هذا ديننا | 12 | السنن الإلهية جـ2 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تكلمنا عن كيف يكون القرآن كتاب هداية، تكلمنا عن أنه قد مُلِئَ بالسنن الإلهية التي بحثها بعضهم فجعلها أكثر من تسعين سنة من سنن الله سبحانه
وتعالى، بعضها سنن إلهية في الكون، وبعضها سنن إلهية في النفس البشرية فرداً ومجتمعاً، وبعضها سنن إلهية في التاريخ. وهذه السنن الإلهية قد ألف فيها المؤلفون كثيراً وبأنواع مختلفة وفي الأنواع الثلاثة حتى جعلوا لها. موسوعة تضم التأملات والتدبرات التي تدبرها المحدثون في كتاب الله. السنن الإلهية إدراكها يمكننا من تحويل القرآن الكريم إلى كتاب هداية، لا نقف عند حد سماعه وتلاوته، بل نتعمق في معانيه ونرى مراده ومآلات هذه المرادات في النفس
البشرية وفي التاريخ، كيف يكون من هذه السنن الإلهية يتبين لنا أن... العدل أساس المُلك، وإن أي شيء قد بُني على الظلم فإنه ينهار، وإن الله من أسمائه العدل، وإن العدل قيمة مطلقة موجودة قبل وجود الإنسان. يحاول كثير من الناس في الثقافات الغربية أن يدّعوا أن العدل إنما هو القوة، وأن العدل أمر نسبي وليس مطلقاً، وأن كل ما تستطيع أن تكسب به شيئًا فيجب عليك أن تلعب به ما تكسبه فالعب، والغاية تبرر الوسيلة، والأمر
الواقع هو العدل والخضوع له، ولهذا الأمر الواقع هو العدل. ولذلك فما تفعله إسرائيل من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني هو العدل لأنها تمتلك قوة لا يمتلكها الشعب الأعزل، ولأنها تفعل ما تريد لا ما هو. العدل هذا المفهوم المعوج الغبي الذي يؤدي إلى النزاع والخصام وإلى الصدام لا يتفق مع سنن الله سبحانه وتعالى في كونه التي دلتنا على أن العدل هو أساس الملك وهو أساس الحياة وأن الظلم ظلمات يوم القيامة وأن الله سبحانه
وتعالى لا يظلم عنده أحداً، لا يظلم أحداً ولا يظلم. عنده أحد وأن العدل هو الله سبحانه وتعالى إلى آخر هذه المفاهيم التي نراها في القرآن الكريم نحو تلك السنة الإلهية أن العدل أساس مهم حتى قال الفقهاء إن الكافر العادل خير من المسلم الظالم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يستجيب للمظلوم ولو كان كافراً فقضية العدل قضية متجاوزة للعقائد ومتجاوزة للجنسيات ومتجاوزة لكل شيء، وكانت دولة الإسلام عبر القرون هي دولة القانون ودولة العدل، ولذلك
كان القضاء يلعب فيها ويقوم فيها بأدوار مهمة للغاية في استقرار الناس. وهذا القاضي شريح وما أدراك ما القاضي شريح، ولعلنا في مرة من المرات أن نخصص له حلقة في حياته. وفي علمه وفي قضائه وكيف كان عادلاً بين الناس، كيف كان أبو يوسف القاضي قاضياً عادلاً بين الناس، كيف كان علي بن أبي طالب عليه السلام عادلاً بين الناس، كيف كانت الصحابة الكرام تقوم بهذه المهمة، وما هي الأحوال التي تعلموها من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو. في منصب القضاء عادلاً بين الناس، وهو الذي يقرر للقضاء منهاجاً فيقول: قاضٍ في الجنة وقاضيان
في النار، ويحذر من أن يحيد القاضي عن العدالة، حتى أن ابن عباس فيما يرويه عنه أبو مجلس رضي الله تعالى عنهما، عندما تعرض لقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم كفر دون كفر هذا القاضي يرتشي، فسمى الله سبحانه وتعالى رشوة القاضي بالكفر لأنه حياد عما أنزل الله من طلب العدل ومن الحكم بالعدل بين الناس. سنة إلهية يجب علينا أن نفهمها وأن نتفهمها وأن ندركها لأنها بها المعيشة وبها نستطيع أن نسير في هدى القرآن الكريم ويفتح
