هذا ديننا | 22 | مؤلفات السنة النبوية | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 22 | مؤلفات السنة النبوية | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". في هذه الحلقة نستكمل سوياً هذا الخضم الهائل من بحار الأسانيد وبحار الرواية التي منّ الله بها على المسلمين، عرفنا
فيما سبق أن نقلة الحديث عبر القرون نحو عشرين ألف راوٍ، كل راوٍ له عندنا ملف يتضمن اسمه، نسبه، قبيلته، بلده، رحلاته، مدى علمه، شيوخه، تلامذته، درجته في العلم. وهذه الدرجة في العلم تتبين من إخوانه الذين حكموا عليه، وتتبين من بحث في حالة وهل الكلام الذي يقوله منضبط مع أصول الشريعة التي قد استُنبطت من الكتاب، مع أصول السنة التي قد استُنبطت من الأحاديث، مع أصول العقيدة التي استنبطها العلماء من مجمل مصادر الشريعة في الكتاب والسنة، مع إجماع الأمة
على هوية الإسلام، نعم إذاً فهو عالم من. الجماعة العلمية التي تُنشئ هذا الفهم الصحيح وتحافظ عليه تنص على أنه إذا كان الراوي ضعيفاً فإنه يُعطى درجة الضعف، ونأخذ منه بحذر، ونعرض دائماً مروياته على كل هذه الأصول بكيفية مركبة. لا أقول معقدة ولكنها متخصصة لا يعرفها إلا الناقدون الذين اشتغلوا بهذا العلم حتى أصبح عندهم إدراك للعلل. الخفية شبه المحدثون العلة الخفية بإذن
الصيرفي هذه التي هو الصراف فإنه عندما يأتي بالعملة المعدنية وتكون مغشوشة وكان قديماً يغشون العملة لأن العملة كانت ذهباً فإذا أمسك بالدينار الذي كان وزنه أربعة جرام وربع قال هذا مزيف أمسكه فقط لأن يده حساسة بالوزن هذا نراه الآن في المشتغلون بالصياغة إذا أمسك أحدهم شيئاً فيقول لك هذا مطلي بالذهب لكنه ليس ذهباً بمجرد أن يمسكه. لماذا؟ لأن للذهب وزناً وكثافة، والنحاس له وزن وكثافة أخرى، فعندما يرى بعينه الخبيرة التي رأت الذهب كثيراً، سيعلم أنه مطلي وأن ما في
يده أثقل مما... ينبغي لحجمه لأن يده قد تعودت على كثافة الذهب، ولذلك يستشعر هذا الشعور المتولد من الخبرة، وهو ما يُسمى بالعلة الخفية. فيقولون إن المحدث يدرك علل الحديث الخفية كما يدرك الصيرفي زيف العملة. فصاحب الخزينة بعد مدة من تمرسه في الخزانة، بمجرد أن يمسك هذه الورقة النقدية يعرف المزورة منها. من غير المزورة لماذا هناك شيء قد تربى في عقله، في وعيه، في عينيه أمام الصحيح
من المزيف، وهذا نراه. هكذا يكون حال المحدث، ولذلك المحدث ينظر إلى السند ويشعر أن شيئاً ما غير طبيعي فيه. لماذا؟ من كثرة سماعه للأسانيد، ومن كثرة دراسته للرجال، ومن كثرة عيشه مع هذا. كان الإمام الذهبي يقول: "والله لو أنني وقفت على أكمة (تل) ووقف الرواة العشرون ألفاً على أكمة أخرى، لناديت كل واحد منهم باسمه واسم أبيه وقبيلته، ولعرفت درجته". ما هذا؟ هذا تخصص! هل كان الإمام الذهبي لغوياً مثل المرتضى الزبيدي أو مثل الفيروزآبادي أو مثل ابن منظور في...
لسان العرب لا لم يكن هكذا، كان يعرف عالماً ولكنه لم يكن متبحراً هذا التبحر الذي تبحر به فيه الأصمعي والذي تبحر فيه أهل اللغة. هل كان فقيهاً مثل الشافعي مثلاً أو مثل مالك أو مثل أبي حنيفة أو أبي يوسف؟ أبداً، لكنه كانت عنده هذه القدرة وكان أحمد بن حنبر رضي الله تعالى عنه كانت لديه هذه القدرة أيضاً، وكان العلاء الكيلاتي يملك أيضاً مثل هذه القدرة، وكان الإمام البخاري كذلك. مرة بعد القرون الأولى قلبوا مائة حديث أسانيدها على البخاري، بمعنى أن مائة حديث لها مائة سند، فجعلوا الأسانيد العشرة الأولى للعشرة
الثانية، والعشرة الثانية. للعشر الأواخر وعُرضوا على الإمام وهو يقول: "لا أدري ما هذا الحديث، لا أدري ما هذا الحديث، لا أدري ما هذا الحديث". عندما تمت المائة اكتشف هذه الخدعة أو هذا الاختبار أو الامتحان. العلماء وهم يقولون: "ليس في حديث مثل هذا بسند، هذا الحديث لا وجود له". كانوا... يُعجب به العامة، فقالوا: "ما هذا الذي لا يعرف شيئًا؟" العلماء عرضوا عليه مائة حديث، ولكنه لم يُجب أن يعرف شيئًا منها. بعد أن انتهوا، ردّ كل حديث إلى سنده. قال: "أما الحديث الأول الذي ذكرتموه فسنده هكذا، وأما الحديث الثاني فسنده..."،
فتعجبوا أولًا من حفظه للأحاديث التي سُئل فيها. مباشرة مواهب ربانية ومنح صمدانية، بعض الناس الذي لا يتذكر اسمه أو لا يعرف رقم هاتفه ويحتاج إلى معين في ذاكرته يتعجب بل وينكر. وفقدان الوجدان لا يلزم منه فقد الوجود. نعم، أنت لست هكذا، لكن هذا الرجل كان حافظاً حفظاً شديداً، حفظوا أشعار العرب وحفظوا القرآن وحفظوا السنة وحفظوا. اللغة وحفظوا أشياءً غريبةً عجيبةً من الخطب والنثر وما إلى ذلك. كان الزمن والبرنامج اليومي مختلفاً، ولذلك حفظوا كل هذا. مائتان وخمسون
كتاباً من كتب السنة أُلِّفت لحفظ هذا التراث النبوي الشريف، وصُنِّف من هذه الكتب وأعلاها صحيح البخاري، ومن هذه الكتب صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي. وابن ماجه، وهذه تُسمى بالكتب الستة. فإذا أُضيف إليها موطأ مالك، وبعضهم يُضيف إليها بعض الكتب الأخرى مثل المستدرك للحاكم، ومثل السنن للبيهقي، ومثل مسند عبد بن حميد، وأمثال
هذه الكتب، ومثل سنن الدارمي، ومثل سنن الدارقطني، فتكون هذه الأصول، فالأصول هذه ويُضاف إليها بعد ذلك معجم الطبراني الكبير والأوسط. والصغير، ويُضاف إليها بعد ذلك مُصنَّف ابن أبي شيبة ومُصنَّف عبد الرزاق الصنعاني، ويُضاف إليها بعد ذلك سائر كتب الحديث التي أُلِّفت خدمةً للسنة النبوية المشرفة. مائتان وخمسون كتاباً أُلِّفت في السنة، اشتملت على نحو ستة وأربعين ألف حديث، وهناك أحاديث في غير هذه الكتب مثل الأمالي لابن الشجري ومثل... تاريخ بغداد والتاريخ الكبير للإمام البخاري وأمثال هذه التواريخ وتفسير
الطبري وتفسير ابن مردويه وأمثال هذه التفاسير فإنها لو جمعناها تصل إلى ستين ألف متن، ليست كل هذه السنة صحيحة، بل منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف، ولنا حلقة خاصة بصحيح البخاري حتى نرى. ما الذي حدث فيه وأنه ليس كتاب فرد بل أنه كتاب أمة، هناك أمة اشتركت في تأليفه وتحريره ومراجعته ونقله وشرحه، وهكذا أمة بحالها. ولذلك نرى العلماء يحزنون جداً من هؤلاء الصبيان الذين يأتون
فيعترضون على كتاب أمة، ويضحكون على الناس أنه كتاب البخاري، والبخاري غير معصوم قطعاً، البخاري غير معصوم، ولكن ما علاقة العلم والخدمة العلمية والإجراءات العلمية الدقيقة بهذه القضية؟ ثم بعد ذلك يتلاعبون في أمر سنفرد له حلقة خاصة، وهو في غاية الأهمية. يتلاعبون بين النص وفهم النص. نعم موجود في البخاري، ولكننا لا نأخذ به لأن له سياقاً لا يجعل معناه مقبولاً، لأن هذا الحديث... قد نُسخ بحديث آخر، فقد كان هذا في أول الأمر ثم
نُسخ، لأن هذا الحديث معناه لا بد فيه من معرفة العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ. ولا بد أن يكون في الجملة الواحدة التي تكلمنا عنها في القرآن الكريم، قد يروي الراوي حديثاً ونرى فقهه يخالف هذا الحديث، ما بين مذهب الراوي هل عصى أبداً أم أنه يفهم ما بين النص وفهم النص. في الحلقة التي سنخصصها حول هذا الفرق بين النص والفرق بين فهم النص، سنضرب الأمثلة الكثيرة حتى نفهم هؤلاء الصبيان عندما يتكلمون عن الأئمة الأعلام الذين بنوا
حضارة وأسسوا ما لم يُؤسَّس في أمة من قبل. وجعلوا لنا هُوِيَّةً نفخر بها بين العالمين، فإن العلماء يتأسفون لشيوع هذا الجهل ولتكاثر الشتيمة والسب لأئمة العلم الذين كان ينبغي علينا أن نعظم شأنهم حتى نكون أمة طيبة، وحتى نكون أمة تشارك في بناء الحضارة الإنسانية بالحضارة الإسلامية كما كنا عبر التاريخ. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته
    هذا ديننا | 22 | مؤلفات السنة النبوية | أ.د. علي جمعة | نور الدين والدنيا