هذا ديننا | 24 | الإمام البخاري وصحيحه جـ1 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من "ديننا". في هذه الحلقة نقف قليلاً عند صحيح الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه وأرضاه الإمام البخاري من بخارى ولذلك
نُسب إليها، وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي، وكان هناك ما يسمى بالولاء، فكان الإنسان عندما يسلم على يد شخص من أهل الجعفي فينسب إليه ولاءً، وهذا المعنى، معنى الولاء، هو الذي أفتينا به في عصرنا الحاضر من أجل كفالة طفل. اليتيم فإنه إذا التحق بأسرة له أن يُعطى لقب هذه الأسرة وليس اسم الزوج أو الزوجة أو الأب أو الأم أو ما إلى ذلك، ولكن هذا اليتيم يُعطى من أجل أن يُنسب إلى هذه الأسرة ما كان يفعله المسلمون الأوائل من
قضية الولاء، إذ الإمام البخاري وُلد وهو يتكلم العربية. والإمام البخاري آتاه الله حافظةً عجيبةً غريبةً، وبهذه العقلية الفذة والهمة العالية والوضوح والجلاء الذي كان فيه محمد بن إسماعيل البخاري، فإنه تتلمذ على مشايخ كثيرين، وكان جاداً في هذه التلمذة، وألّف كتباً كثيرة، ألّف كتاباً اسمه "رفع اليدين" أورد فيه الأحاديث التي فيها رفع اليدين في الصلاة، وهو مطبوع. وألّف كتاباً
في الجمعة وألّف كتاباً في خلق أفعال العباد وألّف كتاباً أسماه بالتاريخ الكبير ثم اختصره في التاريخ الوسيط ثم التاريخ الأوسط والتاريخ الكبير والتاريخ الصغير مطبوعة، وألّف هكذا كتباً كثيرة الإمام البخاري إلا أنه تفرغ بعد ما وصل حفظه إلى ستمائة ألف حديث والحديث عنده ليس ستُّ مئةِ ألفِ حديثٍ مختلفةِ النصوصِ، بل كلُّ حديثٍ لا بُدَّ أن يكونَ له سندٌ في الرواية، فإنه
يروي عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن ابن عمر، هذا السند يُسمِّيه حديثاً مهما كان هذا النص فيه، فإذا اختلف ورواه عن شخصٍ آخر غير عبد الله بن... يوسف فإنه يسميه بحديث آخر حتى لو كان نفس النص، فإذا اختلف عبد الله بن يوسف ومالك واتفقوا في نافع، فكان نافع ذكر هذا الحديث لمالك ولشخص آخر غير مالك، فإنه يرويه من هذا القبيل، فيصير سندين. وهكذا كان يحفظ بهذه الطريقة ستمائة ألف سطر، انتقى منها ألفين وستة. مائة نص
من ستمائة ألف حديث انتقى منها ألفين وستمائة نص وألّف بها صحيحه، وجلس يؤلف هذا الصحيح مدة طويلة من الزمن قد تكون امتدت إلى ثلاثين عاماً، ولذلك فهو باقٍ إلى الآن لأنه عمل جاد وليس عملاً كما يقول الأمريكيون "تيك أواي" يعني خذ واهرب. لا لم يكن هكذا وإنما بذل فيه كل هذا العلم بكل هذا المجهود وحرره ونقحه وصححه وضبطه في مدة ثلاثين عاماً ثم
كرر فقسم الحديث، هذا الحديث "إنما الأعمال بالنيات" ذكره تسع مرات في صحيحه، الحديث الثاني مثلاً "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" فيذكره في باب ثم يذكره. في باب آخر ثم في باب ثالث مثلاً، فصارت عدة الأحاديث سبعة آلاف وخمسمائة حديث. فإذا عددنا هذا حديثاً واحداً، اثنين، ثلاثة، أربعة في البخاري نجد في آخر البخاري سبعة آلاف وخمسمائة حديث، إلا أنه إذا حذفنا منها المكرر وجمعنا هذه الأحاديث ستكون ألفين وستمائة حديث. بعضهم قال أقل وبعضهم قال أكثر لاعتبارات فنية في التقسيم، لكننا نعطي فكرة عامة عن هذا الكتاب.
إذا ذهبنا إلى الكتاب وجدنا فيه أشياء غريبة: أولاً الأحاديث المسندة التي لها سند، وثانياً الأحاديث المعلقة التي لها جزء من السند، وثالثاً الروايات التي ليس فيها سند، إذن... أما أن يكون السند كاملاً وإما أن يكون السند جزءاً وإما أن يكون السند غير موجود، فالصحيح على ثلاثة أضرب: صحيح البخاري، هذا الكتاب الذي سماه الصحيح. عندما نفتحه ثم نجد فيه سنداً أو لا يوجد فيه سند أو فيه جزء
من السند، وهذا الجزء يسمونه المعلق. بدأت الأمة عندما هذا الصحيح ويرويه في مدى ثلاثين سنة، ولذلك اختلفت رواياته. فممن رواه عنه حماد بن شاكر تلميذ البخاري، وكانت هذه الروايات تتم في مجمع علمي، يعني أن حماد بن شاكر هذا كان هو المقرر في مجمع علمي يجمع علماء كثيرين. ولذلك فالذي نريده من هذه الحلقة أن نخرج به أن البخاري ليس لفرد بل هو للأمة لأن الأمة قد تلقته بالقبول
وخدمته واشتغلت عليه وبحثته بحثاً شديداً وقوياً، وبالرغم من ذلك إلا أنه ليس كتاباً معصوماً، ولكن هذه الكلمة ليست للتشكيك إنما لبيان الواقع. ولذلك هناك فرق بين أن نهاجم البخاري ونقول بجنايته وما إلى ذلك وقلة الأدب هذه، وبين ثم ننتقل للحديث عما ورد في صحيح البخاري لأننا لم نصل بعد إلى كيفية حل التعارض بينه وبين ما هو قائم في ذهنه. ولذلك هناك فرق كبير بين العلم وبين قلة الأدب وقلة الديانة وقلة الاعتناء
والاستهتار بالحضارة الإنسانية والإسلامية وبالتاريخ وبالعلوم. فهناك أيضاً من رواه عنه وهو المحاملي ورجل ورجلٌ خامسٌ الفِرَبْرِي، والفِرَبْرِي هذه الرواية هي الرواية التي وصلت إلينا وطُبِعت. عندما نذهب لنشتري كتاب صحيح البخاري من الأسواق فهذه رواية الفِرَبْرِي. عندما روى صحيح البخاري عن الإمام البخاري، دَرَّسَه لنحو سبعين ألفاً. تخيَّل! سبعون ألف عالم جلسوا تحت يد الفِرَبْرِي حتى يخرج لهم ما هو... ما الذي والقراءة هذه تأتي
بعدها مناقشات وضبط وما إلى ذلك. الحاضرون منهم من هو لغوي، ومنهم من هو نحوي، ومنهم من هو فقيه، ومنهم من هو محدث، ومنهم من هو عالم بالتاريخ، ومنهم من هو عالم بالسير، ومنهم من هو... ولذلك كانوا مجمع علماء، ولذلك يصعب على العلماء جداً أن... يأتي الصبيان فيحاولون أن تنهار هذه الحضارة أو ينهار هذا المجهود، وهذا بخلاف العلماء عبر التاريخ. الدارقطني درس البخاري وقال في مائة واثني عشر حديثاً: "عندي إشكالات، يبدو لي أن فيهم شيئاً". درس ابن الذهبي ويقول: "لولا حرمة
الصحيح لقلت فيه ما قلت". من هذا؟ خالد بن... مخلب أحد رواة البخاري من "عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب". أما الذهبي فيقول: هذه العبارة لولا حرمة الصحيح - يعني إذا كان الصحيح له حرمة وهو يعرف ما هو هذا الصحيح - لكنه يقول فقط هذه العبارة أو هذا الحديث له عليه تعليق. نعم، أنت لا تهدم المنظومة، أنت عمل لك أشكالاً لم يفعلها لغيرك من العلماء، لكنك صنع لك أشكالاً. أبو الفرج ابن الجوزي يقول عن حديث في صحيح مسلم أنه موضوع، لماذا؟ قال لأنه مخالف للقرآن، إذ رأى
أنه مخالف للقرآن، أن الله قد خلق يوم السبت كذا ويوم الأحد كذا ويوم الاثنين كذا وليلة يوم. الجمعة: طيب، ربنا سبحانه وتعالى في القرآن يقول أنه خلق السماوات والأرض وخلق الدنيا في ستة أيام. حضرتك الحديث هنا فيه سبعة أسماء: السبت والأحد والاثنين إلى الجمعة، سبعة! كيف إذن؟ فأبو الفرج ابن الجوزي، وهو عالم كبير، يقول: والله أنا لا أعرف، أنا أتيقن أن هذا الحديث باطل وموضوع. ردّ العلماء عليه قائلين له: "لا، إنك لم تنتبه، فهي ستة أيام في الأسماء السبعة". فسألهم: "كيف؟" فأجابوه: "لأنه بدأ الخلق الساعة الثانية عشرة من يوم السبت وأنهاه الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة، فيكون من الثانية عشرة يوم الجمعة إلى الثانية عشرة يوم السبت، وهذا هو يوم الله سبحانه خلق الله
الدنيا في ستة أيام وليس في السبعة هذه لأنه بدأ الخلق الساعة الثانية عشرة. ما رأيك في هذا الحل؟ فإذن هناك أفكار قد لا ترد على ذهن العالِم فينكرها، ويستعمل حقه في النقد، ويستعمل حقه في المناقشة، وهذا ما سوف نراه بشكل واسع عندما نتكلم عن النص ومفهوم إذا إلى لقاء آخر، أستودعكم الله. نكمل رحلتنا مع صحيح البخاري. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.