وقد فعلنا هذا. ففي مجال الفقه، قام علماء الشريعة وعلماء الحقوق في جامعات الدول الإسلامية كلها بمجهود كبير جداً في استخراج النظريات في الفقه الإسلامي: نظرية العقد، نظرية الحق، نظرية النيابة، نظرية كذا... وكثرت مثل هذه المجهودات. نريد أن... ننتقل إلى مجهود آخر وهو صناعة النظم، لأن النظم لم يُكتب فيها حتى الآن الكتابة التي كُتبت في الأحكام المفصلة
أو المفردة وفي النظريات المجمعة. نستطيع بذلك أن نطور تدريس العلوم المنقولة بشكلها وبحالها تطويراً يجعل الطالب أكثر فهماً للتراث وأسرع في أقصر وقت. ونريد أيضاً أن نطور المادة نفسها. المدروسة وهذه مرحلة أشد صعوبة وتحتاج إلى مجهود أكبر حتى لا نخطئ ولا نرفض إنما نبني ولا نهدم، ونريد أيضاً أن نُعلِم المشتغلين بالعلوم الاجتماعية
والإنسانية. أما النقطة الثالثة وهي نقطة حجية الطراز فإنني أرجعها إلى محاضرة مستقلة بذاتها. الموقف الصحيح من مخطوط هذا حاله ويرى لتحقيقه مخطوط لم يُعلم. مؤلفه ومخطوط منسوب لأحد العلماء وليس لفهارس أعماله ومخطوط به نقص في أوله أو وسطه أو آخره وشكراً. لا بد أن نعلم عن طبيعة المحاضرة العامة ومن مناهج السلف الصالح
أن عقليتهم كانت عقلية فارقة تفرق بين الشيء وسببه وبين الشيء وثمرته وبين الشيء وجزئه وبين الشيء وغيره وهكذا والعقلية. الفارقة هي التي تمكننا من التقويم والفهم الصحيح أيضاً، وهذا جزء من الشفرة. هذه المحاضرة تتحدث عن ولا تتحدث في، وهناك فارق كبير بين الكلام عن الشيء وبين الكلام في الشيء. فلا نستطيع في ساعة أن نذكر وأن نتحدث في تدوين التراث وفي فهم التراث وفي
حجية التراث، إنما نحن نتكلم عن ذلك فيكفي لنا وضع الإطار. هذا سؤال فني نستطيع أن نجيب عنه بتدريس ذلك العلم الذي يبين لنا كيف نتعامل مع هذا الشيء. هكذا انتقلنا خطوة أخرى إلى التطبيق الفعلي، والمحاضرة ليس من شأنها ذلك. هذا الكلام أيضًا يرد على الأستاذ عبد الرحمن فراج، إنما أنه لم يفهم. كيف يُفهم التراث من هذه المحاضرة؟ وهذا أمر طبيعي، فلا يمكن أن تفهم الآن وتقوم من هذه المحاضرة وقد فهمت التراث. تعلم من هذه المحاضرة أن للتراث شفرة ينبغي أن تُدرك،
ثم تجلس سنةً أو سنتين أو عشرة أو عشرين طبقاً لما تريد ولهدفك، ماذا تريد أن تكون؟ إن كنت من علماء التراث، لا بد لك أن تمكث عشرين سنة ولا بد لك أن تقع فيما يقول الدكتور حسان في أنه يرى أن التراث عقبة كؤود بهذا المعنى نعم، هو عقبة كؤود بهذا المعنى لأنك تتعامل معه من منطلق أنك تريد أن تكون مجتهداً. الدكتور حسان طبيب تخرج في الطب. القاهرة، وكان ممتازًا في تحصيل الطب، ويعمل بالطب إلى الآن. درس عليَّ أربع سنوات بعد الفجر. يأتيني فنصلي الفجر، ونقرأ فقرأ عليَّ أصول
الفقه، وقرأ عليَّ المنطق، وقرأ عليَّ النحو، وقرأ عليَّ علم الكلام. والآن هو مجتهد. سألته ماذا تريد يا دكتور حساب؟ قال: أريد أن أكون مجتهدًا. قلت له: ونعم الوكيل هكذا مباشرة أيها الطبيب تصبح مجتهداً، فهو يتعامل مع هذا المستوى، هو يريد أن يكون مجتهداً بعدما تعلم وعرف ودخل كلية الشريعة واجتاز المرحلة الأولى بشبه امتياز، فإنه علم أن الاجتهاد بعيد. هو يقول هذا، شعر أن الاجتهاد بعيد، جلس في المحاضرة وهو يريد أن يسمع جديداً. فكأنه لم يسمع لأنه قد سمع هذا مني
خلال سنوات عشر قضيناها سوياً، فقال: "أننا هل نريد فهم التراث كله؟ يعني نحن هكذا نريد أن نفهم التراث كله؟ نعم، عقب صحيح، ولا بد علينا أن نحترق وأن نقرأ عشر ساعات يومياً لمدة عشرين أو ثلاثين سنة، وهذا لا بأس به". علم وهذا تخصص، أما الذي تدعو إليه فهو التدين وهذا مباح لعموم المسلمين. وقال تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" و"لولا نفر من كل فرقة منهم طائفة". لم يقل كل الناس، فلا بد من أن هناك من سيحترق بالتراب، ولا بد من أن هناك من سيأخذ. الثمرة جاهزة الأخرى شيخنا الفاضل، جزاك الله خيراً. إنني طالب في إحدى كليات الشريعة بالأزهر، ولم
أجد كتاباً من كتب التراث العظيمة مقررة في الأزهر، بل هي مجموعة من - أي كما يقول - المذكرات التي بها أخطاء، أو وجدت فيها ألفاظ أو ما شابه. هذه داهية ومصيبة بدأت في وكان الغرض منها دفع الأساتذة للكتابة ولصياغة التراث بشفرة جديدة مقبولة ترفع عبء الشفرة القديمة التي قد تكون عائقاً في فهم التراث. وكان الشيخ محمد المدني عميد كلية الشريعة قد وضع أنه لا يترقى إلى أستاذ مساعد ثم إلى أستاذ إلا من قدم إنتاجاً علمياً، فشاعت الكتابات وانتشرت ثم. بعد ذلك ومع تطور وتدهور الزمان حدث ما
حدث وشاعت الفوضى في هذه الكتابات. هناك اتجاه يتبناه فضيلة الإمام الأكبر بعودة الكتب التراثية مرة أخرى إلى الجامعة، وصدر منذ سنتين أو ثلاثة قرار لرئيس الجامعة بأن لا يقل ما يدرسه المدرس من كتب التراث عن خمسين في المائة من التدريس، إلى مزيد من الجهد لجدية التنفيذ ونحن في كلية الدراسات قد اجتمعنا اليوم من أجل هذا وقررنا في مجلس الكلية أن نلغي جميع المذكرات وأن نرجع إلى كتب التراث. السؤال لا أحد طلب العلم الذي كثيراً ما شُغل بالغموض
في كتب التراث أو شيء من هذا القبيل وهو في أشد. الحاجة لمن يفتح له آفاقاً جديدة لكيفية التواصل مع مناهج السلف الصالح، وهذا يبدو أنه مرتبط أيضاً بالتدريب على الشفرة، يعني تكون هذه المحاضرة كلاماً عن ذلك، ثم لا بد علينا أن ننتقل في خطوة أخرى في الكلام فيه، ونقترح أن نصنع هذا في رمضان القادم إن شاء الله في دورة تدريبية يقوم بها المعهد لمحاولة إلقاء الضوء على تلك الشفرة، ويكون من مدرسي هذه الدورة الدكتور حسان، فإنه لا بد عليه أن يرد الدين الذي في عنقه من ناحية، ولا بد عليه
أن يساهم في هذا من ناحية أخرى. أنا لي عندك كم ساعة، طيب، فهناك إلى أي مدى استخدام التقنيات الحديثة في تيسير التراث وبخاصة الحاسوب، هناك مجهودات كبيرة كما أشار الأستاذ عادل عبد الجواد في هذا الشأن، ويكتنفها بعض ما قد ذكره فعلاً من عدم الدقة، ولكن هذه وسائل ولا بد علينا أن نتدرب عليها، وأنا منذ عشر سنوات وأنا أشرف على إدخال الكتب السبعة في الحاسوب ما عملنا حزمة أو مجموعة من البرامج التي تمكن من التدريب والاسترجاع، وعلى مدى عشر سنوات استطعنا أخيراً أن نفعل شيئاً.
