هذا ديننا | 04 | الكتاب جـ2 | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 04 | الكتاب جـ2 | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج ديننا. مبني على الكتاب والسنة، ورأينا كيف بدأ القرآن في النزول. وأنه استمر لمدة ثلاث وعشرين سنة وهو يتنزل على قلب رسولنا الكريم، كان جبريل عندما ينزل بالآيات
يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية بين كذا وكذا، وهذه الآية بين كذا وكذا، وهو الذي رتب له هذا بإذن الله تعالى، بداية من الفاتحة وانتهاءً بسورة الناس. جبريل تلى... على النبي صلى الله عليه وسلم مواطن الآيات، بسم الله الرحمن الرحيم. آية: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ آية، ﴿الرحمن الرحيم﴾ آية، وهكذا. فصارت هذه المرة التي علَّم فيها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية. فالقرآن في مائة وأربعة عشر سورة تبدأ السور. بسورة الفاتحة وتنتهي
بسورة الناس، هذه السور عدد الآيات، عدد آيات الفاتحة سبعة، وهكذا إلى أن ننتهي بسورة الناس. في هذا الخضم الهائل من الآيات، عددهم جميعاً في المائة وأربعة عشر سورة ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، ولكن جبريل من أجل قضية أخرى وهي قضية حفظ القرآن لم يكن واحدة بل إنه نزل بتلاوات مختلفة حتى يتمكن المسلمون بعد ذلك من حفظ تلك الروايات وتلك القراءات وتلك الأداءات فيكون القرآن بدلاً من أن يُحفظ مرة واحدة حُفظ عشر
مرات بل عشرين مرة أي كان توثيقاً جزءاً لا يتجزأ من ديننا يقول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفي المرة الثانية يقول له الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين من غير ألف. في الأولى ذكر البسملة وذكر معها الألف، وفي الثانية لم يذكر البسملة وذكر معها بدون ألف فأصبحت ملك يوم الدين. مرة ينزل يخادعون ومرة أخرى يتلو يخدعون. بالألف ومرة من غير ألف وظنوا أنهم قد كُذِبوا ومرة
أخرى ينزل وظنوا أنهم قد كُذِبوا. كم مرة فعل جبريل هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قرأ القرآن كله بطريقة وقرأ القرآن كله بطريقة أخرى ثم بطريقة ثالثة ثم برابعة ثم بخامسة، عشر مرات. هل تدرون أن المسلمين مكانهم الله سبحانه وتعالى من حفظ الكتاب ليس فقط في صورة واحدة بل في عشر صور - صور بالصاد - في عشر أشكال في عشر قراءات، وكل ذلك محفوظ على مستوى الحرف: "كذَبوا" و"كذّبوا"، "يخادعون" و"يخدعون"، "ملكي" و"مالكي"،
وهكذا. فأصبح عندنا عشر قراءات، وسوف نرى بعد ذلك ما الذي كان رسم القرآن معجز في رسمه كما أنه معجز في لفظه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب بيمينه، ولكن لأنه نبي ولأن الله قد أوحى إليه كيف يتصرف في هذه الأشياء، كُتِب القرآن الكريم في عهده، وكلما كان ينزل شيء كان يُكتَب، ولكن المعجزة أنه كان يكتب. بطريقة نستطيع بها أن نقرأه بالقراءات العشر فيأتي في "مالك" و"ملك" ولا يضع الألف
ويضع مكانها شُكلة صغيرة هكذا بعد الميم خط مستقيم هكذا، فالذي يقرأ في القراءة الأولى يقول "مالك يوم الدين" والذي يقرأ الثانية يقول "ملك يوم الدين". "يخادعون" فلا يكتب الألف، يكتب الخاء والدال مباشرة، فالذي يقرأ يخدعون يقرأها هكذا والذي هو قراءته يخادعون فإنه يثبت هذه الألف. القرآن معجز في رسمه هذا لأنه رسم يشمل عشر قراءات. هذه القراءات مختلفة، في ماذا؟ مختلفة في
سبعة أمور، في سبعة عناصر. العنصر الأول: الزيادة والنقصان، ففي هنا زيادة ألف لكن هنا في نقصان الألف في هنا. تشديدٌ وفي هنا تخفيفٌ ليس هناك تشديدٌ وهكذا، والعنصر الثاني هو التقديم والتأخير، يعني كلمة مقدَّمة أو كلمة مؤخَّرة، والعنصر الثالث هو الإعراب: "فتلقّى آدمُ من ربّه كلماتٍ"، "فتلقّى آدمُ من ربّه كلماتٍ"، الإعراب: مَن الذي تلقّى؟ الثاني: آدمُ تلقّى الكلماتِ فهو فاعلٌ، أو الكلماتُ هي التي تلقّت آدمَ فهي وآدم مفعول
به لا ينال عهد الظالمين الظالمون وقس على هذا. بعض هذه القراءات ليست متواترة كهذه الأخيرة. إذاً، النقطة الأولى: الزيادة والمقصود، النقطة الثانية: التقديم والتأخير، النقطة الثالثة: قضية الإعراب، النقطة الرابعة: قضية الأداء، "والضحى" و"الضحى" كثيراً مرة بالتفخيم ومرة بالترقيق. إذاً هناك خلافات ما بين الملفات العشر. أو القراءات العشر أو الأداءات العشر أو الطرق العشر التي قُرئ بها القرآن، والعجيب الغريب من عند رب العالمين تحقيقاً لما وعد به "إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون"، أن المسلمين لا يحفظون نسخة واحدة بل يحفظون عشر نسخ بهذا الأداء الرائق الفائق. إذاً فالتوثيق جزء لا يتجزأ من... عقلية المسلم: ماذا علينا لو فقدنا التوثيق؟ يحدث عندنا الآن فقدان التوثيق فنعيش بلا معلومات، ونعيش بلا هوية، ونعيش بلا تاريخ، ونعيش بلا علم، ونعيش هكذا يوماً بيوم. لم يكن هذا شأن المسلمين الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى لحفظ كتابه بإذنه هو، لأن كتباً كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها قد... حُرّفت وغُيرت ولم يستطع أهلها أن يحتفظوا
بها، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن الكريم أولاً في صورة حفظه للغة العربية، وثانياً في صورة حفظه لرسمه، وثالثاً في صورة حفظه لأدائه، ورابعاً في صورة حفظه لتلك القراءات العشر التي تدل على مزيد الإتقان والتوثيق. القرآن معجز ليس في نظمه فقط ولا في رسمه فقط ولا فيما تضمنه من معانٍ إنسانية رائقة فقط، بل في كل أحواله هو معجز، القرآن المعجز الذي تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءاً من المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها.
اشتغل المسلمون على خدمة هذا النص، عدّوا حروفه، عدّوا كلماته. عدّوا آياته، عدّوا سوره، عدّوا كل شيء فيه، حتى أنهم قد عدّوا المفتوح والمكسور والمجبور والمضموم والساكن من حروفه، وكتبوا كل هذا. إن القرآن الكريم يشتمل على ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألف حرف وشيء من ذلك، ويشتمل على ستة وستين ألف كلمة، ويشتمل على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية. ويشتمل على مائةٍ وأربعةَ عشرَ سورةً، وهكذا
ضبطوا الأمر بطريقةٍ فائقةٍ رائقةٍ كما يقولون. ما الذي حدث؟ الذي حدث أنّ القرآن الكريم بدأ الأعاجم يدخلون في دين الله أفواجاً في مصر وفي الشام وفي إيران وفي الهند وفي المغرب وفي بلاد البربر وفي أفريقيا، واحتاج المسلمون إلى خدمة كتاب الله من هذا فبدأوا يضعون الآيات أن هذه الآية رقم واحد وهذه رقم اثنين وهذه رقم ثلاثة إلى آخره وبدأوا يعدون حروفه ويقسمونه إلى ثلاثين جزءاً ولماذا ثلاثين جزءاً حتى تنتهي من قراءته في ثلاثين يوماً
وعادة الذي تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم عمل اليوم والليلة يعني الصباح والمساء. أي أن هناك فارقاً بين النهار والليل، فقسموا الجزء إلى حزبين لكي تقرأ حزباً في الصباح وحزباً بعد عودتك في الليل، وقسموا هذا الحزب إلى أربعة أرباع، وأصبح الجزء يحتوي على ثمانية أرباع لأنه حزبان، فأربعة بثمانية، والقرآن كله أصبح ثمانية في ثلاثين يساوي مائتين وأربعين ربعاً، وتطورت الأمور أكثر فقالوا: لا، إننا نصنع مصحفًا اسمه "مصحف الحفاظ" نحفظ به. كيف نحفظ به؟ قال: والله، طاقة الإنسان... النبي قال
لنا مرةً فيما أخرجه البيهقي: "من أراد أن يحفظ القرآن فليحفظه خمسةً فإنه لا ينسى"، أي لا ينساه إذا حفظه خمس آيات خمس آيات، فنجعل الصفحة خمسة عشر سطرًا. يحفظ الولد خمسة سطور ثم خمسة سطور ثم خمسة سطور، خمسة عشر سطراً، ويصبح الجزء عشرين صفحة، ويصبح القرآن كله نحو ستمائة صفحة. وهذا المصحف الذي يُسمى مصحف البركنار المنتشر حالياً في الأسواق، تجد أنه بدأ بآية وانتهى بآية في الصفحة، وكل عشرين ورقة تجدها تمثل جزءاً، وهذا هو. يسمونه الحفاظ لأن الحفاظ كانوا يقرؤون فيه بطريقة ويحفظونه
بطريقة تجعلها طريقة فوتوغرافية حتى لا يُنسى القرآن الكريم. رحلة طويلة مع كتاب الله سنستمر فيها إن شاء الله في لقاءاتنا سوياً حتى نعلم تلك المحجة البيضاء التي تركها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شكلاً ومضموناً. إلى لقاء. أخيراً، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.