هذا ديننا | 27 | الإمام البخاري وصحيحه جـ 4 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. في حلقة سابقة تكلمنا عن النسخة السلطانية التي استطاع بها السلطان عبد الحميد خان رحمه الله تعالى ورضي الله تعالى عنه في طباعة النسخة اليونينية
التي أنشأها ابن مالك وأبي عبد الله اليونيني وهي النسخة التي حررت البخاري وضبطته وألحقت به روايات مختلفة لكل كلمة في الإمام البخاري أو في صحيح الإمام البخاري. هذه النسخة طُبعت تحت إشراف حسون النواوي شيخ. الأزهر رحمه الله تعالى ومعه لجنته الموسعة ومعهم علماء المطبعة الأميرية. المطبعة الأميرية حينئذ تلقت عرضاً من شخص اسمه وصفة صناعته الفكهاني، وكان يبيع الفاكهة من كبار التجار الأغنياء في سوق روض الفرج سنة ألف وثلاثمائة وأربعة عشر. انتهت السلطانية في الطباعة ألف
وثلاثمائة وإحدى عشرة هجرية إلى ألف وثلاث مائة وثلاث عشرة السنة الثانية، على الفور مباشرةً عرض التاجر الفاكهاني أن يطبع ألف نسخة من صحيح البخاري على حسابه، وأن يبيعها للناس حتى تتوفر لطلبة العلم، وإلا ستكون قاصرة على العلماء الكبار أو كبار العلماء في العالم الإسلامي. وفعلاً تكفل الفاكهاني بهذا، واجتمعت نفس اللجنة ولم يغب. عنها أحد الشيخ حسون النووي وهو الرئيس، وجُمعت المطبعة البلاقية واللجنة التي شُكلت حينئذ، واجتمعت كل هذه العقول المتدربة لإعادة طبع
النسخة السلطانية مرة أخرى، وطُبعت فعلاً، وحاولوا أن يستدركوا الأخطاء المطبعية التي أشاروا إليها، لكنهم أيضاً وقعوا في أخطاء مطبعية أخرى. الفرق بين السلطانية والفكهانية يكاد يكون لا شيء. بمعنى أننا سنجد الصفحة رقم خمسة عشر في السلطانية هي نفس الصفحة رقم خمسة عشر في الفكهانية، إلا أننا إذا قارنا بين النسختين سنجد أن الأوراق الأخيرة من كل مجلد أو من كل جزء تختلف. إذاً هذا يبين لنا أن طبعة الفكهانية قد أعادوا جمعها مرة أخرى، وهنا أصبح عندنا. طُبِعَتْ نسخةٌ
سلطانيةٌ أصليةٌ والتي يُكتَبُ عليها من فوق "وقفٌ لا يُباعُ ولا يُشترَى ولا يُوهَبُ" إلى آخره، ونسخةٌ فكهانيةٌ خاليةٌ من هذا الكلام لأنها بِيعَتْ فعلاً والتجارُ اشتَرَوْها وطلبةُ العلمِ اشتَرَوْها إلى آخره. النسخةُ السلطانيةُ والنسخةُ الفكهانيةُ، بعد ذلك قام المسلمون بخدمةِ الإمامِ البخاريِّ انطلاقاً من تلك الخدمةِ الجليلةِ قُدِّمَت من هذه اللجان وبدؤوا في -يعني مثلاً- آخر خدمة كانت لهذا، كانت من مجموعة باحثين وعلماء في المكنز الإسلامي في ليختنشتاين. والمكنز الإسلامي
في ليختنشتاين يستعين بعلماء من مصر ومن الشام ومن المملكة العربية السعودية للقيام بهذا العمل، فأتوا بالنسخة السلطانية الأصلية وصوروها كما هي كوثيقة كمستند ثم حرروها. في ثلاثة مجلدات أخرى، بحيث صححوا كل الهنات التي أشار إليها أو أشارت إليها اللجنة نفسها، واختاروا أهم الروايات طبقاً لما هو موجود عند الإمام ابن حجر. أتذكر أنهم استعانوا في هذا بشيخنا الشيخ عبد الله الغماري، وكان حافظاً من الحفاظ الكبار، رحمه الله تعالى، توفي سنة ألف وتسع. مائة وخمسة وتسعين عن خمسة وثمانين سنة، وكان
يحفظ البخاري، قرأنا عليه البخاري كلمةً وسطراً سطراً، وهو يتخير بين الروايات، هل هي مِهْنة أم مِهْنة، هل هي ذُروة أو ذَروة أو ذِروة، هل هي... وهكذا. وكان واسع العلم في علم الرجال وفي علم الجرح والتعديل وفي علم اللغة العربية. وله في كل ذلك مؤلفات رحمه الله تعالى قرأناها كلمة عليه، وقام المركز الإسلامي بطباعة النسختين: نسخة وثيقة بحيث أنها تشتمل على حتى الهنات أو الأخطاء المطبعية، ونسخة أخرى مصححة. على هذا كان هناك علماء متوفرون، وكان هناك شخص من هؤلاء العلماء الكبار المختصين بصحيح
