هذا ديننا | 14 | المبادئ العامة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات "ديننا". رأينا معاً كيف أن القرآن إنما هو كتاب هداية، هدىً للمتقين. وحتى نصل إلى مرتبة هدى للمتقين ينبغي
علينا أن نتدبر القرآن، أن نعيش مع القرآن، أن نعيش بالقرآن، أن نعيش في القرآن. وحتى نتأمل القرآن "أفلا يتدبرون القرآن"، فينبغي علينا أن نستخرج منه ما أسميناه بالسنن الإلهية، سواء كانت هذه السنن الإلهية تاريخية أو نفسية أو كونية أو اجتماعية، وقلنا. قبل ذلك مراراً أن هذه السنن قد استخرج بعضهم بعضها في تسعين سنة وصل إليها المستخرجون، وتكلمنا أيضاً عن جانب آخر من هداية القرآن الكريم وهو أنه يشير إلى المبادئ العامة، والمبادئ العامة هي تلك الصياغات التي أتى لنا بها القرآن الكريم. هذه
الصياغات تصلح لأن تكون مبتدأً في علوم. عندما يقول ربنا سبحانه وتعالى "عفا الله عما سلف"، هذا مبدأ استعمله أهل القانون وتكلموا عن عدم جواز الأثر الرجعي للقوانين. لا يمكن أن يصدر قانون الآن يحاسبني على الماضي، لأن الماضي واقع لا يرتفع، ولكن يصدر القانون اليوم فيحاسبني منذ الآن. أما السابق "عفا الله عما سلف" إلا ما... قد سلف، فهذا مبدأ يصلح كما يصلح في القانون، يصلح في التعامل اليومي بين الإنسان وجاره في السوق
وجاره في السكن وصديقه في العمل وزميله في الرحلة. يصلح "عفا الله عما سلف" عمّن أساء إليك مثلاً، فتقول له: "عفا الله عما سلف"، نبدأ صفحة جديدة. فكرة أن نبدأ صفحة هذه مختلفة في مفهومها عن القانون لكنها تحت نفس العنوان "عفا الله عما سلف"، وذكرنا أن أحد الباحثين وهو الدكتور مصطفى عبد الكريم أخذ في هذه الرسالة العلمية من كلية أصول الدين، وهو مبحث جديد في تجديد الخطاب الديني، وهو أن نبحث عن المبادئ العامة ونحولها من كلمات قد... لنستمع إليها كبرنامج للتربية ثم نعيش هذه المبادئ العامة فنحصل على النجاح في الدنيا والسعادة
في الدنيا والآخرة. المبادئ العامة كانت هي الجزء الثاني من تحويل القرآن لمراد منزله سبحانه وتعالى وهو هدى للمتقين. نريد أن نحول القرآن إلى كتاب هداية كما هدى الأولين، كما بنى جيل الصحابة، وما زلنا على هذا البناء إلى يومنا هذا بناء شامخ وأسس متينة نتج عنها انتشار للإسلام ونتج عنها حضارة للمسلمين ونتج عنها سعادة غامرة رآها الخلق، ولكن بعد كثير من المسلمين عن كتاب ربهم وعن هداية هذا الكتاب، ولذلك دخلنا في ضد
مقصود هذا الكتاب فدخلنا في الصدام ودخلنا في الكراهية ودخلنا. في القسوة والعنف يا عائشة إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه. القضية الثالثة مع السنن الإلهية والمبادئ العامة هي أن هذا القرآن كالجملة الواحدة، هذا كلام الأقدمين، وهذا يؤيده قوله تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ". إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون، فإذاً الله ينهانا أن نؤمن ببعض الكتاب وأن نكفر ببعضه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يضربن
