هذا ديننا | 05 | القراءات القرآنية | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". سنتحدث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي. وتكلمنا كيف نزل الوحي في غار حراء ثم تأخر لمدة ثلاث سنوات، وتكلمنا كيف كان النبي صلى الله
عليه وسلم يتلقى القرآن، وأنه قد تلقاه على أحرف سبعة. وتفسير الأحرف السبعة معناها أنه قد تلقاه بقراءات مختلفة، ولدينا الآن في مصحفنا عشر قراءات مختلفة كلها متواترة وكلها منضبطة إلى غاية وكان الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤكد معجزة حفظ القرآن ليس فقط مرة ولا مرتين ولا ثلاثة ولا أربعة بل إلى عشر مرات فنعرف أن هذه قراءة عاصم ونعرف أن هذه قراءة نافع ونعرف أن هذه قراءة أبي جعفر أو أن
هذه قراءة الكسائي أو ابن عامر أو أبي عمرو أو نعرف أنها قراءة يعقوب أو قراءة حمزة إلى آخره حتى تتم عشر قراءات كلها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلها علمها جبريل لرسول الله فعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة. هذه القراءات العشرة تثبت عشر مرات أن الله قد حفظ. لا يمكن لعقل بشر. أن يتصورها القرآن محفوظ في رسمه ومحفوظ في تلاوته ومحفوظ على وجه الحرف ومحفوظ بطرق القراءات العشر. نرى قراءةً تقرأ هيكل
الكلمة "فتبينوا" وقراءةً أخرى تقرأ نفس الهيكل "فتثبتوا"، وكلاهما علَّمه جبريل لرسول الله، مرةً قال له "فتبينوا" ومرةً قال له "فتثبت"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ. القرآن بتلك القراءات العشر، وكثير من مشايخنا مشايخ القراءات يحفظون القرآن بالقراءات العشر، وترى العجب العجاب في حفظهم، وفي كيف أن الله سبحانه وتعالى قد وفق المسلمين، فهذا الحفظ من عنده "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". شيء غريب عجيب، الناس تعتقد أن قراءة حفص عن عاصم التي بين... أيدين الآن هي وحدها التي حفظت، والأمر
ليس كذلك، بل إنه ظل القرآن مدة مديدة إلى عصر الحجاج نحو أربعين أو خمسين سنة من الهجرة، وهو يُكتب من غير نقط ومن غير تشكيل، بل يُكتب بهيكل الكلمة. وهيكل الكلمة نرى فيها "وظنوا أنهم قد كُذِبوا" وقراءة أخرى تقول "كَذَبوا"، فالكاف مع بقية الكلمة تشكل هيكل الكلمة، لكن ليس هناك تشكيل يبين الفرق ما بين "كَذَبوا" و"كَذّبوا" لأن هناك شدة هنا. والحجاج وأبو مسلم وأبو الأسود الدؤلي وغيرهم طوروا هذا الضبط، وكان الحجاج وأبوه من محفظي
القرآن الكريم، وكان الحجاج يحفظه، وكان الحجاج يختم القرآن في سبع ليالٍ أو في سبعة. أيام إذ نزل القرآن بصور بقراءات عشرة وحُفظت هذه القراءات العشرة إلى يومنا هذا. الفرق بين كل قراءة وأخرى يمكن أن يكون في تقديم وتأخير، "يخادعون" و"يخدعون"، أو "قُتِلوا" و"قَتَلوا". فمثلاً: "إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون" قراءة.
أخرى فيقتلون ويُقتلون وهي قراءة حمزة، نأخذ منها معنى، وفي الثانية نأخذ منها معنى آخر، فأصبح النص الواحد يعطيني معنيين لأن هذه قراءة صحيحة متواترة وهذه قراءة صحيحة متواترة. كُذِّبوا وكَذَبوا، هذه التي ذكرناها، فما هذه المعاني المختلفة؟ وظنوا أنهم قد كُذِبوا، يعني كان هناك رسول يتشكك في الوحي مثلاً. حاشاه، فالرسول يكون الوحي بالنسبة إليه يقينًا بل وفوق اليقين وفي منتهى الوضوح، ولكن كُذِّبوا، أي كُذِّبوا من قِبَل قومهم، وظنوا أن قومهم لن يؤمنوا، ولا
يلدوا إلا فاجرًا كفارًا. خلاص، فسيدنا نوح جلس تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم فلا فائدة، ولذلك دعا ربه قائلًا: "رب لا تذر على". الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً. فهو ظن أنهم قد كذبوا ولن يؤمن أحد منهم أبداً، ولكن كذبوا معناها كذبوا. وهنا تكون العقيدة الصحيحة، فالمهمة الأولى لاختلاف القراءات التفسير، والمهمة الثانية يقتلون فيُقتلون، ويُقتلون
فيقتلون، ويقتلون فيُقتلون. كيف يقتلون حتى يُقتلوا؟ فيأتي ويُفهم منها أن هذا عدوان مثلاً، فتأتيه وتمنعه من هذا الفهم إن كان مسلماً أو غير مسلم. تمنعه من هذا الفهم القراءة الصحيحة الأخرى "فيُقتلون ويَقتُلون"، أي أنه في حالة دفاع مستمرة عن النفس، وأن هذا الجهاد إنما كان جهاد للدفع وجهاد لرفع العدوان وصد الطغيان، "وقاتلوا في سبيل الله". الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، هذا مفتاح، هذا وهذا
هو الذي يجعلنا نقرأ القراءة الصحيحة ونفسر التفسير الصحيح. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، فتلقى آدم من ربه كلمات. في الأولى آدم تلقى الكلمات، وفي الثانية الكلمات هي التي تلقت آدم. إن الله ليفرح بتوبة. عبده يفسر إحدى هذه القراءات. يُستفاد منها أحكام زائدة، ويُستفاد منها تفسير صحيح، ويُستفاد منها حفظ القرآن على أعلى مستوى، ويُستفاد منها أيضاً التمكن من حفظه. كان النبي عليه الصلاة والسلام - أحد أنواع الخلاف بين القراءات هو طريقة
التلاوة، مرةً يقول الأرضَ ومرةً يقول الأرضِ، مرةً يقول كثيراً يقول كثيراً هنا مُرَقَّقَة وهنا مُفَخَّمَة، مرةً يُعَلِّم أحدهم ويكون مثلاً هذا من قبيلة من القبائل التي لا تستطيع أن تنطق نطقَ قريش: "والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى"، فخفف هذا النطق وخفف هذا على المتلقي الفهم والحفظ، وكانت كل هذه من بركة تعدد القراءات المصدر الأول. المصدر الأول للتشريع هو القرآن الكريم،
والقرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة. بدأ بـ "اقرأ باسم ربك الذي خلق، الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم"، وانتهى بـ "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً". وإذا تأملنا البدء وجدناه يأمرنا أن نقرأ في وفي كتاب الله المنظور وهو الكون، وهنا بدأ بالكون "اقرأ باسم ربك الذي خلق". القرآن ليس مخلوقاً، القرآن كلام الله القائم بذاته، وهذا الذي نزل على محمد هو دالٌ على كلام الله القائم بذاته الذي يتجاوز الزمان
والمكان والأشخاص والأحوال. فأمرنا أن ننظر أولاً إلى الكون "اقرأ باسم ربك". الذي خلق، ادخل إلى هذا الكون وتأمل ما فيه، فإنك ستصل إلى الله سبحانه وتعالى، وسترى الله سبحانه وتعالى أمامك، ترى الله سبحانه وتعالى في كل شيء حولك، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، لكن لا تكتفِ بهذه القراءة الأولى، قراءة كتاب الله المنظور، اقرأ كتاب الله. المسطور ولذلك كرر القراءة مرتين "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم". هنا الوحي يأتي، الوحي هذه الآيات دالة على أن كتاب الله
المسطور من عند الله وكتاب الله المنظور من عند الله، فهما لا يختلفان. ولذلك لم تكن هناك في عقل المسلم أبداً عبر العصور فجوة ما بين العلم الذي توصل إليه بالتجربة الذي يُسمى في الإنجليزية بالعلم (ساينس)، وما بين الوحي ليس هناك أصلاً خلاف، وإذا توصلنا إلى ما هو قطعي في هذا العلم التجريبي فإننا نؤول به الوحي ونرفع مفهوم الوحي عليه. والشمس تجري لمستقر لها، تخرج من المشرق وتسير في كبد السماء إلى المغرب، ولكن ثبت يقيناً. أنَّ الشمس ثابتة وأنَّ الأرض هي التي تدور،
ولذلك وفي نفس الوقت الذي اكتشفنا فيه هذا، اكتشفنا أنَّ الشمس والمجموعة خلفها تسير نحو نجم فيجا بسرعة اثني عشر ميلاً في الثانية، وستظل الشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم، كما أخبر رب العالمين. هكذا نقرأ القرآن الكريم ونرى الرحلة وإلى أن نلتقي في لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة