هذا ديننا | 16 | الناسخ والمنسوخ | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أولادنا في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تكلمنا كيف نجعل القرآن كتاب هداية وأن هذا هو المقصود الأهم في حقيقة. الأمر في تجديد ديننا، ويبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لأمته أمر
دينها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. عُدَّ منهم الإمام الغزالي رحمه الله، وعندما ألف الغزالي كتابه الماتع الذي يتكلم عن العبادات والمعاملات من ناحية، ويتكلم عن التخلية والتحلية من ناحية أخرى. تخلية... القلب من الربح وتحلية القلب بكل صحيح جعل له عنواناً يشير إلى هذا "إحياء علوم الدين"، وكأن علوم الدين قد أصابها الفتور حينئذ في القرن الخامس الهجري، وهو توفي في أوائل القرن السادس الهجري سنة مائة وخمسة هجرية، وأنه ينبغي علينا أن نحيي هذه العلوم مرة أخرى وأن نبني حضارة ألَّف هذا. الكتاب وهو يبني الإنسان في الهجمة الصليبية الشرسة، وكانوا قد
احتلوا القدس، وعندما منَّ الله عليَّ بزيارة القدس الشريف، افتتحت هناك كرسياً لدراسة تراث الغزالي الذي كتب إحياءه في المسجد الأقصى تحت الاحتلال الصليبي. لم يترك المسلمون القدس كما أراد هؤلاء أن نتركها، ذهبوا وكان هناك من العلماء في الشام. من يذهب إليها دوريًا من أجل إحياء هذا المعنى فيها، ولكن من أجل أن نحول القرآن إلى كتاب هداية وأن نحيي هذه العلوم، ينبغي علينا أن نقف وقفة جادة رأينا مشايخنا قد وقفوها وأوصونا بها. هذه
الوقفة الجادة هي قضية الناسخ والمنسوخ الذي هو مكتوب في كتب الأولين وأن هناك نسخًا. تلاوة وهناك نسخ حكم وأن هذا يحدث عندنا أربعة أصناف فهناك منسوخ التلاوة والحكم وهناك منسوخ التلاوة وليس الحكم وهناك منسوخ الحكم وليس التلاوة وهناك ما هو لا منسوخ التلاوة ولا منسوخ الحكم وهو المحكم كما يقول ذكرنا قبل ذلك أن كل القرآن محكم ونقول الآن أنه ليس هناك نسخ. تلاوة على الإطلاق، ذهب إلى ذلك الشيخ عبد الله القماري شيخنا رحمه الله تعالى، فألف
كتاباً ماتعاً صغيراً اسمه "ذوق الحلاوة بامتناع نسخ تلاوة"، وأن الأخبار الواردة إنما هي أخبار آحاد لا يلتفت إليها في هذا الأمر الخطير، وأنه أين هذا المنسوخ؟ وأن المنسوخ المنسوب إنما هو في غاية الركاكة. والسماجة والسخافة ولا يمكن أن يكون هذا قرآننا لأنه ليس على نمط القرآن وبعضه إنما هو في الحقيقة حديث نبوي. هناك ما هو سمج وهناك ما هو حديث نبوي وليس قرآناً إطلاقاً. نعم هو غاية في البلاغة إلا أن هناك فارقاً كبيراً بين
كلام سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا من معجزات القرآن أن كلام النبي مختلف، وليس هناك على وجه الأرض من يستطيع أن يكون له مستويان من الكلام: مستوى "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ومستوى "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين". ما هذا؟ هذا شيء وهذا شيء آخر وهذا الكلام يفيض فيه مصطفى الرافعي تحت راية القرآن وفي وحي القلم وفي كتبه كلها وأثبت من الناحية الحديثية أنه تتبع كل رواية حتى لو كانت في مظان صحيح تتبعها وردها فيبقى لنا أن نفسر قوله تعالى ﴿ما ننسخ من
آية أو ننسها نأت﴾ بخيرٍ منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ويقول الرازي في تفسيره أنه قد ذهب أبو مسلم الأصبهاني مع جماعة - إذاً فهناك جماعة من العلماء يقولون ما كنا نقوله في السابق - إلى أن هذه الآية خاصة بنسخ الشرائع، فلما أرسل الله إبراهيم أرسل بعده من ينسخ هذا. وهي شريعة موسى، وعندما أرسل الله موسى، أرسل من ينسخ شريعة موسى بشريعة عيسى، وعندما أرسل الله عيسى، أرسل الله من ينسخ شريعة عيسى بشريعة محمد الذي جعله خاتماً للأنبياء والمرسلين، فقال: "محمد رسول الله والذين معه أشداء
على الكفار رحماء بينهم". فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نبي". بعد ختم الرسالة وما ننسخ من آية، آية "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا". فالله سبحانه وتعالى "وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ". هذا هو النسخ الذي كان بين الشرائع. هذا كلام سيدنا عيسى لبني إسرائيل. في شريعة إبراهيم كان الإنسان يجوز له أن يتزوج عمته، فكانت... أم موسى هي عمة أبيه عمران، وكان اسمها كما ورد في آثارهم يوخاندا أو يوكاندا. تزوجت ابن أخيها وهو أكبر منها،
فالرجل تزوج عمته لأن هذا كان مباحاً في تلك الشريعة. ﴿لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً﴾. بعد ذلك أصبح هذا حراماً، وأصبح لا يجوز للرجل أن يتزوج عمته. ولا خالته. وكذلك في شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنه نهى عن أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها، كما أنه منع الجمع بين المرأة وأختها. شرائع مختلفة يأتي بعضها فينسخ بعضها بعضاً. أما حكاية أن هناك آية نسخت الآيات التي... قيل إنها نسخت حوالي مائة واثنتين وثلاثين آية من الستة آلاف وثلاثمائة وستة وثلاثين أو ستة آلاف ومئتين وستة
وثلاثين آية التي هي عدد آيات القرآن. مائة واثنتان وثلاثون آية قيل إنها نُسخت، فتتبعنا هذا الذي كان يتتبعه أول ما يتتبعه الدكتور مصطفى زيد في رسالة النسخ في القرآن الكريم. وقال: الحقيقة أن دعوى النسخ ضعيفة جداً ولا يقوم لها دليل، وآيات كثيرة جداً بُنيت عليها أحكام، ثم يأتي هنا ويقول هذه منسوخة ولكن الجماهير يقولون ليست منسوخة. تتبع هذه المائة والثلاثين آية اثنتين وثلاثين [آية]، فوجد أن كلها إلا تسع آيات. قال: أنا هذه التسع آيات أظن أنهم... منسوخة
لأنني أرى أن أحكامها لم تعد موجودة أو أحكامها، لم أفهم ما معنى هذا. في الحقيقة جاء الأستاذ عبد المتعالي الجبري وأمسك المائة والثلاثين آية كلها وتتبعها وأثبت أنه لا نسخ في القرآن حتى في تسعة آيات، وكان الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى يقول للدكتور مصطفى زيد: "هوّنت علينا". كان الشيخ أبو زهرة يذهب إلى أنه لا نسخ في القرآن، والشيخ عبد الله بن الغماري يذهب إلى أنه لا نسخ في القرآن، والأستاذ عبد الكريم الخطيب صاحب التفسير يذهب إلى أنه لا نسخ في القرآن. والحقيقة أن كثيرًا من العلماء كانوا يذهبون إلى أن القرآن كتاب هداية وأنه لا نسخ فيه. وأن كل آية معتبرة ومهمة.
فعلى سبيل المثال، نضرب مثالاً لبعض الآيات التي يقال إنها نُسخت وهي ليست منسوخة. "الآن خفف الله عنكم" هذا ليس نسخاً، هذا يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل أنه لا بد أن يقاتل عشرون صابرون فيغلبوا مائتين، أي أن الواحد يقابل عشرة. حسناً، إن كون الواحد يقابل عشرة أمر يشق علي. أن أنا أقاتل عشرة، ما معنى ذلك؟ هذا هو الحد الأعلى، وبعد ذلك "إن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين" يعني أن الواحد يغلب اثنين، فيكون الحد الأعلى واحد لعشرة، والحد الأدنى واحد لاثنين. إذا كان الذي أمامي اثنين وأنا واحد، لا يجوز أن
أفر. وإذا كان الذي أمامي أحد عشر، أفر على الفور. حسناً، لو كان عشرة وثبت أنه لا يوجد تغيير، فلا يكون حراماً عليّ، ولكن لو كان أحد عشر وأيضاً دخلت، فأكون منتحراً. ولذلك هذا هو الحد الأدنى والحد الأقصى. ليس هناك منسوخ في القرآن، فالقرآن كله كتاب هداية. أما أين المنسوخ فهو موجود في السنة، وهذا نتحدث عنه عندما نتكلم عن السنة. المشرفة: كتاب الهداية مُحكم بجملة واحدة، لا نسخ فيها. إلى لقاء آخر، يا
رسول الله. لقد رممنا كتابنا.