هذا ديننا | 13 | السنن الإلهية جـ 3 | أ.د علي جمعة

هذا ديننا | 13 | السنن الإلهية جـ 3 | أ.د علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة متجددة من برنامج "ديننا". ديننا كما شرحنا في حلقات سابقة مصدره القرآن
الكريم والوحي، وعرفنا. كيف نزل وكيف أن القرآن الكريم كان معجزة رسالة تجاوزت الزمان والمكان وأنه لا يزال معجزاً ولا يزال يعطينا من إعجازه ما يبهر العقول وأنه يشتمل على الهداية لكن الهداية للمتقين لمن أراد أن يستفيد منه وحتى يتحول القرآن إلى كتاب هداية يجب علينا أن نتأمل السنن الإلهية التي ذكرها. الله سبحانه وتعالى فيها منها ما هو سنن كونية في الآفاق، ومنها ما هو سنن نفسية في نفس الإنسان، ومنها ما هو سنن اجتماعية في الاجتماع البشري، ومنها
ما هو سنن تاريخية تجري في التاريخ ولا يدركها إلا من قرأ التاريخ واستفاد منه ووقف عند عِلَلِهِ ودروسه، والله سبحانه وتعالى. يتكلم في كل هذا في القرآن الكريم ويجب علينا أن نتأمل هذه السنن التي عدّها بعضهم أكثر من تسعين سنة إلهية أشار إليها الله سبحانه وتعالى وضربنا المثل بهذه السنن الإلهية بسنة التعارف فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وجعل التعارف سنة فيه {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} ومن هنا تتولد سنة أخرى وهي
سنة التكامل وهذا هو الذي عليه الإسلام، وهي مسألة فلسفية حارت فيها الحضارات، فجعلت بعض الحضارات العلاقة الأساسية بين الإنسان والكون، بين الإنسان ونفسه، بين الإنسان وجاره هي الصدام والصراع. لكن الصراع والصدام موجود في الدنيا لكنه ليس هو الأساس، ليس هو الذي يأمر به الله. ليس هو الذي خلق الله الخلق وربط نجاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة عليه، لكن بعض أهل المصلحة يرون أن الصراع هو الأساس، وأن الصدام هو الأصل، وأنه ليس هناك ما يسمى بالتوائم أو بالتكامل أو بالاتساق
الذي بين الإنسان والكون، بين الرجل والمرأة، بين الحاكم والمحكوم، بين صاحب المال والعامل. بين الدول بعضها مع بعض، بين المجتمعات بعضها مع بعض، بين الجار وجاره إلى آخره، فارق كبير جداً أن نعتبر أن الأصل هو الصدام والصراع، وأنه لا نجاح إلا بالصدام والصراع، وبين أن نعتبر أن الأصل هو التكامل، وعرفنا في قوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على" للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله. كيف أن هناك تكاملاً يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ
منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم". رقيباً، إنه التكامل، إنه التعارف، وهكذا فوجدوها نحو تسعين سنة. هذا تذكير بما مضى ووصل لما نقوله اليوم عن ما يسمى بالمبادئ القرآنية. حتى يصير القرآن كتاب هداية وحتى نجدد من فكرنا الديني ومن خطابنا الديني، ينبغي علينا أن نتدبر وأن نتأمل هذا الكتاب، كتاب الله المسطور، كتاب الوحي وأن... نستخرج منه وأن نقف عند ما يسمى بالمبادئ القرآنية، والمبادئ جمع مبدأ، وكلمة
مبدأ معناها مصدر ميمي كما يقول أهل النحو، والمصدر الميمي مصدر مبدوء بميم "مبدأ"، وهذا المصدر يدل على الزمان أي زمن البدء مثلاً، أو المكان أي مكان البدء، أو نفس الحدث أي البدء نفسه، ولذلك عندما نتعمق مبدأ، فإننا نجد فيها هذا التنوع أو هذين المعنيين أنها دالة على بدء الزمان أو بدء المكان أو نفس البدء. مبدأ، إذاً لا بد علينا أن نفهم البدء. والبدء في كل شيء يبدأ بالانطلاق من نقطة معينة فتكون نقطة
البداية إلى نقطة أخرى فتكون الغاية، تكون النقطة المطلوبة المقصودة. الذي من أجله توجهت، فعندما أقول ذهب التلميذ إلى المدرسة، فالمدرسة غاية وهدف من المنزل، يكون المنزل هو البداية فهو مبدأ. مثل هذا تماماً في المصدر الميمي: مسجد، هذه مصدر ميمي. بعض الشباب لا يعرف هذه المعلومة البسيطة التي يدرسها العلماء في الأزهر، أن المبدأ وأن المسجد مصدر ميمي. في المسجد يُطلق على زمان السجود وعلى ذات السجود وعلى مكان السجود، ولذلك عندما قال الله سبحانه وتعالى:
"لاتخذوا عليه مسجداً"، فالمسجد هنا حقيقته هو هذا المكان الذي يعبدون فيه الله سبحانه وتعالى. ولكن مسجد أيضاً معناه موطن السجود، ومسجد أيضاً معناه زمن السجود، فلم يستطيعوا فهم كلام الإمام البخاري. في حديثه الذي يقول: إن أولئك إذا مات الرجل منهم من الأنبياء أو الصالحين، اتخذوا على قبره مسجداً، فظنوه مكاناً للصلاة، والمقصود أنهم سجدوا لمن في القبر. فالمسجد هنا يختلف عن المسجد بمعناه الآخر، لأن كلمة "مسجد" مصدر ميمي يُطلق على الزمان والمكان والحدث. ولذلك، ما معنى المبدأ القرآني؟ المبدأ
هذه الصياغة التي لا تعبر عن سنة الله في كونه ولا تعبر عن حقيقة ولا تعبر عن عقيدة ولا تعبر عن حكم، إنما تعبر عن شيء يمكن أن نبدأ به في عالم القانون، عالم العلوم الاجتماعية والإنسانية، عالم الدين، عالم الاجتماع البشري، عالم الأسرة، عالم مثل ماذا؟ لا تزر وازرة. نذرٌ أخرى، هذا مبدأٌ أقرَّه القرآن، هذا مبدأٌ أكده القرآن: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا". فالإنسان لا يقرأ كتاب أخيه، بل إنه "يوم يفر المرء من
أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ". شأن يُغني، فهو بهذا المبدأ "لا تزر وازرة وزر أخرى" أقرّ حرية الإنسان وأقرّ مسؤولية الإنسان، وهما وجهان لعملة واحدة، فأصبح الآن أنني لا أتحمل خطيئة أبي. وضرب القرآن أمثلة كثيرة وكأنه يشرح هذا المبدأ المهم الذي سوف ينقذنا في كثير من المواقف في علم القانون وفي علم العقوبات وسينقذنا. في علم النفس وسينقذنا في الاجتماع البشري أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وسيتحكم هذا في نظرية الثواب والعقاب
سواء كانت الحوافز أو المنع من الجريمة. إن مبدأ "لا تزر وازرة وزر أخرى" سيتحكم في الحريات السياسية، وسيتحكم هذا في حقوق الإنسان، وسيتحكم هذا في أشياء كثيرة للغاية فيها هذه. الاستقلالية للإنسان "لا تزر وازرة وزر أخرى" مبدأ لأنه يصلح أن يستخدم في كل هذه المناحي وتلك العلوم، ولأنه في ذات الوقت هو لا يعبر عن حكم أو أمر أو نهي، لكنه يعبر عن مسألة خلقها الله سبحانه وتعالى. وهناك من درس مثل هذه المبادئ في كلية أصول الدين الدكتور. مصطفى عبد الكريم
وطبع كتابه "المبادئ العامة في القرآن"، هذا كلام جديد وليس له سابق، جمع أكثر من ثلاثين مبدأً من المبادئ العامة، وما زال البحث مفتوحاً أمام الباحثين، يضيف كل باحث ما فتح الله عليه به، فإن القرآن لا تنتهي عجائبه ولا يَخلَق من كثرة الرد كما قال فيه الله صلى الله عليه وسلم سيبقى هو النبي المقيم وهو معجزة الرسالة كما قدمنا. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.