هذا ديننا | 02 | بدايات نزول الوحي | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". عرفنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر الثلاثينيات
من بدأ عمره في الذهاب إلى غار حراء ليتعبد ويخلو مع نفسه. وقضية العبادة مع الله وضحها ربنا سبحانه وتعالى بعد ذلك في آل عمران، وأنها مبنية على الذكر والفكر، فالطريق إلى الله مبني على الذكر والفكر. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما... خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. إذاً فالذكر والفكر هما الأساس في الطريق إلى الله، وفي الخلوة والتي بعد ذلك دلتنا بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أن طريق الله يحتاج منا إلى مجاهدة بالقلة. والمجاهدة بالقلة معناها قلة الطعام وقلة الأنام وقلة المنام وقلة الكلام، هذه لا بد فيها من القلة، نأكل قليلاً ونتكلم قليلاً، والنوم يكون قليلاً، ثم الخلطة بالناس تكون قليلة. وهذه يسميها علماؤنا بالتجربة، فالإنسان يكون في تجربة. ولأن الإسلام لم يأمرنا برهبانية حتى نعبد الله سبحانه وتعالى كما كانت الأمم السابقة تعبده بالاعتزال التام عن الناس، وبالرهبانية التي تذهب إلى الصحراء طلباً مع الله سبحانه وتعالى فإنه
جعل هذه الأربعة: قلة طعام متمثلة في رمضان، فأيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كنا في غير رمضان: "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه". وقلة المنام تتمثل في قوله تعالى بعد ذلك: "قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً". أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً، ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً. هناك سهر الليل في عبادة الله وفي القلوب الضارعة إلى الله سبحانه وتعالى. هناك أيضاً قلة النوم تتمثل في الاعتكاف الذي يعتزل الإنسان
فيه حياته المدنية العامة ويدخل في اعتكاف جعله رسول. صلى الله عليه وسلم، من سننه في العشر الأواخر من رمضان، وأيضاً هناك يلتمس ليلة القدر. كل هذا كان متحققاً في غار حراء: قلة الكلام، وقلة الأنام، وقلة المنام، وقلة الطعام. فهذه هي الأركان التي تحولت بعد ذلك إلى أمثلة نقوم بها مرة في السنة، وجعل ذلك في رمضان. ومن بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رمضان تُصفد فيه الشياطين فيترك الإنسان مع نفسه، ليس هناك عائق، ليس هناك عائق خارجي
يمنعه من الخير. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى غار حراء وتعبد الليالي ذوات العدد، وكان في الطريق إلى غار حراء يسمع حجراً. يُسلِّم عليه فقال: "إني لأعرف حجراً في مكة كان يُلقي عليَّ السلام". إذ بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدراك العالم غير المنظور الذي وراءه. قبل ذلك وهو صغير شُقَّ صدره الشريف عند حليمة السعدية، جاء جبريل وشق صدره ونزع منه نصيبه من الشيطان. بعض الناس تفسر نزع... من قلبه مضغوط نصيبه من الشيطان، وكان
الشيطان سيتسلط عليه، ولكن كان مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون: إن قلب النبي قد خلقه الله سبحانه وتعالى اصطفاءً، اصطفى النبي وخلقه وقلبه كله رحمة حتى على الشيطان، فجاء جبريل ليغسل قلبه ويرفع منه هذا الجزء الذي يرحم فيه إبليس الذي. يضلُّ الناس ويرحم فيه هذا المخلوق الشرير الذي لعنه الله سبحانه وتعالى وطرده من رحمته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول إن الشيطان يعني كل شخص له قرين وله شيطان يتسلط عليه. قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا،
إلا أن الله أعانني عليه فأسلم. ابن إبليس الذي أرسله إلى النبي، عندما رأى أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وعلو قدره عند الله سبحانه وتعالى، أسلم هذا الجن. وكما هو معروف، الجن منهم المسلمون ومنهم غير ذلك. كان رسول الله في غار حراء يتعبد، وبدأ من هذا غسيل القلب الذي حدث، وشق الصدر الذي حدث عند... حليمة السعدية، ثم بعد ذلك بتلك الخلوات بدأ يرى شيئاً من غير المنظور وبدأ يسمع أشياءً من غير هذا المنظور حولنا. ولكن صلى الله عليه وسلم عندما بلغ سن التاسعة والثلاثين ونصف بدأ يرى رؤى، وكل ما
يراه من رؤية في الليل يجدها كأنها تسجيل لما سيحدث. غداً، فأنا يوم الخميس نمتُ لأرى في المنام كل ما سيحدث يوم الجمعة. استيقظتُ فإذا بي أشاهد كل المشاهد وأعرف أنه سيحدث شيء ما عند الغروب، عند العشاء، عند كذا إلى آخره. لماذا؟ لأنني رأيت كل هذا في المنام. هذه ليست مرة صدفة، بل تكررت مائة وثمانين مرة متتالية، ستة شهور في ثلاثين يوم بمائة وثمانين مرة متتالية، كل يوم يستيقظ ويعلم ما الذي سوف يحدث في هذا اليوم. نام يوم الجمعة بالليل، عرف
ما الذي سيحدث يوم السبت، لكنه لا يعرف ما الذي سيكون في يوم الأحد. فهو يعرف السبت فقط، وهذا تدريب رباني له صلى الله عليه وسلم يتحمل الوحي وما سوف يحدث عند الوحي، فالوحي أمره شديد يرهق الجسد. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قوي البنية جداً، وظل كذلك قوي البنية إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، حتى أن لحيته لم يشب منها إلا سبع عشرة شعرة فقط هي التي أصابها الشيب، والبقية كانت لحيته سوداء فاحمة وكان عظيم اللحية صلى الله عليه وسلم، كل يوم يرى ما الذي سيحدث، فتأتي رؤياه كفلق الصبح، شيء واضح جداً. تفاصيل ما
سيحدث قد رآه في الزمن القليل الذي نامه صلى الله عليه وسلم. انكشاف تسبيح الكائنات وسلام الحجر، والمائة وثمانون يوماً متتالية كانت كلها تهيئة، كانت كلها. إعداد كان كله تدريباً لما سيحدث بعد ذلك. كان صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وعندما أتم الأربعين وجد ملكاً يبدأ في الظهور. الملك كان يظهر، والملك عندما يظهر لأحد من أهل الأرض فإنه يسد ما بين المشرق والمغرب، يعني هو ضخم جداً لأنه ضخم جداً في حجمه عن الأرض فإذا
ظهر على كرة الأرض هكذا لشخص فإن هذا الملك يسد ما بين المشرق والمغرب وله عدد كبير جداً من الأجنحة، له أجنحة في جانبه الأيمن ثلاث مائة وفي جانبه الأيسر ثلاث مائة، ولذلك بعد ذلك قالوا إن العدد الذي يمكن أن تراه فتعده بعينيك ويسميه العدد المحصور ثلاث. مئة، من أين جاءوا بالثلاثمئة هذه؟ جاءوا بها من العمل، من الواقع، في تجمع وحشد. نستطيع أن نعد هكذا حتى ثلاثمئة. لو كانوا أربعمئة لاختلط علينا العدد ولا نستطيع أن نكمل هذا العدد. فإذاً الثلاثمئة هي التي يمكن لنا
أن نعدها دون أن نختلط. النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الملك وجاءه يسد ما بين أفق السماء ورآه ولم يقل له شيئاً، بدأ هذا يتكرر معه حتى اعتاده فلم يعد هناك خوف، لم يعد هناك رهبة، لم يعد هناك أن الإنسان يُؤخذ أبداً، الأمر معتاد، رأينا هذا قبل ذلك مرة والثانية والثالثة والعاشرة، بدأ قلب النبي عليه الصلاة والسلام يتعود على مثل هذه الأشياء أن خلف هذا العالم المنظور عالماً غير منظور وأن هناك في واقع
الأمر غيباً وأن هذا الغيب الاتصال به يكون عن طريق الذكر وعن طريق الفكر وفي يوم من الأيام سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هذا الملك يضمه. إليه وشعر بأن عظامه سوف تتداخل بعضها مع بعض وقال له: "اقرأ". هذه بداية المشهد الذي نزل فيه القرآن الكريم على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة في غار حراء. والحمد لله الذي حافظ لنا على هذه الأماكن، على البيت العتيق وعلى مكة،
على مكة. المكرمة وعلى غار حراء وعلى أمثال هذا الذي يجعلنا نفهم تلك الروايات التي في الكتب. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.