هذا ديننا | 03 | الكتاب جـ1 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". في هذه الحلقة نرى كيف نزل جبريل الأمين
على قلب سيد المرسلين. بالقرآن الكريم وحدث هذا وقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سن الأربعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وُلِدَ في العشرين من أبريل من سنة خمسمائة وواحد وسبعين، وهذا التقويم هو تقويم شمسي، ولكن في هذا العام هو قد وُلِدَ في التاسع من ربيع، وهناك روايات كثيرة. لكن المحقق أنه وُلِدَ في التاسع من ربيع في سنة الفيل بعد خمسين يوماً من حادثة هجوم أبرهة الحبشي على الكعبة، وإذا كان قد وُلِدَ في التاسع فمعنى هذا
أن أبرهة جاء في تقريباً التاسع عشر من محرم من هذه السنة، وسُمِّيَت بعام الفيل، ونزل فيها بعد ذلك قرآن، كان ابن خمسين، أي بعد الحادثة بخمسين يوماً وُلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. نتحدث عن العشرين من نيسان أو العشرين من إبريل سنة خمسمائة وواحد وسبعين. فبعد أربعين سنة قمرية وليست شمسية، وهي كأنها سنة، أي بعد تسعة وثلاثين سنة، كأننا وصلنا إلى سنة ستمائة وعشرة. نزل الوحي ستمائة وعشرة بالشمس، أيضًا نزل الوحي والنبي عنده أربعون سنة تقريبًا
من السنين القمرية التي كان يعدّ بها العرب، صلى الله عليه وسلم. وهو ابن أربعين جاءه جبريل في غار حراء وضمّه ضمّة إلى نفسه حتى تألّم رسول الله من هذه الضمة وقال له: "اقرأ"، فردّ عليه. النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بقارئ" يعني أنا أصلاً لا أعرف القراءة، فماذا أقرأ؟ أأقرأ شيئاً معك؟ وما الذي أقرؤه؟ وفعل هذا معه ثلاث مرات كما في البخاري، وهو يقول له: "اقرأ"، ويرد عليه النبي: "ما أنا بقارئ"، حتى أنه انتهى فأوحى إليه: "اقرأ باسم ربك الذي..." خَلَقَ
الإنسانَ مِن عَلَق، اقرأ وربُّكَ الأكرم، الذي علَّمَ بالقلم، علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلم. هذا المقطع فقط من سورة العلق الذي هو بدايات سورة العلق. لم تنزل سورة العلق كلها في هذا الوقت، بل إنّ هذا هو الذي أُوحي إلى النبي في غار حراء في ذلك الوقت في... بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وجد هذا الكلام منقوشاً في قلبه، أي ليس مترددًا في حفظه ولا مستدعياً إياه من الذاكرة، بل وجده وكأنه قد كُتب في نفسه. هذا النور الجديد، النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا كان يذهب إلى غار حراء ويتلقى
فيه هذا الذكر وكذا إلى آخره كان يقوم به، فلما نزل جبريل شعر بعد انصرافه بلذة كبيرة في قلبه، وشعر أن ما قال له جبريل إنما هو قد نُقش في صدره، بحيث أنه شيء غريب، خلافاً لما يحفظ أحدنا الشعر أو يحفظ حتى نحفظ القرآن، لكن بالنسبة لسيدنا النبي فإنه كان منقوشاً في صدره بشكل غريب، وهنا اشتاق النبي إلى هذه الحلاوة التي وجدها في قلبه، واشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحال
اشتياقاً عظيماً جداً، فتردد مرة أخرى أو عدة مرات على غار حراء، وبدأ في الاشتياق الشديد، لكنه لم يرَ جبريل بعد ذلك، وكان هذا نوع. آخر من أنواع التثبيت والتربية بالصبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلاً صبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن عاوده مرة أخرى جبريل بالوحي، وكل هذا كان في نحو ثلاث سنوات. عندما نزل عليه جبريل بالوحي، نزل بتكاليف:
"قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً أو..." زِد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. بعد لقائه الأول كانت تحدث له من شدة اللذة التي في قلبه قشعريرة في جسده، فكان يتغطى ويتدثر ويتزمل، فقيل: "يا أيها المزمل"، "يا أيها المدثر". وبدأ الوحي يترى، أي يزداد، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف ما هذا، ويحكي للسيدة خديجة كل. ما يأتيه خوفاً من أن تكون هذه حالة أن يكون هذا شيطاناً يريد أن يحرفه عن أسرار
الخلوة وعبادة الخلوة، فيريد أن يشغله بشيء آخر. السيدة خديجة قامت باختبارين؛ الاختبار الأول هو أنها قالت وقد رفعت عن نفسها الحجاب: "هل تراه؟" بدأ جبريل يظهر له في صورة بشرية. لكن في مكة وفي البيت فلما نزعت الحجاب قالت: هل ترى ما أرى؟ قال: لا، أراه. فلما وضعت الحجاب رآه، فعرف أنه ملك، وأنه لو كان شيطاناً لتعدى على حرمات البيوت وعلى حرمات النساء. فلما كان كذلك، وأنه يغض بصره، وأنه يختفي عندما تكون السيدة
ليست في حالة التهيؤ. فإنه ملِكٌ أخلاقُه كريمةٌ، وذهبت به إلى ابن عمِّ خديجة يُقال له ورقة بن نوفل، وورقة بن نوفل لما سمع الكلام الذي هو منقوش في صدر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "والله الذي لا إله إلا هو، إن هذا وما نزل على موسى خرج من مشكاة واحدة" يعني. هذا وحي وعُرِف لأنه كان يقرأ الكتاب العبراني وكان يقرأ لليهود، واليهود كانوا أهل علم بمعنى أنهم يهتمون جداً بقضايا التفاصيل والعلم وما إلى ذلك، ويسألون ويرتبون الأمور. اليهود
لديهم معايير للنبوة، ورأى ورقة بن نوفل أن كل هذه المعايير إنما هي متوفرة في سيدنا النبي صلى الله عليه وآله. وسلم وقال له أنه لم يؤتَ أحد مثل ما أُوتيت إلا عاداه قومه وأخرجوه. قال: أوَمُخرِجيَّ هم؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مكة حباً عظيماً، وكان يعيش بها وفيها، حتى أنه عندما خرج إلى الهجرة المباركة من مكة التفت إليها وقال: ما أشد حبك على الله وإنك. أحبُّ أرضِ اللهِ إليَّ، ولولا أنَّ أهلكِ أخرجوني ما خرجتُ منكِ أبداً.
كان النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ يُحبُّ مكةَ حتى أنَّ الأنصارَ عندما فُتِحَت مكةُ قالوا: "رجعَ إلى أهلهِ" أي لن يتركَها من شدةِ حبِّهِ لمكةَ، لكنَّهُ آثرَ أن يُطيِّبَ خاطرَ الأنصارِ الذين نصروهُ، والسببُ الثاني أنَّ الإنسانَ يموتُ. حيث ما أُخِذَتْ من بقعة دفنه تربته الأولى التي خلق الله منها آدم، ولأن تربة النبي مأخوذة من مكانه الشريف الآن في قبره المنيف، فإنه عاد إلى المدينة ومات في المدينة ودُفِنَ في المدينة وفاءً بذلك العهد وقدراً من عند الله سبحانه وتعالى، إلا أنه كان يحب وطنه حباً شديداً. في هذا ردٌ على
أولئك النابتة الذين خرجوا يستهينون بالأوطان ويشتمون الأوطان ولا يحبون هذا الوطن الذي يعيشون فيه والذي له كل اليد عليهم ابتداءً ووسطاً وانتهاءً. النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يرى جبريل في غار حراء وفي غير غار حراء وبدأ الوحي يتتالى عليه وبدأ الوحي واستمر من حينئذ إلى ثلاثة وعشرين سنة بالضبط، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات وهو ابن ثلاث وستين عاماً، ثلاث وستين سنة. كانت وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول باتفاق، وكان ذلك يوم الاثنين، وكان ذلك تمام الثلاثة والستين أو ثلاثة وستين وثلاثة أيام. مات النبي الاثنين وجهز يوم الثلاثاء وصلي عليه إلى آخر يوم الأربعاء صلى الله عليه وآله وسلم ودفن في يوم الأربعاء ليلاً وصلى عليه بالحسابات حوالي عشرة آلاف من سكان أهل المدينة، وكانوا تقريباً عشرين ألف إنسان، عشرة آلاف إنسان صلوا عليه صلى الله عليه وسلم ولكن صلوا عليه فرادى يعني منفردين. وهو في بيته دخلوا البيت من باب وخرجوا من الباب المقابل، وفي هذا
الصف يصلون عليه فرادى وليس لهم إمام وليست في صورة جماعة كما تعودنا في صلاة الجنازة على المؤمنين، بل تعظيماً لقدر النبي صلى الله عليه وسلم والتماساً لبركته صلى كل واحد منهم لحاله بمفرده، والحساب يقول أنهم كانوا نحو عشرة آلاف، والحساب أن هذه الصلوات بدأت في يوم الثلاثاء وانتهت في يوم الأربعاء. ولو فرضنا أنهم يصلون بالليل والنهار - وهذا طبعاً لأن وفاة النبي كانت حدثاً عظيماً - وبيت عائشة الذي دُفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مساحة معينة، ثلاثة أمتار ونصف تقريباً للصلاة فتكون الصلاة تستغرق
دقيقتين، ولو أننا جعلناهم أربعة بالدخول، فسيصبح عدد المصلين عشرة آلاف شخص تقريباً. صلوا على النبي. المكتوب في الكتب أن أهل المدينة حينئذ كانوا عشرين ألفاً، وهذا صحيح لأنه عشرة آلاف من الرجال وعشرة آلاف من النساء. يمكن أن يأتي بهذا، صلى على النبي، فرادى هذا بدأ في سن الأربعين وانتهى في سن ثلاثة وستين، هناك وحي لمدة ثلاثة وعشرين سنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤية التي كانت تأتيه كفلق الصبح وهي ستة أشهر: "الرؤية الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". الثلاثة والعشرون فيهم ستة
وأربعين نصفاً. كيف عرف النبي الله عليه وسلم أن مدته ثلاثة وعشرين سنة، هكذا نطق وهكذا قال، وهو رجل مؤيد من عند الله سبحانه وتعالى. الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.