لنا أبوابه. القرآن الكريم من معجزاته أنه يفتح أبوابه للمتقين وأنه يغلق أبوابه على غير المتقين، قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، لكنه في نفس الوقت قال تعالى: "وهو عليهم عمى"، هذا القرآن عمى للظالمين الذين يدخلون معه وهم في حالة استخفاف أو في حالة رفض أو في حالة... محاولة معرفة التناقض الذي يرونه فيه، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. فبعض الناس يريد أن يخرج اختلافًا فيه، فيَضِلُّ ويُضِلُّ،
ولكن ذلك الذي دخله وقد جعله هداية له هو نفس النص، إلا أنه هنا هدى وهنا عمى هو. نفس النص وهذا من إعجاز نظمه ولفظه، وبذلك نرى أن قضية السنن الإلهية التي جعلناها عنصراً من عناصر الهداية يجب على المسلمين أن يهتموا بها. ونحن ندعو إلى تجديد الخطاب الديني. تجديد الخطاب الديني سيتأتى عندما يرجع القرآن إلى حالته الأولى. كيف يرجع القرآن إلى حالته الأولى؟ أن نبني حضارتنا. علينا التمسك باللغة العربية لأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. ما تقدم أهل
اليابان إلا بتمسكهم باللغة اليابانية، وما تقدم الأمريكيون إلا بتمسكهم بالإنجليزية، وما تقدم الألمان إلا بتمسكهم بالألمانية. ليس هناك شيء اسمه أن تترك لغتك، فكل العلوم تُدرس في إيطاليا باللغة الإيطالية، ولذلك لا بد علينا أن نعود. مرةً أخرى إلى تدريس العلوم باللغة العربية وأن نهتم اهتماماً بليغاً بتعلم اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية، وهذا أمر آخر غير التدريس باللغة العربية، لأن التدريس باللغة العربية سيؤدي بنا إلى التمكن من هذه اللغة، وسيؤدي بها إلى الحفاظ على هويتنا وإدراك تراثنا على الوجه الصحيح وإدراك عصرنا على الوجه الصحيح.
وكيف نصل هذا بذاك على الوجه الصحيح وكيف نبدع وننشئ ونساهم في الحضارة الإنسانية على الوجه الصحيح. أول أركان النهضة الاهتمام باللغة العربية، يلي هذا الاهتمام بتوثيق. يجب علينا أن نتعلم لأن "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، ولذلك يجب. علينا أن نتعلم وأن نعلم وأن نهتم بالعلم ثم العلم ثم العلم، وهو ما نسميه بالتوثيق، بأن يكون لدينا توثيق. لا بد أن نهتم بدار الكتب، لا بد أن نهتم بدار الوثائق، لا بد أن يكون لدينا أرشيف. إن
ما حدث من إحراق المجمع العلمي جريمة تساوي جريمة المغول وهم. احتلالهم لبغداد يساوي جريمة الرومان عندما أشعلوا مكتبة الإسكندرية، ولذلك فإن التوثيق إذا لم نهتم به ولم يكن لدينا خرائط للصرف الصحي وخرائط للمجال وللمياه وخرائط للكهرباء والهاتف، فإننا نكون قد خرجنا عن فكرة التوثيق، والتوثيق هو الذي بُنيت عليه الحضارة الإسلامية. القضية الثالثة هي منظومة الأخلاق، وهذه المنظومة هي الحضارة ولذلك إذا أردنا تجديداً للخطاب الديني فعلينا أن نهتم بالسنن الإلهية التي شرحنا طرفاً منها ونهتم بها اهتماماً بليغاً
في تدريسها وفي توضيحها وفي أن نعيشها لا أن نعرفها ولا أن نؤمن بها فقط ولا أن نتعامل معها فقط ولكن أن نعيشها أن تصبح ملكاتنا جزءاً من هذه السنن. الإلهية الربانية فنستطيع أن نحصل كما حصلت الأمم الأخرى وما حصل المسلمون عبر التاريخ ونستطيع أن ننشئ حضارة تظلنا يوافق عليها كل من يعيش في هذا الوطن الكريم من مسلمين ومن غير مسلمين فالكل يوافق على وجود هذه الحضارة الإسلامية التي بنيت أساساً على هدي من الله سبحانه وتعالى. للمتقين، هذا ما أردت أن أتحدث عنه. كانت لمحات سريعة حول قضية
السنن الإلهية، ثم نتناول بعد ذلك شيئًا فشيئًا ما ذكرناه من المبادئ العامة ومن منظومة القيم ومن قضية الأحكام، ومن هذه القضايا قضية تلو قضية في لقاءاتنا المتتالية إن شاء الله عبر هذا البرنامج. ديننا، إلى لقاء آخر. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته