هذا ديننا | 06 | الكتاب المنظور والكتاب المسطور | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج ديننا. في هذه الحلقة نسير سوياً ونتكلم عن المصدر الأول لديننا وهو القرآن الكريم وعرفنا كيف نزل على قلب رسول الله الأمين في غار حراء، وعرفنا أنه
بدأ بقوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"، ورأينا كيف أن الله أمرنا أن نقرأ كتاب الله المنظور وهو الكون. وأن نقرأ كتاب الله المسطور وهو الوحي القرآن، ولذلك أُسس في العقل المسلم منذ أول يوم أنه لا تعارض بين العلم التجريبي وبين الوحي الإلهي، لأن كليهما صدر عن الله سبحانه وتعالى. لم تعرف الحضارة الإسلامية هذه الفجوة التي عرفتها حضارات أخرى في الاصطدام بين النص والعلم، وأن العلم إنما هو ينشأ عن حقائق وأن الوحي
إنما هو ينشأ عن إيمان ولا مجال لكل منهما مع الآخر أبدًا. المؤمن المسلم عاش هذا بهذا وهذا بهذا. قال تعالى: "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين". الخلق والكون والأمر هو القرآن، ولذلك كلاهما قد صدر عن الله سبحانه وتعالى. الكون صدر... خلقاً والأمر القرآن صدر وحياً وكلاهما منه، ولذلك لا تناقض، فإنه ليس هناك تناقض لا ما بين الكون والقرآن ولا ما بين القرآن ونفسه ولا ما بين الكون ونفسه. ولذلك تأسس
العقل المسلم على نظرية التكامل. نظرية التكامل هي أن هناك تناغماً وانسجاماً بين الإنسان وبين الكون، وإن من شيء. إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه، فمن سبّح من البشر وعبد ربه فإنه يكون قد صار في مسار هذا الكون الذي يسبح الله سبحانه وتعالى، فيشعر الإنسان حينئذ بطمأنينة ويشعر بأنه يسير مع التيار وليس ضد التيار. "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" واذكروا. الله كثيراً لعلكم تفلحون. بيّن لنا الله سبحانه وتعالى أن هذا الكون الذي حولنا من أنهارٍ أو من أشجارٍ أو من نجمٍ أو من سماءٍ
أو من أرضٍ أو من جبالٍ أو من بحارٍ، أنه يعبد الله وأنه يسجد لله وأنه يسبح الله سبحانه وتعالى. ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا. أتينا طائعين فالسماء والأرض أتتا طائعتين، إلا أن الله ميّز الإنسان بالعقل والتأمل والتدبر. وهذا التأمل والتدبر: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، "الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض"، "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما". خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. الإنسان تميز بالعقل. إن عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. إذاً فالأمانة قد عُرضت على السماوات وعلى الأرض وعلى الجبال لكنهم لم يأخذوا شرف التحمل، أما الذي أخذ شرف التحمل فقد سجد. الله له الملائكة، يقول تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة"، قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، قال: "إني أعلم ما لا تعلمون". وعلّم آدم، إذاً آدم قابل للتعليم، وعندما عرض الأمر بعد ذلك على الملائكة لم يعرفوا شيئاً، فأنبأهم آدم في القصة التي... ذكرها لنا الله في سورة البقرة بأسمائهم وأحوالهم وكيفية العلم الذي تعلمه بناءً على
أنه قد قبل الأمانة وقد تحمل هذا بالعقل، إذاً فليس هناك خلاف فيما بين كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور. هكذا تأسست معرفة المسلمين وتأسست منها نظرية التكامل والمرأة، أن هناك تكاملاً بين الحاكم والمحكوم أن. هناك تكاملٌ بين الإنسان وبين الكون، وهناك تكاملٌ بين الأجير وبين صاحب العمل، وهناك تكاملٌ ما بين أي شيئين، بين الليل والنهار، بين السماء والأرض، بين عالم الشهادة وعالم الغيب. هناك تقابل ولكن هناك تكامل. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾.
وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ليس مبنياً على فكرة الصدام والصراع بين الإنسان وبين الكون أو بين الإنسان وبين الملائكة التي كانت تسمى في الأساطير اليونانية بالآلهة، ويذهب هرقل فينتصر على زيوس كبير الآلهة. أشياء من هذا القبيل كلها مبنية على الصدام والنزاع وأن الأصل هو الصدام، لكن الذي عندنا... المسلمين وفي عقلهم أن الأصل هو الوفاق وأن الأصل هو التكامل، فالله سبحانه وتعالى جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف "لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" وليس لتتصارعوا ولا لتتنازعوا ولا لتتصادموا. فصدام الحضارات هذا الذي هو منشأ الفكر اليوناني ومنشأ الفكر بعد ذلك
الغربي لم يكن موجوداً أصلاً في عقلية المسلمين. كان الذي هو موجود أن هناك تكاملًا بين الكون وبين القرآن، بين الرجل وبين المرأة كما رأينا في بدايات سورة النساء، ولذلك أمر الله الرجل والمرأة أن يكمل بعضهم بعضًا وأن يسأل الله من فضله، "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب". مما اكتسبوا واسألوا الله من فضله، خلق الله الرجل على خصائص معينة ووظائف معينة وكلفه بمراكز قانونية معينة، وخلق الله المرأة كذلك، وكلف الاثنين أن يتعاونوا وأن يتكاملوا ليكونوا دائرة واحدة، ولذلك لا يتمنى الرجل أن يكون امرأة للفضائل التي عند المرأة،
وأنه يخرج منها الحياة، وأنها تخلق هذه الحياة. بإذن الله سبحانه وتعالى وتقوم بالرعاية والعناية لها ولا تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، ولذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليوضح هذه الحقيقة فيقول: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال". ماذا نفعل؟ أبداً نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله، فيدعو الرجل أن يوفقه الله سبحانه. وتعالى فيما أقامه فيه، وتدعو المرأة أن يوفقها الله سبحانه وتعالى فيما أقامها فيه، واسأل الله من فضله، كل شخص يقوم بما أراده الله سبحانه وتعالى منه. هذا تأسيس لأول ما نزل من القرآن الكريم، عرفنا فيه كيف نتكامل، عرفنا
فيه كيف ألا نجد فجوة بين الوحي وما بين... الكون عرفنا فيه كيف يهتم كل واحد منا بما أقامه الله سبحانه وتعالى فيه، فيعمل لأنه سيأتي يوم للحساب، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. عرفنا كيف أن هناك مساواة وأنه ليس هناك تساوي، فالتساوي يهلك الأكوان لكن المساواة في الحقوق. والواجبات عرفنا كل هذه المعاني بعضها آخذاً في رقاب بعض، وكل ذلك من القرآن الكريم، بل كل ذلك من أوائل ما نزل، وهو يبدأ
دائماً بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، وكما قلنا إن الله سبحانه وتعالى له الجمال وله الكمال وله الجلال، لكنه بدأنا بالجمال، في الجمال "الرحمن الرحيم"، لم بسم الله ولم يقل بسم الله الرحمن ولم يقل بسم الله الرحمن المنتقم ولم يقل بسم الله المنتقم الجبار بل قال بسم الله الرحمن الرحيم. هذا تأسيس للعلاقة التي بيني وبين الله سبحانه وتعالى. في هذا التأسيس أن الله رحمن رحيم. يقول العلماء وهم يفسرون البسملة وهو الذي افتقدته. النابتة من الشباب الضال الذين شوهوا صورة الإسلام
والمسلمين في العالمين وأفسدوا في الأرض فلجؤوا إلى التكفير والتفجير والفجور، لم يتعلموا أن الذي بدأه الله سبحانه وتعالى والذي هو مفتاح لتفسير كل القرآن الكريم "بسم الله الرحمن الرحيم". كان مشايخنا يقولون إن كل معاني القرآن موجودة في الفاتحة، والفاتحة كأنها لُخِّصَت في بسم الله الرحمن الرحيم، فبسم الله الرحمن الرحيم هي مفتاح الدين. جلس الشيخ حتى ينتهي من شرح بسم الله الرحمن الرحيم معنا في الأزهر ستة أشهر. بعض الناس يمل: ستة أشهر في كلمتين "بسم الله الرحمن الرحيم"! حتى أنها تُطلق عليها البسملة، كلمة واحدة، نعم، لأن هذا
هو... مفتاح الدين بسم الله الرحمن الرحيم، لها علاقة بكل العلوم. بسم الله الرحمن الرحيم هي المفتاح الصحيح للقراءة، وإذا صحت البدايات صحت النهايات. ولذلك كنا نتعجل، نحن درسنا ستة أشهر بسم الله الرحمن الرحيم، نريد أن ننتقل وأن نأتي إليكم، ولكن يبدو أن هذا المنهج هو المنهج الصحيح الذي عرفناه. بعد ذلك، لماذا لا يفهم هؤلاء النابتة كلام الله سبحانه وتعالى؟ يأخذون جزءًا من هنا وجزءًا من هناك، ويخلطون بين الأمور، ويسيرون بهذه الطريقة العشوائية. لماذا هذا؟ هذا لأنهم لم يدخلوا المدخل الصحيح.
فكما قال مشايخنا رضي الله تعالى عنهم عبر التاريخ، يقولون: "إذا صحت البدايات صحت النهايات" في برنامجنا. هذا نريد أن نصحح البدايات، أن نفهم من البداية، من "بسم الله الرحمن الرحيم"، من "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، فتصح لنا النهايات. "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا". "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك". إلى لقاء آخر، أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته