هذا ديننا | 25 | الإمام البخاري وصحيحه جـ2 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات "ديننا". تكلمنا في حلقة سابقة عن صحيح البخاري رضي الله تعالى عنه. وارضاه وكم بذل من جهد في تصحيحه وفي كتابته
وفي تنقيحه وفي مراجعته وأنه كتاب الأمة ورأينا رواته حماد بن شاكر والمحاملي والمستملي والفربري ورواية الفربري هي التي وصلت إلينا في هذا العصر. خُدِمَ صحيح البخاري عبر القرون خدمات رائقة فائقة، فممن خدمه أن عالماً كان اسمه اليونيني، واليونيني كان مقيماً في الشام وعالِم آخر كان اسمه جمال الدين محمد بن مالك، وابن مالك هذا يمكن أن تسمعوا عنه، الذي هو صاحب ألفية ابن مالك. ابن مالك صاغ النحو العربي خدمةً للقرآن والسنة في صيغة: "كلامنا
لفظ مفيد كاستقم، اسم وفعل ثم حرف الكلم"، وهكذا "بالجر والتنوين والنداء وأل ومسند". للاسم تمييز حصل لكي نميز بين الاسم وبين الحرف وبين الفعل إلى آخره ونحفظها ونصبح مسرورين جداً. وألفية ابن مالك ليست سهلة، وبالرغم من ذلك ألقى الله عليها القبول من شدة إخلاص ابن مالك. بعد ذلك الشيخ الدمنهوري عمل ألفية، وابن عطية قبل ذلك، وابن معطي عمل ألفية، والسيوطي. عمل ألفية وطُبعت ألفية ابن معطي، وطُبعت ألفية السيوطي، ولكن ألفية ابن مالك ألقى الله عليها القبول، بالرغم من أن ألفية السيوطي أسهل
منها. لماذا؟ لإخلاص نية صاحبها. اليونيني محدِّث، وابن مالك لغوي، ولغوي من الطراز الثقيل، من النوع الثقيل. اتفقوا مع بعضهم أنهم يقرؤوا صحيح البخاري ويخدموه. قال: حسناً، أليس يصح أن نحيي مآثر الأولين فنجمع علماء يكونوا حاضرين لئلا يكون هناك أي خلل في أي شيء، فقالوا حسناً، فجمعوا سبعين عالماً وفي دمشق الشام اجتمعوا وقرأوا البخاري، اليونيني يقرأ وابن مالك يستمع، حتى يصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم. كذا أو قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله. قام ابن مالك يقول له: هذه وردت المهنة هذه بالكسر والفتح. قال له: يعني ماذا تقول؟ قال له: إما تقول "مَهنة" أو تقول "مِهنة"، تصلح يعني تصلح فتقول هكذا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في... مهنة أهله في مهنة أهله ومليونين، يضع فتحة على الميم ويضع الكسرة على الميم أيضاً، فتصبح الميم هنا تُنطق بطريقتين. أما بعد، ما بال أقوام يشترطون في كتاب الله؟ قال له: توقف! كيف هذا الكلام؟ هذه "أما بعد" هي شرط ويجب
أن نأتي لها بفاء، بمعنى "أما بعد فما بال" أقوامٌ لكن أنتم تقولون ما الرواية؟ ما بال أقوام؟ قال له: آه، هذه مشكلة. هذه إذاً لأنَّ عندنا في النحو "أما بعد فما بال أقوام"، لازم تأتي بالفاء. وذهب ابن مالك وسجَّل في الأجندة خاصته أو في كراسته أنَّ هناك مشكلة، وذهب وألَّف كتاباً بعد ذلك. اسمه "مشكلات الجامع الصحيح". هل يا ترى ورد في لغة العرب "أما بعد ما باله أقوام"؟ أم أنها لا تصح وتكون هذه من فعل الرواية؟ على كل حال، سواء أكانت من فعل الرواية
أم كانت كذا، يسأل اليونيني: هل توجد رواية "أما بعد فما باله" في البخاري؟ فتكون هذه غلطة من النُّساخ أو من الطباعة أو ما شابه ذلك، يعني مثل كلمة الطباعة عندنا الآن من النُّساخ. يعني قالوا لا، لا يوجد، كل روايات البخاري. هذه إذن مهمة المحدث الذي باع نفسه وحياته لكي يضبط هل توجد فاء أم لا توجد فاء. هؤلاء الناس بذلوا مجهوداً كبيراً. يصعُبُ علينا أن نهدمَ تراثَنا وتاريخَنا وعلومَنا وحضارتَنا بأيدينا. يصعُبُ علينا أن يأتيَ الصبيانُ الذين لم يعرفوا هل الموطأ له مقدمةٌ أم ليس له مقدمة، ويلعبوا في دينِ اللهِ هذا الملعب. أما بعد، ما بالُ أقوامٍ يتركونها كما
هي ولا يضيفون الفهم؟ أنا أرى أنا يا ابن... مالك إنها لازم تكون فيها فاء، لكن هذه مشكلة رقم واحد. يبحثها ويراجع ويزيد في المراجعة. رقم اثنين يتركها كما هي للأفضل، لأن العلم ليس هكذا. العلم المنقول إلينا "أما بعد ما بال أقوام". يمكن أن يأتي بعد ذلك الناس ويقولون لك: طيب، ما هو "ما بال أقوام"؟ طيب. ما نأخذ بها ويبقى "أما بعد، إشارة إلى خطابكم كذا وكذا"، ليس "فإشارة إلى خطابكم"، فهي لا تأتي بالفاء. ماذا يعني هذا؟ إنه اهتمام باللغة التي هي الوجه الثاني للتفكير. اللغة والتفكير وجهان لعملة واحدة. إذاً نحن في ورطة عندما