أحدكم بعض القرآن ببعض"، يعني لا تضربوا القرآن بعضه ببعض، ويقول في هذا المعنى: "أتحبون أن يكذب على الله ورسوله عندما تعطي صورة سيئة للإسلام وصورة غير حقيقية، ففي الحقيقة أنت تشوه صورة الإله في أذهان البشر وتكون صاداً عن سبيل الله وتكون حجاباً بين الخلق ومخلوقيه. وتفتي في الناس وتصور لهم أشياء بغباوة، وهذا صد عن سبيل الله بغير علم، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله فأخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، ونحن لا نرى من هذا إلا دماءً تُراق على الأرض بغير حق ومن غير مستحقيها، فهذا فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً. وعلى ذلك، فإن المبحث هو أننا يجب أن نتعامل مع القرآن جملة واحدة، وسوف نعالج هذا الأمر بعد ذلك من الآن
ما أسميناه بالهرم المقلوب، وفكرة الهرم المقلوب هي أن بعض الناس قد تعلموا الدين بطريقة خاطئة وأخذوا مفردات الدين بطريقة خاطئة، ولذلك فإنهم فهموا الدين وكأنه هرم مقلوب قاعدته فوق ورأسه تحت، والهرم إذا انقلب انهار لأن ثقل القاعدة سوف ينهار مع ضعف القمة، فالقمة جعلناها في الأسفل. وهذا لا يُرضي الله سبحانه وتعالى. الهرم المقلوب، ماذا نعني به في عبارة أن القرآن كالجملة الواحدة؟ يا أخي، اقرأ القرآن، ما الذي يقوله
ربنا سبحانه وتعالى؟ أول ما تقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، هذه بسيطة، ولكن بعدما واجهنا الحياة وعرفنا أشياءً كثيرةً جدًا من العلوم ومن الواقع، عرفنا... أن المشايخ كان عندهم حق وأن "بسم الله الرحمن الرحيم" هذه مهمة للغاية، لأنه كان يقول لنا الشيخ إن "بسم الله الرحمن الرحيم" فيها أن الله تعالى له صفات الجمال والجلال وله صفات الكمال، ولم يقل "بسم الله الرحمن المنتقم"، إذاً هذا له معنى وله فائدة. "بسم الله الرحمن الرحيم" إلهي للبشر جمال في جمال، فعلى سبيل قول الحكماء: "تخلقوا
بأخلاق الله"، فإننا أمام رحمة في رحمة. ولذلك هذا الإنسان الذي يصور نفسه قاسياً ويأتي على الفضائيات ويقول: سأذبح وسأقتل وسأفعل وسأجعله دماً يجري على الأرض، هذا لا يفقه شيئاً. فإذا استدل بأي آية "وقاتلوا في سبيل الله"... الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين استُدل بها بطريقة خاطئة، لأن هذه الآية لو تأملناها لوجدناها قد خاطبت الفارس النبيل المسلم الذي بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وتخلق بها وعاش فيها، فلما جاءه ربه بعد ذلك في قمة الهرم وهو يقول له "وقاتلوا" لم
يقل له "اقتلوا". بل قالوا وقاتلوا، والقتال من طرفين في سبيل الله وليس في سبيل شيء آخر مثل نوال الحكم ونوال الملك. يؤتي الملك من يشاء. الذين يقاتلونكم، وبالرغم من ذلك وأنه يريد قتلي وقتالي واغتصاب أرضي واغتصاب من، إلا أن الله سبحانه وتعالى يقول: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". الذي يعتدي هو الذي يُخرج الناس من أراضيهم، ولذلك بعدها "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم". عندما أعطى الله سبحانه وتعالى المسلمين حق القتال لأنهم قد أُخرجوا من ديارهم، فإذا جاءت
جماعة من الخوارج وأخرجت الآشوريين والإيزيديين والمسيحيين من ديارهم، أصبح هؤلاء هم الذين معهم الحق، وأصبح هذا هو الذي يحكم بغير ما أنزل الله كل ذلك لأنه لم يقرأ القرآن كجملة واحدة، فهم بعض القرآن ولم يفهم بعضه الآخر. كل ذلك لأنه تعامل مع القرآن بمشربه وعقله وغاياته ومراداته، ولم يتعامل معه كما أنزله الله سبحانه وتعالى هدى للمتقين، فهذا الذي نعنيه من قولنا القرآن كالجملة الواحدة. لا ينقض بعضه بعضاً أبداً. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.