ستة عشر فهرساً للكتب نستطيع بموجبها أن نسترجع أي شيء في أي شيء، وقد جربنا هذه البرامج ونجحت، لكننا لا نعتمد عليها إلا إذا بلغت التقنيات ما بلغ الأمان، ستكون جاهزة للتشغيل بين أيدينا الآن ما يقرب من ستمائة عنوان لكتب تذكر الأحاديث بالأسانيد. انتهينا في عشر سنوات من إدخال سبعة فقط، سبعة عناوين فقط، وهي سبعة قليلة ليست كثيرة، يعني حتى في كَمِّ الأحاديث التي بها. لم ننتهِ بعد من مسند الإمام أحمد، ولم ننتهِ بعد من مصنف "الرزاق" في سنن البيهقي من الكتب المطوّلة، فالأمر يحتاج إلى
زمن طويل. فعلينا أن نبدأ ولا تقل قد ذهب أربابه، فكل من سار على الدرب وصل. هناك سؤال عن معنى محورية النص. محورية النص تعني أن النص هو الدافع للإنسان في عمله، وفي توليد علومه، وفي إنشاء مناهجه، وفي صدور في مسيطر عليه وحوله يريد أن يقوم بالأشياء فيرجع إلى النص، يريد أن يبذل المجهود فيرجع إلى النص، يريد أن ينشئ النظم فيرجع إلى النص. هذا معنى المحورية، أنه منه المنطلق وإليه الرجوع وله الخدمة وحوله السلوك. وتعليقات سريعة
حول ما سمعت من أساتذتنا الدكتور حمد الغفير، هناك من السلف. وهو يقول في قضية تعليم الكبار العبارة المشهورة "مع المحبرة إلى المقبرة"، وكان هناك أحد مشايخنا وهو الشيخ العزاوي، وكان يدرس الفقه الشافعي لأساتذتنا الذين أدركناهم وهم كبار، فحكوا عنه أنه كان يدرس لهم الفقه الشافعي في الأزهر، وفي جيب الجبة (الكاكولا) ما يُسمى بالتغيرة، والتغيرة هي الملزمة يطويها ويضعها من الداخل فتنتفخ الجبة فيظهر فيها شكل الأشياء ويقول لهم: "يا أصلاء يا أبناء، سأدرس لكم الفقه الشافعي وسأذهب إلى مسجد محمد بك أبو الذهب حتى أقرأ
المنطق على الشيخ أبي حسنين، أبي حسنين الذي هو الشيخ مخلوف رحمة الله عليهما". فكان أستاذاً كبيراً يدرس لأكابر الطلاب في الأزهر ثم... يخرج ليدرس على أبي حسنين المنطق. قالوا: "أستاذ محمد مأمون، أريد أن أقول لك أن خبرة تجوالي في العالم قد بينت لي أن الساجد قبل المساجد، وأريد أن أتكلم عن قضية طباعة المصحف. لقد فتحت طباعة المصحف الآفاق للمسلمين، وهذا أيضًا فيه تعليق على الأستاذ عادل لأنه مصحف الملك فؤاد." استدعى الشيخ عبد العزيز الرفاعي من تركيا حتى يكتب له المصحف فغضب
العلماء هنا وقالوا: "أليس لدينا خطاطون؟ فنحن أصل الخط كله". فحُرِمَ الشيخ عبد العزيز الرفاعي من كتابة المصحف، وكتب المصحف الشيخ الحسين خلف الحسين الحداد شيخ المقال، وخطه هو الموجود في مصحف فؤاد إلى الآن وقامت. المطابع الأميرية قامت بطباعته وليس فيه ذرة خطأ، ودخل في معرض ألمانيا وفاز بالجائزة الأولى لأنه لم يوجد كتاب في هذا العصر ليس فيه خطأ بهذا الشكل إلا القرآن المصحف بطبعة الملك فؤاد. مصحف الملك فؤاد عندما بحثنا عن الأصول أو الأمهات الخاصة بالحروف في المطبعة الأميرية وجدناها قد تلفت فُقدت وذهبت فأدخلناها
