هذا ديننا | 20 | مقدمة حول السنة النبوية المشرفة | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 20 | مقدمة حول السنة النبوية المشرفة | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تحدثنا قبل ذلك عن الكتاب والسنة وأنهما مصدر الشريعة والعقيدة والدين. الإسلامي رحلنا
رحلة نرجو أن نكون قد ألقينا شيئاً من أضوائها على القرآن الكريم، والقرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تكلمنا عن كيفية قراءة القرآن الكريم فنصل منه إلى البحث عن السنن الإلهية، عن المبادئ العامة، وعن الأحكام الشرعية، وعن الحقائق المرعية، وعن منظومة. القيم ونحو هذا ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا نتعامل مع القرآن وكأنه جملة واحدة لا نكفر ببعضه ونؤمن ببعضه وأن نتعامل مع القرآن على أساس أنه كتاب هداية وأن
نتعامل مع القرآن على أساس أنه نبي مقيم وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه معجزة. رسالة وأنه تجاوز الزمان والمكان، فالقول بتاريخانية القرآن ضلال، أو أنه خاص بزمن النبي ولا يصلح لسواه. وهذه أمور كلها إنما هي خرافة وأسطورة يحاول بعض الناس [ترويجها] عندما عجزوا عن إدراك السنن الإلهية وعجزوا عن فهم المبادئ العامة، فوقفوا من القرآن هذا الموقف الذي يريدون به أن ينحّوه عن فشلت كلّ تلك المحاولات ولكن هذه المحاولات أصبح لها أثرٌ في الحياة، أثرٌ سيئٌ وسلبيٌّ. وأبعدت الناس بدلاً
من أن تدفعهم إلى حضن القرآن الكريم وإلى ظلّ القرآن الكريم، نهتهم ودفعتهم خارج هذه الدائرة وأبعدتهم عن القرآن الكريم بدعوى أنه كتابٌ تاريخيٌّ نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تغيرت الأحوال والأمر ليس كذلك كما شرحنا بتفصيل في محاولة المسلم لتدبر كتاب الله سبحانه وتعالى في قضية السنن الإلهية والمبادئ العامة والأحكام الشرعية والحقائق المرعية والمقاصد الدينية المصالح والمقالات وكيف أننا نقرأ القرآن كجملة واحدة وأنه محكم كله لا نسخ فيه ولا تشابه وتشابهه الذي
نص الله عليه إنما هو تشابه مع السابقين من أجل أنه مصدق لما بين يدينا من الكتاب ولأنه مهيمن على ما سبق من الأديان ولكل جعلنا منكم شرعة ومن هذه الصورة التي رحلنا معها توصلنا إلى المصدر الثاني وهو السنة المشرفة والسنة المشرفة هي تلك الأحاديث التي حفظ الله بها حال النبي صلى الله عليه وسلم ونقله إلينا. ألهم اللهُ المسلمين أن يحافظوا على القرآن الكريم وأن يحافظوا على السنة النبوية المشرفة وأن يحافظوا على تراث علمائهم وأن يحافظوا على لغتهم العربية التي نزل بها القرآن والسنة. ألهمهم
شيئاً لم يُلهمه لأمةٍ من قبل في مشارق الأرض ومغاربها عبر الزمان وهي قضية. التوثيق كان يتم في الحضارات السابقة بالتسجيل والكتابة، لكن في هذه الحضارة جاء بنقد النقلة وبالتسجيل والكتابة والمشافهة، ثم وضع نظام ننتقد فيه الرواية والدراية. ولذلك لم يكن هناك أحد من البشر، لا من الأباطرة ولا من العلماء ولا الأولياء ولا الشعراء ولا الأدباء ولا أي كان، قد حظي. بشيءٍ من
هذا التوثيق سوى النبي صلى الله عليه وسلم فكان فريداً وحيداً في هذا المعنى. شخصٌ ألّف كتاباً أسماه "العباقرة المائة" أولهم محمد. محمدٌ ليس عبقرياً، محمدٌ موحى إليه صلى الله عليه وآله وسلم. محمدٌ هو سيد الكونين وهو النبي المرسل المصطفى المجتبى من قِبَل ربه سبحانه وتعالى هو. من أذكياء الدنيا لكنه ليس من أجل هذا أصبح الأول، هو من أجل أنه كان مصطفى مختار من ربه أصبح الأول في كل شيء. سيدنا النبي حظي بنعمة من الله لا حول له فيها ولا قوة، ولم يكن يملك أمته
ولا ما حدث من بعده، ولكن الله ألهم تلك الأمة. أن تنزل سنة النبي إلينا، كيف كان ذلك؟ هناك ما يسمى بالأسانيد، وهذه الأسانيد للقرآن وهي أيضاً للسنة. لم يتلقوا القرآن من صحف يقرؤونها فقط، ولكنهم تلقوا القرآن من صحف يقرؤونها ومن علماء ومشايخ يحفظونه عن ظهر قلب، يُعلِّمون تلامذتهم. وكان هناك قُرّاء في عصر الصحابة الكرام، كان منهم أُبَيّ. بن كعب، وكان منهم الأئمة الأربعة الحنفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي،
وكان منهم عقبة بن عامر، وكان منهم عبد الله بن مسعود الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمعه بقراءة ابن أم عبد"، وهو عبد الله بن مسعود. رضي الله تعالى عنه، علّم النبي الصحابة وحفظوا القرآن الكثير ونقلوه لمن بعدهم نقلاً صوتياً حرفياً ملفوظاً مكتوباً مقروءاً متلواً بأحكامه، بطريقة تلاوته، بطريقة سكوته وكلامه، بطريقة فصله ووصله عن طريق المشافهة. وهذه هي صفقة اتباع النبي محمد في الكتب السابقة،
أن أناجيل لهم كتبهم لا يبلها الماء. نعم لأن... كتابي في صدري، فإذا نزلت حمام السباحة أو نزلت النيل فإنه لا يبتل لأنه داخل صدري، في حين أنه إذا كان في كتاب مكتوب ابتل ومُحي الكلام وذهب الحبر الذي على الورق. فهو في كتاب مسطور وهو في الصدور، والأساس له أنه في الصدور. القرآن أين أسانيده؟ أورد ابن الجزري. ألف سند في النشر في القراءات العشر أسانيد القرآن الكريم، فإذا التفتنا إلى السنة المشرفة وجدنا أن هناك أسانيد كم الروايات من الصحابة.
كان عددهم كلهم مائة وأربعة عشر ألف صحابي. المائة وأربعة عشر ألف صحابي نعرف نحن منهم أسماءهم تسعة آلاف وخمسمائة صحابي. التسعة آلاف وخمسمائة... سقط ألف وسبعمائة، الألف وسبعمائة ليسوا كلهم لديهم أحاديث كثيرة، الألف وسبعمائة فيهم ألف وخمسمائة أحاديثهم قليلة جداً، يكاد الواحد منهم يكون له حديث أو حديثان أو ثلاثة أحاديث على الأكثر، ومائتان لديهم أحاديث كثيرة: عشرون حديثاً، عشرة أحاديث، خمسة عشر حديثاً، إلى أن نصل إلى خمسة.
عشرة أشخاص لهم أحاديث كثيرة جداً: خمسة آلاف حديث، ثلاثة آلاف حديث، ألف وثمانمائة حديث إلى آخره، وهؤلاء يُسمون المُكثرون من الرواية. خمسة عشر شخصاً، فيكون إذاً الخريطة أمامي أن ألفاً وأربعمائة وأربعة عشر ألف شخص لم يرووا عن النبي. تسعة ونصف هم الذين يعلمون. أسماؤهم ما رووا عن النبي شيئاً، ألف وسبعمائة واحد فقط، فتخيل شخصاً يعيش حياته كلها لأجل أن يحفظ حديثاً واحداً، والحديث أيضاً الذي رواه لم يتفرد به، بل ربما شاركه فيه زميله من الصحابة وزميل آخر والثالث والعشرة والعشرون رووه، فكيف سيكذب على رسول الله؟
وسيكذب على رسول الله لماذا؟ ثم إذا تأملنا هذه الأحاديث، لو وجدناها أحاديث تدعو إلى الأخلاق. إن خمسة وتسعين في المائة من الأحاديث التي وردت إلينا في الأخلاق، ألف وسبعمائة صحابي وبعض هم الذين رووا. كم حديثاً رووا؟ جمعنا كل كتب الحديث التي أُلفت عبر القرون فبلغت حوالي مائتين. وخمسين عنواناً، مائتين وخمسين كتاباً جمعهم الشيخ جعفر كتاني في الرسالة المستطرفة في بيان مشهور كتب السنة المشرفة. مائتين وخمسين كتاباً، المائتين وخمسين كتاباً قمنا بعد الأحاديث التي فيها فوجدناها ستين ألف حديث. حسناً، هؤلاء
الستين ألف حديث كم شخصاً رواهم؟ لقد قلنا إن الرواة كانوا من الصحابة ألفاً وسبعمائة. مئة وواحد من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة، وحوالي ثلاثة آلاف واحد، وتابع التابعين حوالي ستة آلاف شخص. طيب، الستة آلاف شخص هؤلاء الذين أخذ منهم تلاميذهم كم عددهم؟ حوالي سبعة آلاف. عندما نحسبهم يكونون في حدود عشرين ألف راوٍ. العشرون ألف راوٍ رووا له ستين ألفاً. لم نكتف بذلك بل قلنا: حسناً، أين السند القوي وأين الضعيف وأين الحسن منها، وأصبح لدينا ثلاث درجات: إما صحيح أو حسن أو ضعيف، وأصبح لدينا نوع رابع خارج عن ذلك وهو الحديث المرفوض. وقسمنا
هذه الستين ألفاً فوجدنا منها نحو خمسة عشر ألف حديث صحيح، ووجدنا منها حوالي ربما عشرين ألف حديث حسن، ووجدنا الباقي ضعيفاً. ماذا نفعل الآن في هذه القضية؟ لننظر إلى الدراية، ما الذي يقوله هذا الحديث؟ ما فهمه؟ ما نصه؟ ما معناه؟ هل يصلح أم لا يصلح؟ هذا الموضوع يحتاج إلى حلقة منفصلة. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، وفي المرة القادمة نتحدث. عن القسم الثاني من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإلى اللقاء.