هذا ديننا | 11 | السنن الإلهية جـ1 | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 11 | السنن الإلهية جـ1 | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. عرفنا كيف أن القرآن الكريم هو معجزة الرسالة وما الفرق بين معجزة الرسالة ومعجزة الرسول، وقلنا إن معجزة الرسول هي تلك المعجزات التي
أجراها الله سبحانه وتعالى خارقة للعادة على يد النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم، وقد عددناها نحو ألف معجزة فيها مشابهة لمعجزات الأنبياء من إحياء الموتى ومن كلام الجمادات ومن تسبيح الحصى ومن تكثير الطعام وتكثير. الماء ومن استجابة الدعاء ومن أشياء كثيرة جداً جرت على أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أنها جرت على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك من معجزات الرسول معجزة الإسراء والمعراج، فإنه قد أُسري بجسده العنصري من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. فصلى هناك في بيت المقدس بالأنبياء بأرواحهم
وكانوا مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، وهذه الساحة التي عليها المسجد الأقصى وصخرة القبة أو قبة الصخرة صخرة المعراج، هذه الساحة مائة وأربعة وأربعين ألف متر مربع، وهذه المساحة كان فيها مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، وكانت الملائكة تحضر هذا، فكان الملائكة عددهم. في هذا الخضم الهائل نحو عشرين ألف ملك صعد النبي صلى الله عليه وسلم بعدها في المعراج، وسمي معراجاً لأن طرق السماء ليس فيها خط مستقيم كما هو على الأرض، فكل خط مستقيم إنما هو جزء من محيط دائرة، ولذلك
ليس هناك خط مستقيم أبداً في شأن السماء، ومن هنا... تكون أبواب السماء ويعرف ذلك أهل الفلك وأهل الفضاء أنهم يسيرون في طرق متعرجة، فسبحان الذي سماه بالمعرج. صعد النبي صلى الله عليه وسلم بخلق الله، فالله سبحانه وتعالى قد خلقه وقد تجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحوال إلى سدرة المنتهى وإلى حضرة القدس حول العرش الشريف وإلى الجنة وإلى النار. فقرأ فيها ما رأى ثم عاد بعد ذلك وأنبأ بما كان عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك تسلية لقلبه من عام الحزن الذي فقد فيه زوجته خديجة عليها السلام، وفقد فيه
نصيره عمه أبا طالب. حينئذٍ، إذًا فنحن في معجزة الرسول وهي كثيرة، إلا أن معجزة الرسالة هي القرآن الكريم كما. ذكرنا وبيّنا كيف أنه معجز في رسمه، وأنه معجز في حفظه، وأنه معجز في تعامل الناس معه حفظاً وتلاوةً، وهو أيضاً معجز في نظمه، فهو له نظم فريد ليس كنظم الشعر، وليس كنظم سجع الكهان، وليس كنظم النثر، وليس كنظم الخطب، وليس كنظم الرسائل، وليس له شبيه في
هذا. النظم العجيب الغريب وهو من كلمات العرب ومن حروف العرب ومن معاني ألفاظ العرب. هذا الكتاب في مضمونه أيضاً نظم، ففي مضمونه سنن إلهية، وفي مضمونه مبادئ عامة، وفي مضمونه منظومة قيم مبثوثة ومبنية على هيكل قويم، وفي مضمونه اتصال وترابط يجعل القرآن الكريم كالجملة الواحدة، وفي مضمونه إحكام هو. موجود في كل آياته وفي مضمونه إعجاز في استعمال
مفرداته وألفاظه وتراكيبه وبلاغاته، وفي مضمونه نُظُم عجيبة غريبة معجزة في ذاتها، وفي مضمونه حقائق سواء كانت تاريخية أو كانت نفسية أو كانت كونية أو كانت إلهية، وفي مضمونه أحكام وشريعة أساسها الإنسان. هذا هو ديننا وكنا نتمنى أن نسير وراءه. كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرناها لنوضح لكم ما ديننا وهو عنوان هذا البرنامج "القرآن الكريم هو ديننا". القرآن الكريم يشتمل
أولاً على ما يُسمى بالسنن الإلهية، فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً. سنة الله هي هذه القواعد التي بنى الله عليها هذا الكون المُكوّن. من الجماد ومن الحيوان ومن الإنسان ومن التاريخ وجريان الزمن، ولذلك فهناك سنن في الآفاق وهناك سنن في الأنفس وهناك سنن إلهية جارية في التاريخ. "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". كلما تقدم الإنسان بتأمله وتدبره وحاله وماله فإنه يصل
