هذا ديننا | 21 | حفظ وتوثيق السنة النبوية المشرفة | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج ديننا. تكلمنا عن كيفية نزول القرآن وما الذي اشتمل عليه هذا القرآن واشتمل عليه من السنن الإلهية ومن المبادئ العامة ومن
الأحكام الربانية ومن الحقائق الكونية ومن المبادئ العامة إلى آخر ما هنالك من منظومة القيم التي بُنيت على أسماء الله الحسنى، وقلنا إن الله سبحانه وتعالى قد ألهم المسلمين قضية النقل والتوثيق. عند المسلمين هناك ألف سنة ذكرها محمد بن محمد. الجزري في طيبة النشر وفي كتابه النشر أورد هذه الأعداد المهولة الكثيرة المتكاثرة في نقل القرآن الذي لم ينقل إلينا عن طريق الصحف فقط ولا بترجمة من لغة إلى لغة وفقد الأصل ولا
بنحو هذا، وإنما نُقل باللغة التي نزل بها وهي لغة العرب. القرآن الكريم معجز في نظمه معجز. في رسمه معجز، وفي نقله معجز، وفي حاله فإنه يحفظه الأعجمي والعربي حتى دون أن يعرف معناه. يحفظه الأمي ويحفظه المتعلم، وهو وسيلة جيدة في هذا العصر الذي نعيش فيه لمحو الأمية. تجارب كثيرة في ليبيا وفي مصر لمحو الأمية عن طريق حفظ كتاب الله حتى للعجائز الكبار. الذين لم ينالوا حظًا من التعليم، إنه معجز لأنه معجزة الرسالة. لكن الله ألهم أيضًا المسلمين أن يحافظوا على السنة
المشرفة التي أمرنا الله باتباعها. "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً وغير ذلك من الآيات التي تأمرنا بطباع النبي وبطاعة النبي وبالتماس حال النبي صلى الله عليه وسلم. "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم". ألهم الله المسلمين بحفظ السنة المشرفة وعرفنا أن هذه السنة المشرفة قد نُقِلَت إلينا بنحو عشرين ألف راوٍ، وتكلمنا عن ذلك بتفصيل في حلقة سابقة. هؤلاء
الرواة منهم مَن هو قوي، ومنهم مَن هو عالم، ومنهم مَن هو فقيه، ومنهم مَن هو لغوي، ومنهم مَن هو ضعيف، ومنهم مَن هو دون ذلك. ولذلك فإنهم رتبوا مراتب القبول على سبعة أقسام حتى هذا. الذي نأخذ منه الحديث قد يكون أمير المؤمنين في الحديث، أو قد يكون إماماً يُسأل عن الناس ولا يُسأل الناس عنه، مثل الإمام مالك والإمام الشافعي، ومثل الإمام أحمد ويحيى بن معين، مثل الإمام البخاري والإمام مسلم. لا يقول أحد من الناس: ما حال البخاري؟ ما حال الشافعي؟ لأنهم قد بذلوا وأعطوا لهذه الأمة مجهوداً يبين أنهم على حق وأنهم أتقياء
وأنهم أنقياء وأنهم قد أدوا ما عليهم بإخلاص، لم يطلبوا بها الدنيا. تصدروا للخلق فأفادوهم، كانت في قلوبهم رحمة وعندهم علم، وعلم واسع وكبير، ولذلك فإن هؤلاء الصفوة من الرواة هم في الطبقة العليا حتى قيل فيهم فلان. لا يُسأل عنه، إنما يُسأل عن الناس، وهناك من هو ثقة، ووردت هذه الكلمة ونجدها في مصطلح الحديث أنه ثقة. والثقة مُنحت له لا باعتبار الإعلام والدعاية أو المناصب، بل مُنحت له بالتتبع والاستقراء، بمعنى
أنه صار هكذا عندما روى روايات. وعرفنا في حلقة سابقة كيف أن الصحابة الرواة لا يزيدون عن ألف وسبعمائة وبعض الكسر، أي ألف وثمانمائة صحابي من مجموع مائة وأربعة عشر ألف صحابي، وأن ألفاً منهم وأكثر لم يروِ إلا حديثاً واحداً. عاش حياته كلها لينقل لنا سطراً واحداً من كلام سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك نحو خمسة عشر واحداً فيهم. زادت أحاديثهم عن الآلاف، لم يُعطِ هؤلاء بهذا الشكل اعتباطاً مقاديرهم، بل تُتُبِّعت رواياتهم.
الإمام الشافعي يأتي لرجل اسمه محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى ويقول: "حدثني الثقة"، من ضمن أناس يقول فيهم نفس العبارة وليس محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى فقط، ولكن هذا الإنسان لماذا اخترناه؟ لأن الإمام يقولُ عنه أنه ليس بجيد، قد يكون ليس بجيد في رأيه، قد يكون ليس بجيد في اعتقاده، قد يكون ليس بجيد في حياته، ولكن الإمام مالك كان لا يقبل هذا الإنسان محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى، فيأتي الإمام البيهقي في القرن الخامس ويجمع مرويات محمد بن إبراهيم بن أبي. يحيى ويتتبع ويرى أن هذه المرويات كلها قد رُويت عن غير طريقه
وأنها وردت من غير طريقه تماماً كما رواه أكثر من مائة رواية يتتبعها البيهقي ويخرج بنتيجة أن محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى ليس كذاباً وليس مختلطاً وليس ضعيفاً بل هو ينقل نقل العلماء الأفذاذ وينقل إلينا السنة. كما وردت إليه تماماً مسألة موضوعية لا علاقة لها بالأشخاص، هناك عبّاد وأتقياء وأنقياء كانوا ضعفاء في النقل، كانت تختلط عليهم الأسانيد وتختلط عليهم الروايات وتختلط عليهم الألفاظ وتختلط عليهم المعاني، فرفضهم العلماء وضعّفوا حديثهم وقالوا: نحن نتكلم في رجال
قد حطّوا رحالهم قبلنا في الجنة، الله سبحانه وتعالى يدخلهم. الجنة بتقواهم لكن من ناحية العلم لا يقبلون، ومن هنا كان تقسيم السنة وتفصيلها إلى سبع درجات للمقبولين: ثقة وقبلهم لا يُسأل عنه، فهو أمير المؤمنين في الحديث، وبعد ذلك صدوق، وبعد ذلك لا بأس به، يعني مقبول، لا بأس به، وتأخذ هذه الدرجات في الانخفاض، فيقول الشيخ. شيخ يعني له اشتغال بهذا العلم ولكن لم يصل إلى درجة الصدوق أو درجة الثقة أو درجة ثقة الثقة إلى
آخره، وهناك أمثالها سبعة في الضعيف وآخرها كذاب وضاع أشر، يعني كذاب أشر، يعني هالك. وهذه الدرجات إنما ألهمها الله سبحانه وتعالى للمسلمين حتى يفعلوا فعلاً فريداً شريداً وحيداً. لم يفعله أحد من قبلهم ولم يلهمه الله لأمة من قبل أن يوثقوا النقل، وتوثيق النقل كان أساساً من أسس العلم الإسلامي، حتى أنهم بعد ذلك تعودوا عليه فأصبحوا يوثقون كل نقل، حتى الكتب التي ألفت وثقوها إلى قائليها ومؤلفيها، لأن من بركة العلم أن ينسب القول لأهله، وهذا حتى. لا يتكلم
الإنسان بكلام غيره ويعزوه إليه فيكون سارقاً بذلك، لكن عندما يقول هذا كلام فلان وأنا ألخصه أو أنظمه أو أشرحه أو ما شابه، فقد نسب الأمر إلى أهله، والعلم رحم بين أهله. اللهم ألهم المسلمين قضية الإسناد، وهذا الإسناد كان بحاراً من الأسانيد حتى وصلنا إلى مليون سنة في تصنيف هذه الأسانيد المليون فمنها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو شديد الضعف ومنها ما هو موضوع وكذب واختلاق وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي حذر من هذا فقال: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". نرى الإمام المسلم وهو يكتب صحيحه ويكتب حديثاً مهماً في مقدمة الصحيح: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع". وعندما كتب العلماء هذا فإنهم صنفوا تلك الأسانيد أيضاً إلى أحاديث متواترة، وهي قليلة جداً، قد لا تزيد عن مائة حديث أو تسعين حديثاً أو شيء من هذا، ومتواتر معنوي الموضوع وقد ذُكرت في أحاديث كثيرة لكن كل حديث منها مختلف عن الحديث الثاني، مثل قضايا علامات آخر الزمان، وقضية
المهدي، وقضية نزول عيسى من السماء إلى الأرض بجسده العنصري، وقضية ظهور الدجال في آخر الزمان ومكثه في الأرض أربعين يوماً. نجد مثلاً في أحاديث عيسى نجد أربعين حديثاً وهذه. الأحاديث كلها مختلفة، ينزل عيسى بن مريم حَكَماً عدلاً على المنارة الشرقية بالشام، أو ببيت لد، أو كذا إلى آخره. أحاديث مختلفة، لكنها كلها تتحدث عن معنى واحد وهو نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان. سنرى ما موقف أحاديث التواتر وما موقف أحاديث الآحاد، وما هو تقسيم هذه. سنتناول الأحاديث في حلقة قادمة إن شاء الله، ولكن ما نريد أن نخرج به
هو أن الله قد ألهم المسلمين بتوثيق مصدرهم وبتوثيق رواياتهم بما لم يلهم به أمة قط. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله