هذا ديننا | 31 | النص ومفهوم النص جـ 3 | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 31 | النص ومفهوم النص جـ 3 | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. اليوم نتحدث عن شيء مهم بعدما تحدثنا عن أن هناك فارقًا بين النص وفهم النص، أما
النص فقد حفظه الله علينا كما رأينا في سورة القرآن الكريم الذي جاءنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو محفوظ على مستوى الحرف، وكل المحاولات التي حاولها الناس في الأرض لتحريف أو تغيير أو تجريف أو تبديل هذا الكتاب كلها. فشلت وكان حفظ الكتاب من عند الله آية ووفاء بوعده سبحانه وتعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وقد تم وتمت المعجزة المؤيدة لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكتاب قد حُفظ بهذه الصورة العظيمة الغريبة العجيبة، يحفظه العربي والأعجمي، الكبير والصغير، المتعلم والأمي، حتى أنه كان لفك الأمية
الذهنية عند كثير من الناس بتجارب ناجحة مبهرة ويحفظه عن ظهر قلب الملايين في كل وقت وحين، خاصة في عصرنا هذا، شيء عجيب لم يكن لنص أدبي أو نص شعري أو نص مقدس من قبل. تفرد القرآن الكريم بحفظ الله له، وكذلك والقرآن هو الأساس فإن الله حفظ. علينا السنة المشرفة التي هي التطبيق المعصوم لكتاب الله سبحانه وتعالى لأن كتاب الله مطلق ولأن الواقع متغير وإيقاع هذا المطلق على المتغير يحتاج إلى تجربة بشرية فكانت السنة النبوية المشرفة الصادرة عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم هي التطبيق المعصوم
حفظ الله هذا التطبيق المعصوم ولكن ما زال هناك فارق بين النص وبين فهم النص. ضربنا أمثلة كثيرة لذلك، يكون النص فيها موجوداً، حفظناه وحافظنا عليه، إلا أن فهمه يتغير وأن فهمه يختلف. ولذلك هناك ما سُمِّي بالقطعي والظني، وسنفرد ذلك في حلقة مستقلة. النص وفهم النص أحد الفوارق الكبيرة بين طريقة تفكيرنا وتلقينا لديننا ووسطيتنا ودعوتنا للناس إلى دين الله سبحانه وتعالى وتطبيق هذا الدين في الحياة وبين
أولئك الإرهابيين الذين ملؤوا الأرض ضجيجاً بجهل وقفوا فيه عند فهمهم هم للنصوص، ورأينا أناساً ينكرون تلك النصوص اعتقاداً منهم أن هذا الفهم الخائب وهذا الفهم الضعيف من أولئك الإرهابيين هو الصحيح، ولذلك رفضوا فهمهم ورفضوا النصوص أيضاً. ومن هنا أتت أزمة كبيرة في هؤلاء الذين يتصدرون قبل أن يتعلموا ويتكلمون قبل أن يتفقهوا، بأنهم أنكروا النصوص لإنكارهم الفهوم الخاطئة في بعض هذه الأحيان. نحن قلنا إن الفهوم تتغير وأن الفهوم تختلف، فقد يختلف الشافعي
مع أبي حنيفة، ويختلف مالك مع الأوزاعي، ويختلف أحمد معهم جميعاً، فهذا هو. اختلاف أولئك الأئمة الأعلام الأتقياء الأنقياء الذين فهموا أن هذا من قبيل الظني الذي يُؤخذ منه وعلى قدر فهمنا، لدرجة أن الإمام في حد ذاته كان يختلف مع نفسه، يعني كان يغير رأيه كلما أتى له فهم جديد، ولكن بالضوابط والقواعد، وليس هكذا سبة لنا أبداً، لم يكن. أبداً استهانة ولا استهتار بالنصوص الشرعية الشريفة، نرى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وهو يُقدّم تسعة آراء وعشرة
آراء في المسألة الواحدة. لماذا؟ لأنه كلما جاءه نص جديد فتح الله عليه بمعنى جديد للنص القديم، وكلما واجهته مشكلة في الحياة يريد أن يحقق مقاصد الشرع الشريف فيها، فتح الله عليه بمعنى جديد على هذا الفهم الذي كان والذي غيّره اليوم. الإمام الواحد في "الرعاية الكبرى" لابن حمدان يروي عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه أكثر من ثمانية عشر قولاً في مسألة واحدة، ويروي عنه الخمسة والخمسة عشر والعشرة والتسعة في مسألة واحدة: ماذا يفعل المصلي مثلاً؟ إذا أُقيمت
الصلاة وهو يصلي السنة فهناك قول أنه يُتم صلاته حتى لو فاتته تكبيرة الإحرام أو الركعة الأولى أو أي شيء كان، لقوله تعالى: "ولا تبطل به خروجك من الصلاة" أو محاولتك اللحاق بالفرض، وأن الفرض أعلى عند الله من النافلة، وأنه "ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته فجعل كلمة "ولا تبطلوا أعمالكم" عامة شاملة كاملة، ولذلك أنهِ صلاتك بسكينة وطمأنينة، ثم أدرك مع الإمام ما يمكن أن تدركه. وهناك
قول آخر أنك تخرج من الصلاة لتلحق بالإمام، وهناك قول ثالث أنك تخرج إذا كنت قبل الركوع، وهناك قول رابع أنك تخرج إذا كان عليك أكثر من ركعة. أي أن ركعة ونصف مثلاً، أنت ركعت وقمت من الركوع، فعليك أداءات هي أكثر من مساحة الركعة. وهناك قول يقول: تخرج إذا فاتتك ركعة، لكن إذا لم يفتك شيء فلا تخرج، إلى آخره. هذا الاختلاف الذي يكون بين العلماء وبين الناس إنما هو فهم
للنصوص وتطبيق للنصوص ومعرفة هذه النصوص. من خلال القواعد، فالمسألة ليست بهذه السهولة التي يريد بعضهم أن يحمل الدين كله على رأي واحد. والله لم يرد هذا، الله أراد التوسعة على الأمة وأن يجعل اختلاف هذه الأمة رحمة لها، لأن التنوع يعطي حرية في الرأي ويعطي إمكانية للتطبيق ويعطي علاقة جيدة مع الله بحيث أنني لا أشعر دائماً بأنني مخالف وأنني آثم، ويمنعني أيضاً عدم الكبر. كيف أتكبر وأقول الحق معي دون أحد من الخلق، ومن اتبعني واتبع قولي واتبع مذهبي ورأيي فهو على الحق، ومن لم يكن كذلك فهو على الباطل.
مسألة في غاية الأهمية وهي من الفوارق التي تفرق ما بين عقولنا وكيفية تطبيقنا. للشريعة وبين عقول الإرهابيين الذين يريدون رأيًا واحدًا قاطعًا حاسمًا، الحق معه وليس مع ما سواه، لا يعرف التعدد، لا يعرف التنوع، لا يعرف اختلاف التنوع، ولذلك فهو يقطع برأيه وفهمه حتى لو كان خاطئًا. إذًا، فهذا أنكر كثيرًا من منهج الدين وأنكر كثيرًا جدًا من روح الدين هذه الحالة. التي نحاول أن نبينها تستدعي
منا أن نذهب إلى عقل المجتهد الذي درسناه وأردنا أن نبلغه للناس ونطبقه يومياً عندما يوجه لنا الناس أسئلة. نريد أن نقوم برحلة في ذهن أحد المجتهدين العظام وليكن الإمام الشافعي مثلاً. كيف كان يفكر الإمام الشافعي؟ كيف كان يرتب ذهنه ويرتب المقدمات من أجل... أن يصل إلى النتائج، ما هذا الفارق الذي بين عقل الإمام الشافعي وعقل أولئك الذين يفسدون في الأرض، كل منهم يدعي أنه يحب الله ورسوله ويحب دين
الإسلام ويشهد الشهادتين ويريد أن يدخل الجنة، ولكن حال الإمام الشافعي مختلف تماماً عن حال هؤلاء، فالإمام الشافعي عبد الله وعمر الكون. وزكّى النفس ونشأت من فكره مدرسة لا تزال تعطي الخلق، وهؤلاء اصطدموا بالخلق، قتلوا النفس البريئة، قتلوا من قال "لا إله إلا الله محمد رسول الله" لأنه خالفهم، لأنهم خرجوا عليه بالسيف واتهموه ورموه بالشرك. رحلة في ذهن الإمام الشافعي، مثلاً كلمة الإمام الشافعي أو أبي حنيفة أو مالك. أو أي مجتهد من المجتهدين، نريد أن نصنع رحلة حتى نتبين
كيف كانوا يفكرون. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله من أجل أن نسير سوياً في تلك الرحلة.