إلى إدراك السنن الإلهية. حاولنا. أن ندرس السنن الإلهية في القرآن الكريم فوصلنا إلى نحو تسعين سنة بالتفصيل، وتناولنا قضية السنن الإلهية التي أشار إليها علماء الإسلام وألفوا فيها، وإن كان الاهتمام بها إنما هو اهتمام حديث في الستين سنة الماضية. أشاروا إلى أن هذه السنن التي تكون بالتفصيل تجمعها مجموعات تجعل هناك سنناً. إلهية جارية ينبغي علينا أن ندركها حتى لا نصطدم بها بل نسير معها فنفوز بسعادة
الدارين؛ بسعادة الدنيا استقراراً للنفس وللفرد وللمجتمعات، وسعادة الآخرة. من هذه السنن التي يمكن أن نتحدث عنها بعد ذلك بتفصيل هي سنة التكامل، فالكون مبني على التكامل وليس مبنياً على التضاد والتخاصم والتقاتل والصدام. كل هذا موجود في هذا الكون إلا أنه ليس هو الأصل، إنما الأصل عندما خلق الله الخليقة أن يكون هناك تكامل، ثم إذا خرجتُ عن التكامل أكون قد خرجتُ عن سنة الله في كونه. السنن الإلهية منها ما هو سنة تتعلق بالآفاق، وهناك
سنن تتعلق بالإنسان، وهناك سنن تتعلق بالتاريخ. ولذلك فهناك سنن إلهية تنقسم إلى سنن إلهية تاريخية وسنن إلهية في الأنفس وسنن إلهية في الآفاق. السنن التي في الآفاق منها مثلاً الجاذبية. موجودة منذ خلق الله الخلق، وهي سبب جريان هذه الكواكب حول الشمس، وهي سبب هذا الترابط الموجود في الكون، وهي سبب هذا البناء الذي بناه. الله سبحانه وتعالى فوقنا المسمى بالسماء. الجاذبية موجودة، ولكن فتح الله على شخص اسمه نيوتن عندما سقطت التفاحة، فخطر في باله أن شيئاً
قد جذبها كما يجذب المغناطيس الحديد، وأن هذه الجاذبية لها قوانينها، وأن هناك كتلة هي التي تنزل إلى الأرض، وطبقاً لهذه الكتلة تكون السرعة، وطبقاً لهذه الكتلة. يوجد قوانين لا بد أن نعرفها من الفعل ورد الفعل إلى آخره، ومن عجلة التساقط، ودخل في الميكانيكا ووضع فيها مثل هذه القواعد التي أحدث بها ثورة علمية في قضية التعامل مع الكون بعد إقليدس. كان في اليونان، لكن هنا نيوتن أضاف إلى العلم شيئاً جديداً وأضاف
إلى هذه. المفاهيم شيئًا جديدًا بمعرفة سنة من سنن الله في كونه، يذكرنا هذا بأرخميدس وهو يكتشف قانون الطفو. هذا القانون الذي تطور فيما بعد إلى أن استطاع الإنسان، بموجبه وبموجب الهيدروليكا والقوى المائية وبموجب هذه الدراسات المتعمقة، أن يُدخل الحديد في صناعة السفن وألا يقتصر الطفو على الخشب فقط لما فيه. من خاصية الطفو فوق الماء، بل إن الحديد أيضاً طفا فوق الماء، وفي عام ألف وثمانمائة وثلاثين دخل الحديد إلى صناعة
السفن، وأدركوا أن التوزيع الجغرافي والاقتصادي قد اختلف بسبب دخول الحديد إلى السفينة، المبني على إدراك سنة إلهية في الآفاق. هناك سنن إلهية في الآفاق، ولكن هناك أيضاً سنن من ضمنها أيضاً كما ذكرنا السنن النفسية التي هي في المجتمعات كالعرف الذي بين الشعوب أو كالتكامل الذي بين الإنسان وأخيه الإنسان، فهناك سنة التداول، إذ إن التداول هي سنة الله سبحانه وتعالى. ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع، في تغير يحدث، وهذا يذكره ابن خلدون
في مقدمته. البيت من الشعر وهو يشير وتلك الأيام نداولها بين الناس، وعندما يتطور الفكر السياسي فنرى أن قضية المسؤولية وقضية المشاركة وقضية التداول هي أركان ثلاثة في عملية الحكم والسياسة. لا بد أن يكون هناك تداول للسلطة، ولابد أن يكون هناك مشاركة في اتخاذ القرار، ولابد أن يكون هناك أيضاً مسؤولية. نرى أن هذا قد انبثق من تلك الفكرة وهي فكرة التداول وأنه وتلك الأيام سنة كونية إلهية تاريخية نداولها بين الناس. إذا
تأملنا القرآن الكريم من خلال السنن الإلهية، من خلال المبادئ العامة التي سنفيض فيها، من خلال الجملة الواحدة، ومن خلال الأحكام والأحكام، ومن خلال الحدائق، فإننا سنراه كتاباً. هداية كما أرادها لنا ربنا سبحانه وتعالى هدىً للمتقين. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.