هذا ديننا | الذكر ج2 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". أتذكر أن الإمام البخاري بدأ صحيحه بقول النبي صلى الله عليه وسلم. فيما يرويه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
عن رسول الله أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". هذا هو الذي بدأ به البخاري صحيحه، وفيه إشارة إلى أن هذا الدين إذا أردت أن تدخل فيه أحسن نيتك مع الله سبحانه وتعالى، وأن النية لا بد لها من قصد حسن ومن إخلاص لرب العالمين، فإذا فعلت ذلك فُتح لك هذا الدين وفُتحت لك خزائنه وفُتحت لك بركاته. والبخاري أيضاً ختم صحيحه بقول النبي صلى
الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، وكأنه يشير إلى أنك بعد أن دخلت هذا الدين بنيات حسنة وبقصد خالص لله رب العالمين، صليت وصمت وزكيت وحججت ودعوت وقرأت وعمرت الأرض وزكيت النفس وعبدت الله سبحانه وتعالى. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فإن تاج كل هذا هو ذكر الله. لا يزال لسانك
رطباً بذكر الله، فقد ختم البخاري صحيحه بهذا الذي يبين أن الأمر سهل على من سهله الله عليه وأن الإنسان يجب عليه أن يذكر ربه ويجب عليه أيضا أن يستمر وأن يديم لهذا الذكر ويجب عليه أن يعتقد أن الذكر هو العبادة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن يفعلها بالليل والنهار من غير مضي وقت فهي مطلقة كلمتان خفيفتان على اللسان يعني تكليف ليس
كتكليف الصيام وليس كتكليف الحج وليس كتكليف الوضوء وليس كتكليف الصلاة، كل هذه الأشياء تحتاج إلى عمل بدني، ولكن هذه لا تحتاج إلى عمل بدني، لا يكلّ اللسان ولا يتعب ولا يشعر بما يشعر به الجسم عندما يؤدي العبادات أو عندما يكثر. من هذه العبادات كلمتان خفيفتان على اللسان وفي نفس الوقت، ومن فضل الله، ثقيلتان في الميزان يوم القيامة. يذكرنا هذا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور بين العلماء بحديث البطاقة، وهو أن أحدهم يأتي يوم
القيامة فيقول له الله سبحانه وتعالى - وهو أعلم - بإقامة الحجة. عليه: "هل فعلت خيراً قط؟" ويأتي بالميزان فإذا بسجلات الذنوب تصل إلى عنان السماء وهي في كفة، فيقول: "لا يا ربي". قال: "هل تنكر شيئاً من ذلك؟ هل ظلمك كتبتنا؟" يعني هل يفترون عليك هذه الأشياء كلها. قال: "لا يا رب، أنا معترف ومقر، وأنا فعلاً كنت كذلك". قال: "إذاً فالرجل يتعجب ما هي هذه الحسنة التي كانت موجودة
ونحن لا يُظلم عندنا أحد، فيُؤتى ببطاقة مقابل تلك السجلات كلها، توضع في الميزان، فيقول: يا رب أتسخر مني؟ يعني أنا بطاقة ستقدر أن توازن كل هذه المصائب التي فعلتها وتلك الذنوب التي اقترفتها؟ بطاقة واحدة؟ يعني ما لي إلا حسنة كل هذا، ما هذه الفوضى؟ فوضع البطاقة في الكفة الأخرى، فطاشت، أي ارتفعت وكأنها دفعت كل السجلات هذه في الهواء. إذاً هذه البطاقة ثقيلة جداً، فوجدها
أنها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله". هذا الحديث يفتح الأمل عند المذنبين، عند من أسرف على نفسه مع. ربما بعض الناس يحاول أن ينكر مثل هذه الأحاديث ويقول إنها تجعل الناس تتعود على الذنوب وتستهين بالذنوب. الأمر ليس كذلك، فالأمر له وجه صحيح تربوي وهو ألا تيأس من روح الله، وهو الهادي، هو الله. إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. هذا الكلام سيلقى قلوباً. مؤمنة ولكن سنخرج
هذه القلوب المؤمنة من ورطة المعصية بمثل هذا الحديث وبأن ذكر الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب ويستر العيوب وييسر الأمور الغيبية، وجمع كما ذكرنا في حلقة سابقة الباقيات الصالحات أتمها بعضهم إلى عشرة وسموها العشرة الطيبة: استغفر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله لأن فيها ذكراً لله ولأنها تحتوي على "اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد"، فكلمة "اللهم" هي ذكر. إذا كانت العشرة طيبة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، كلنا جمعناها، والخمسة الأخرى من الباقيات الصالحات الخمس هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ومن استغفر الله. وكذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلت على الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. القرآن أيضاً مليء بأسماء الله الحسنى، وأسماء الله الحسنى يقول أسماء مائة إلا واحداً، أي إن التسعة والتسعين مقصودة وليست تسعة وتسعين للتكثير، لا هي تسعة وتسعون بالضبط، مائة إلا واحداً. من أحصاها دخل الجنة. وعندما
تحدث العلماء أهل الذكر عن الإحصاء، تحدثوا عن أن الإنسان يتخلق بصفات الجمال ويتعلق بصفات الجلال ويصدق بصفات الكمال، وبذلك يكون قد أحصاها. صفات الجمال: الرحمن، الرحيم، العفو، الرؤوف، الغفور. ومن صفات الجلال: المتكبر، الجبار، العزيز، العظيم، ذو الجلال والإكرام. هذه الصفات المزدوجة: النافع والضار، المانع المعطي المانع، السميع
البصير. وهكذا أسماء مزدوجة نذكرها سوياً بعضها مع بعض لأن النافع والضار تعطي كمالاً، وكذلك لفظ الجلالة (الله). فإذا تعلقنا بالجميل وتخلقنا بالجميل. وتعلقنا بالجليل، أصبحنا قد أحصينا أن الكبرياء لله وحده، والعظمة لله وحده، والعزة لله وحده. ولكننا نتخلق بكل جميل، وبهذه الصفات نتعلق في مسألة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ومسألة "حسبنا الله ونعم الوكيل". وهكذا فالإنسان إذا وصل إلى هذا وجعل لسانه ذاكراً لله سبحانه وتعالى، وأسماء الله كثيرة.
منها الأسماء الحسنى الواردة في حديث أبي هريرة عند الترمذي بثلاث روايات يختلف بعضها عن بعض. إذا جمعنا كل ما ورد في السنة نجد لله مائة وأربعة وستين اسماً، وإذا جمعنا كل ما ورد في القرآن نجد مائة وخمسين اسماً، وعندما نجمع الاثنين مع حذف المكرر يصبح المجموع مائتين وعشرين منهم تسعة وتسعون اسماً وهي أسماء الله الحسنى، وإحصاؤهم معناه كثرة الذكر بهم، وإحصاؤهم معناه التخلق بالجمال والتعلق بالجلال والتصديق بالكمال في حقه سبحانه وتعالى. هل هذا الذاكر بالليل والنهار وأطراف
النهار وأطراف الليل لعل الله يرضى، سيترك الصلاة؟ سيترك الصيام؟ هل هذا سيظلم الناس؟ فهو متذكر لله ولقدرته إذاً. تذكَّرتُ قدرةَ الله، تذكَّرتُ أحوالَكَ مع الناس. إذا تذكَّرتَ اللهَ سبحانه وتعالى تذكَّرتَ حُسنَ عبادتِه، وتذكَّرتَ عمارةَ هذه الأرض - التعميرَ لا التدميرَ - وتذكَّرتَ تزكيةَ تلك النفس حتى نصلَ إلى أن تسمعَ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. إذا سمعتَها من
لك تجلي بعد أن تتخلى عن القبيح وأن تتحلى بالصحيح. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.