على الحاسوب وكبّرنا الحرف حتى عاد مرة أخرى، فوجدنا أن هناك سبعمائة شكل للحرف الخاص بمصحف "واپ"، وأصبحنا الآن قادرين عن طريق الحاسوب أن نكتب أي نص بخط مصحف "واپ". الدكتور محمد صيام طبعاً له مجهودات، الدكتور صيام له مجهودات ضخمة في قضية التصنيف الجديد. الذي ينبثق من فلسفتنا ورؤانا ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يتمم له بالخير. على أنني أريد أن أشير بالضبط إلى هذا، أي أن ليس المستشرقين فقط هم الذين قاموا بالفهرسة، فالذي قام بفهرسة الأزهرية هو الشيخ المراغي المصطفى، يعني الذي قام بفهرسة الخديوية التي أنشأ الخديوية التي هي
دار الكتب علي باشا مبارك. لا، في الحقيقة أننا قد أقام الله فينا من يفعل ومن يقوم ومن يدافع ومن ينقل. فإن اهتم المستشرقون هنا أو هناك فلا بأس، أهلاً وسهلاً بهم، ولكننا لا نريد أن تكون مجهوداتهم كالشمس ومجهوداتنا كالقمر، والواقع العكس. الدكتور محمد الشحات فهمت منه أنه يعترض على استعمالنا تراث المعهد يقوم بمشروع يُسمى بمشروع المفاهيم، جمعنا فيه خمسمائة لفظة من الألفاظ التي صارت في ثقافتنا كالتراث والدين والحضارة والثقافة والسياسة والحكومة والحرية والقيم، مثل هذه الألفاظ التي تبدل معناها وأُدخِل فيها
ما ليس منها. شُوهت كلمة العلم مثلاً وأصبحت ترجمة لكلمة "ساينس" ولم تعد هي الإدراك الجازم المطابق. للواقع عن دليل فانتهى الأمر. الفارق بيننا وبين الغرب كبير يسد الحوار بيننا. وقد جلست جماعة علمية كبيرة، وفي نهاية المناقشات يبدو أنهم أقروا استعمال التراث. نحن نعلم أن فيها خلافاً، لكنه ليس مقطوعاً به، بل هناك توجه إلى استعمالها، وأنه لا بأس أن نستعملها الآن. والشيخ محمد زاهد الكوثري قبل أن تشيع هذه الكلمة كان يُعبَّر عنها بالفقه الموروث في كتبه، هكذا يقول: فقه الموروث. كلمة "التراث" طبعاً نشأت بتأثيرات طه حسين عندما أنشأ سلسلة
"تراثنا"، وكانت في البداية تُسمى "من كنوز العرب" وليست "من تراثنا" ولا غير ذلك، ولكنها نشأت بعد ذلك في هيئة الكتاب على يد طه بتأثيرات إغريقية يونانية، لكننا نستطيع أن نستعمل بعض هذه الكلمات إذا ما قد استعدناها مرة أخرى وجعلناها على المفهوم الصحيح. وعلى ذلك، فبعد مئة عام سيصير كلامنا هذا تراثاً، ونحن لم نتكلم في القبول والرد؛ لأنه يمكن أن نرد ويمكن أن نقبل كما ورد في قضية الإسرائيليات. هذا ملخص ما... أردت أن أذكره وشكراً لكم وإلى لقاء قريب إن شاء الله.