تركنا لغتنا والاهتمام بها، لأن الإبداع لا يتم إلا بالتمكن في... اللغة اليابانية تُدرِّس العلوم إلى الآن باليابانية، وألمانيا تُدرِّس بالألمانية، وروسيا تُدرِّس بالروسية. لا توجد أمة انسلخت من لغتها لتُدرِّس بالإنجليزية إلا إذا كانت لا تريد أن تفكر وتريد أن تقتات على هذه اللغة الأخرى. ولذلك فالصين تُدرِّس بالصينية بالرغم من كثرة الحروف اليابانية وكثرة الحروف الصينية التي تصل إلى ثلاثة آلاف. حرفٌ؛ لدينا ثمانية وعشرون حرفاً فقط، أي أن لغتنا سهلة وجميلة. وبالرغم من ذلك، ولأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، فواحد يأتي - يا سيدي - يعني جاءت من الفاء؟ أتضعها أم لا تضعها؟ لماذا تقفون عند هذه الأشياء؟ لأن هذه الأشياء تجعلك تفهم بعمق معنى
الكلام فتستطيع مع... الفهم أن تبدع وهذا ما نريده، الإبداع أن تأتي لتفهم بعمق فتؤدي بعمق، أن تفهم بعمق فتبني بعمق. وهذا الكلام كما هو موجود في الطب، كما هو موجود في الفلك، كما هو موجود في التكنولوجيا، لا بد أن تفهم بعمق، وإذا لم تفهم بعمق ستظل طوال عمرك. تتلقى وطوال عمرك غائب عنك حقائق الأشياء، فابن مالك جالس واليونيني جالس، ولذلك سُميت هذه النسخة الفريدة الوحيدة التي هي من رواية الفرابري عن البخاري سُميت باليونينية، وذلك أن الإمام اليونيني والإمام ابن مالك ومعهم أكثر من سبعين
عالماً ضبطوها شكلاً وأشكالاً وروايات وكل شيء، وأصبح صحيح البخاري منضبطاً جداً. بهذه النسخة وكتبوها في مجلدين. بعد ذلك جاء الشيخ القسطلاني، فشرح نسخة اليونيني هذه على هذا الوضع في عشر مجلدات أسماها "إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري". كانت الدولة العثمانية، وهي موئل للخلافة الإسلامية، حريصة على جمع هذه النوادر الكبيرة، ووضع السلطان العثماني مبالغ طائلة للحصول على اليونينية وحصلوا عليها فعلاً بعد
ذلك. نحن نتكلم الآن عن اليونيني وابن مالك في القرن السابع الهجري. بعد ذلك انتقلت هذه النسخة في القرن العاشر أو الحادي عشر إلى السلطان. عندما ذهبت هذه النسخة، جاء السلطان عبد الحميد وهو من أواخر سلاطين الدولة العثمانية وقال: "أنا أريد أن أطبعها، خلاص المطابع تعمل". السلطان عبد الحميد مشى ألفٌ وتسع مائة وثمانية. الدنيا تعمل والمطابع تعمل، فأنا أريد أن أطبع هذه النسخة بنفس الدقة، وهي النسخة الخاصة بالبخاري اليونينية. فقال: من الذي يستطيع أن يعمل لنا هذا الأمر؟ قالوا: الأزهر الشريف، ليس هناك أعلم من الأزهر، أرسل له هذه النسخة وهو سيبدأ فيها
صورة من النسخة. وصلت اليونينية إلى الأزهر الشريف في عهد سيدنا الشيخ حسون النواوي شيخ الأزهر، فشكل لجنة من العلماء لقراءة وطباعة هذه النسخة. كان لدينا هنا مطبعة عظيمة جداً، كان قد أنشأها محمد علي باشا في مصر الحديثة، وكان اسمها المطبعة البولاقية. جاءت اللجنة وطبعت هذه المطبعة اليونانية، طبعوا منها ألف نسخة وكتبوا. على الهامش الفوارق التي على صحيح البخاري، هذه الفوارق مع الضبط وشدة الضبط. وإنهم بعد المراجعة
رجعوا إلى هذه النسخة كثيراً جداً وطبعوها في سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة، وسُمِّيت هذه النسخة بالنسخة السلطانية. النسخة السلطانية سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة كانت وقفاً لا يُباع ولا يُشترى ويُوزَّع هدايا. طُبعت من قبل السلطان عبد الحميد الذي فرح كثيراً بهذا، في ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة وألف وثلاثمائة واثنتي عشرة في السنتين هاتين. لعلنا ننشئ حلقة خاصة بالسلطانية نشرح لكم كيف كانت وكيف تطورت وكيف أصبحت بأيدي الناس، حتى نعلم كيف كان هؤلاء يؤدون مجهودهم العلمي الحضاري ولا يتكلمون. فيهرفون بما لا يعرفون، بل كانوا علماء متصدرين
أتقياء أولياء حفظوا لنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.