هذا ديننا | 26 | الإمام البخاري وصحيحه جـ 3 | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 26 | الإمام البخاري وصحيحه جـ 3 | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا تكلمنا فيما سبق عن الحديث النبوي الشريف وعن مدى الجهود التي بُذِلَت لحفظه مما وفق الله المسلمين لحفظ تراث نبيهم
صلى الله عليه وآله وسلم حفظاً لم ينله أحد في العالمين لا من الشعراء ولا من الأدباء ولا من الأباطرة ولا من الملوك ولا من الأمراء ولا من القواد ولا من أي شخص متصدر سواء كان نتاجه أدبياً أو دينياً أو وحياً حتى من السماء، فإن أحداً لم يلقَ مثل ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعتناء الأمة به، وتكلمنا مثالاً على ذلك صحيح الإمام البخاري، ورأينا كيف أنه قد حمله عن الإمام البخاري ودرسه عليه كثير منهم الفربري ومنهم المحاملي ومنهم المستملي ومنهم حماد بن شاكر وكل رواية كان الإمام البخاري يزيد أو ينقح أو يملأ فراغاً كان موجوداً في أبواب
البخاري التي لخص فيها فقهه وفهمه للنص، لأنهم كانوا يدركون إدراكاً تاماً أن هناك فارقاً كبيراً بين النص وبين فهم النص. ولذلك يُقال إن فقه الإمام البخاري في تراجم أبوابه، يعني فيما كتبه كتاب الوحي كتاب. الصلاة كتاب هل يجوز أن نفعل كذا أو هل يجوز أن نترك كذا كل هذا إنما هو فقه الإمام البخاري لما استوعبه وفهمه وقد يكون فقهاً خاصاً به لأن الإمام البخاري كان معدوداً من المجتهدين العظام وإن كان ينسبه الشافعية لأنفسهم وقالوا إنه كان على نمط مدرسة الإمام الشافعي. رضي الله تعالى عنهم أجمعين. عرفنا
كيف اعتنى المسلمون بصحيح البخاري، وصحيح البخاري كتبته أيدٍ كثيرة، وقرأه نحو سبعين ألف نسمة على يد الفربري، ورواية الفربري هي التي توجد عندنا. ونعرف روايات حماد بن شاكر وروايات المستملي وروايات المحاملي من كتب الشراح مثل فتح الباري لابن حجر أو فتح الباري. أيضاً لابن رجب إلى غير ذلك من الشُرّاح الذين كثرت شروحهم على الإمام البخاري، وتحت أيدينا نحو مائتي شرح خطتها هذه الأيادي الكريمة شرحاً لكل حرف من كتاب البخاري. ولذلك يهتم العلماء ويحملون الهمّ في
قلوبهم عندما يسمعون من يريد أن يسخر من البخاري أو ينتقص البخاري لأن... تحوَّل البخاريُّ من كتابٍ فردٍ يُخطئ ويُصيب وليس معصوماً وشأنه شأن البشر، إلى كتابِ أمةٍ، كتابٍ قد خُدِم مِن أُمَّةٍ كثيرةٍ بطرقٍ مختلفة. من هذه الطرق المستخرجاتُ، فأتوا إلى الأحاديث الواردة في البخاري بغير أسانيد البخاري حتى يتأكدوا أنه ليس فقط هذه الأسانيد هي التي نقلت تلك الروايات، بل أنَّ... هناك أسانيد أخرى قد نقلت هذه الروايات. هناك من استدرك على البخاري شرطه أو شرط مسلم، مثل الحاكم عندما يؤلف كتابه المستدرك
بالكاف. والمستدرك يعني الذي فات مسلماً فلم يخرجه وفات البخاري فلم يخرجه، ولذلك أتى به في اعتقاده أيضاً. فعلّق عليه البيهقي، علّق عليه الذهبي، البيهقي في كتبه ولكن... الذهبي علَّقَ على كتاب المستدرك وطُبِعَ هو والتعليق، وقال: هذا أخطأ فيه الحاكم، أو هذا لم يخطئ فيه، في خدمة رائقة فائقة، وعلمَ له علماء، وعرفنا أنَّ كتاب الإمام البخاري أيضاً لاقى في القرن السابع الهجري على يد الإمام أبي عبد الله اليونيني وعلى يد الإمام جمال الدين بن مالك صاحب. الألفية المشهورة التي ما زلنا نحفظها إلى اليوم خدمة
جليلة، وهو أنهم قد جمعوا علماء كباراً، وكان رأس هؤلاء العلماء هو الإمام ابن مالك في النحو وفي العربية، واليونيني الذي كان يقرأ وهو محدث، ويصحح له، ويضبط الروايات، ويعرف إذا كانت هذه احتمالاً في اللغة العربية أو أنها رواية قد. وردت عن الرواة هذه النسخة كتبت في جزئين وسميت بالنسخة اليونينية وشرحها كما قلنا القسطلاني في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري على النسخة اليونينية خدمة رائقة فائقة على مستوى الحرف وعلى مستوى الكلمة. هذه النسخة ذهبت فيما ذهب إلى السلطنة العثمانية في دار الخلافة العثمانية في اسطنبول
وكان الخلفاء. العثمانيون حريصون على جمع هذه المقتنيات الغالية وظل الأمر كذلك إلى عهد السلطان عبد الحميد خان. والسلطان عبد الحميد خان كان من أواخر الخلفاء المسلمين وامتد عمره شيئاً ما إلى أن أُقيل من الخلافة سنة ألف وتسع مئة وثمانية، في سنة ألف وثلاث مئة من الهجرة، وتسعة أرسل عبد. الحميد خان إلى شيخ الأزهر وهو حينئذ الشيخ حسونة النواوي، وعائلة النواوي عائلة موجودة إلى الآن، نرى فيها عمداء الكليات ونرى فيها الوزراء وما إلى ذلك، هم من نسله ومن عائلة الشيخ حسونة
النواوي إلى يومنا هذا. شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي أمره السلطان عبد الحميد أنه سوف يرسل له. صورة من النسخة اليونانية المحفوظة في اسطنبول، أو قد يكون أرسل له اليونينية، هذا لا نعرفه، لكن هناك بالتأكيد صورة من اليونينية لأنهم كانوا يقلدون الكتابة وهم متدربون على ألا يخطئوا في حرف واحد من كثرة كتابتهم للمصحف الشريف، ولذلك صُنعت منها صورة طبق الأصل وكأنها مصورة، ليس هناك حرف. واحدٌ مختلفٌ وأُرسِلت إلى حسونة النواوي، الشيخ حسونة النواوي كوّن لجنة مكونة ربما من نحو عشرة أو أربعة عشر
شخصاً، كان آخرهم واحدٌ مهتمٌ بدراسة الإمام البخاري، يعني حياته كلها جعلها للإمام البخاري، يجلس يقرأ صحيح الإمام البخاري ليلاً ونهاراً، حتى أنه حفظه بأسانيده وبكلامه وبكل ذلك، فجعله أحد أعضاء. هذه اللجنة لأنه خبير، وهذه اللجنة استعانت بلجنة من المطابع الأميرية، وهذه اللجنة التي في المطابع الأميرية من كبار العلماء أيضاً، وأمسكوا بالنسخة اليونينية وجلسوا يحولونها إلى الطباعة ويكتبون فروق النسخ كما هو مكتوب في النسخة اليونينية تماماً على الهامش، كل هذا تم وبدأ صدور أول جزء من تسعة أجزاء. لأن الإمام الصحيح الإمام البخاري طُبع في تسعة مجلدات،
كانت تُجمع كل ثلاثة مجلدات في مجلدة، فكان دائماً ثلاثة ثلاثة، أو إذا جلدنا كل فصلة لوحدها، وكل فصلة هذه تحتوي على حوالي مائة وثمانين ورقة أو مائتي ورقة على الأكثر، فتصبح تسعة أجزاء تُجلد في ثلاث مجلدات، من واحد إلى ثلاثة في مجلد. من أربعة إلى ستة في مجلد، ومن سبعة إلى تسعة في مجلد، ومكتوب عليها أن هذا وقف لا يُباع ولا يُشترى ولا يُوهب، وأنه يُوزع لوجه الله تعالى. مكتوب على كل صفحة في هذه النسخة التي سُمِّيت بالسلطانية، وكلمة السلطانية أتت من السلطان عبد الحميد، وطبع السلطان عبد الحميد. حينئذٍ ألف نسخة من
صحيح البخاري لكنها لا تُباع ولا تُشترى ولا توهب، وهي هدية من السلطان لعلماء الأمة. استحسن العلماء جداً هذه الطبعة لأنها بُذل فيها مجهود كبير جداً من قبل اللجنة التي كان يترأسها شيخ الأزهر الشيخ حسون النواوي، وكان فيها من كل المذاهب، كان فيها مالكي وشافعي. وحنفي وحنبلي وكان فيها المختصون بالحديث وكان فيها المختصون في اللغة وكان فيها وهكذا كان فيها أناس كثيرون. هذه النسخة السلطانية طُبعت في مصر سنة ألف وثلاثمائة وإحدى عشرة وانتهت سنة ألف وثلاثمائة وثلاث عشرة.
التسعة أجزاء طُبعت مع التدقيق وكذلك بعدما طُبعت لاحظوا أن هناك أخطاءً مطبعية. شأن كل المطبوعات في العالم فجعلوا هناك جدولاً للأخطاء في نهاية النسخة، يعني تقريباً صفحتين، أي ما يقرب من نحو أربعين خطأً في كل هذا الخضم الهائل وصححوه. يعني مثلاً "جعفر" مكتوبة من غير نقطة للجيم، فيقول: لا، هذه هي "جعفر" وليست "حافر" مثلاً، يعني أشياء ليست في... صلب الموضوع وإنما أخطاء مطبعية معتادة نستطيع أن نتدرج. هذا مكتوب، هذا من غير أيضاً الدال اشتبهت على الجامع بالدال. صُحِّح هذا كله
وخرجت الطباعة السلطانية التي اشتهرت بأنها أصح طباعة للبخاري في تاريخ الطباعة العربية. النسخة السلطانية أصبحت نادرة جداً جداً حتى بيعت بأكثر في الوقت المتقدم من من. منذ خمسين سنة مضت وأربعين سنة مضت بيعت بأكثر من ألف جنيه، وألف جنيه هذا مبلغ ضخم جداً، مع أن هذه النسخة يعني نسخة مطابقة تماماً لما صُورت عليها وجاءت مطابع الشعب وهي تيسر على الناس تحصيل المعرفة، طبعت هذه النسخة السلطانية بمطابع الشعب مكتبة دار الشعب التي كان من هدفها وهي تابعة لمؤسسة
تسمى بمؤسسة التعاون نشر الثقافة الرخيصة التي يمكن أن تصل إلى الناس، وأصبح هناك السلطانية، وأصبح هناك صور متعددة من السلطانية التي هي أدق كتاب طُبع للإمام البخاري بكل هذه المجهودات، ولما نفدت النسخ في سنة ألف ثلاث مائة وثلاث عشرة بمجرد انتهائهم من الطباعة ولم يجد أحد أي نسخة في الأسواق، قام رجل كان يعمل كفاكهي في روض الفرج، ويذكر أن اسمه كان عبد الحميد الفكهاني. وقد طبع عبد الحميد الفكهاني الكتاب على حسابه مرة أخرى، وهنا نصل إلى النسخة الفكهانية وهي صورة من النسخة السلطانية، إلا أنها
طُبعت في المطابع الأميرية بعدها، وهذا موضوع لقائنا. في حلقة قادمة إن شاء الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.