البخاري كان اسمه الشيخ. محمد المكاوي، والشيخ محمد المكاوي أصلاً كان يعمل في المطابع الأميرية، وكانت له تجربة مع الإمام البخاري، حيث طُبع صحيح الإمام البخاري في المطبعة الأميرية طبعة رائقة قبل الطبعة السلطانية. الطبعة السلطانية طُبعت عام ألف وثلاثمائة وإحدى عشر، ولكنه طبعها قبلها بأكثر من ثلاثين سنة، أي عام ألف ومائتين وثمانين. مثلاً فكانت له دربة بالبخاري ومعرفة بالبخاري فراجع السلطانية والفكهانية وكتب تقريراً بما يراه أن هذا يحتاج إلى درس أو إلى بحث أو إلى كذا إلى آخره. هذا التقرير
حُفِظ في دار الكتب المصرية وظل محفوظاً فيها إلى أن استخرجه وأشار إليه شيخنا الشيخ عبد الغني عبد الخالق وهو يقدم. لطبعة صحيح البخاري التي طُبعت في مكة، طُبعت هذه الطبعة في مكة وأشار الشيخ رضي الله تعالى عنه عبد الغني عبد الخالق رحمه الله تعالى، وهذا شيخنا درسنا عليه تاريخ أصول الفقه وكان علامة كبيراً، فهذا الرجل أشار إلى مجهود محمد مكاوي في تصحيحه لتلك الكتب. ذهبنا إلى دار وجدنا فعلاً تقرير محمد المكاوي على السلطانية وعلى الفكهانية فنشرناه في كتابي عن صحيح البخاري. ماذا يقول؟ يقول: أنتم
كتبتم البتة، كلمة البتة تعني قطعاً، يعني لا آتيك البتة أي أبداً، ليست بدون همزة قطع، لكن الحقيقة أن الراجح أننا نكتبها بهمزة قطع إذا ذهبنا نبحث. في هذه النقطة العلمية الدقيقة، هل نضع الهمزة فوق الألف أم لا نضع الهمزة فوق الألف؟ فإننا سنجد أن فيها قولين في اللغة العربية وفي الإملاء. هل الألف هذه هي "ال" التعريف؟ إذا كانت الألف لام مثل "الحمد لله رب العالمين" لا نضع عليها الهمزة، لكن إذا كانت هي من الكلمة هي كلمة واحدة مثل أحمد فنضع عليها الهمس، هل الألف هنا أصلية أو غير أصلية؟
بحث في اللغة نجده في القاموس المحيط والقاموس الوسيط. بحث يبين لنا أن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، وأننا ما دمنا قد فقدنا إحساسنا باللغة العربية ومدى اختياراتنا فيها، فإننا سنفتقد الإبداع الذي نطالب به ليلاً نهاراً الذي سوف ينقلنا من حالنا إلى أحسن حال، الذي سوف يجعل أولادنا يفكرون فينتجون فيبهرون العالم. لماذا هذه الاختراعات؟ لأنهم كانوا متمكنين من لغتهم، ولذلك إذا ذهبنا إلى اليابان نجدهم ما زالوا يتكلمون اليابانية ويكتبون بها ويترجمون من الإنجليزية كل يوم آلاف الصفحات، فلما الطالب والباحث يفكر. باللغة اليابانية استطاع أن ينتج وأن يبدع وأن
يطور وأن يخترع شيئًا جديدًا احتاج إليه العالم. الصين تدرس باللغة الصينية، وألمانيا تدرس باللغة الألمانية، وفرنسا تدرس باللغة الفرنسية، ولذلك هم ليسوا حائرين بين لغتين، إنما هم يعرفون طريقهم لأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. شخص يقول: "ما هذا يعني؟ أهمزة فوق البتة الاستهانة والاستسهال وعدم إدراك حلاوة اللغة الذي منعنا من إدراك حلاوة القرآن، ولذلك نسمعه تعبداً ونسمعه حفظاً ولكن لا نسمعه هداية. اللغة هي الأساس، ضرب لنا أجدادنا الأمثال. محمد المكاوي هذا هو من جيل
جدي عبد الوهاب. أنا علي جمعة محمد عبد الوهاب، أبو جدي يعني محمد المكاوي. عندما يدقق في الهمزة هل توضع أو لا توضع إنما هو منبثق من لغة هو يعرفها ويفهمها، وكان في هذا الوقت طب القصر العيني فيه الشيخ محرم يصحح الكتب لغةً حتى تستقيم اللغة عند الطلاب فيستطيعون أن يبدعوا. هؤلاء هم الذين أنتجوا أجيالنا التي نسميها بالزمن الجميل. أمر مهم جداً. أن ندرك معنى الطباعة الدقيقة وعدم الاستسهال وعدم الاستهانة بالعلوم، وأمرٌ جليل جداً أن نقف عند السلطانية والفكهانية لنتعلم منهما ما وراء هذا، وأمرٌ جليل جداً أن نفهم أنه بعد كل ذلك
إنما هناك فارق بين النص وفهم النص، وهو ما سيكون موضوعنا في الحلقة القادمة إن شاء الله، فالسلام. عليكم ورحمة الله وبركاته