هذا ديننا | 33 | نظرية الحجية | أ.د علي جمعة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تحدثنا عن أن هناك مراحل سبعة في ذهن المجتهد العظيم، وتحدثنا أن أول هذه المراحل
هي الحجية، والحجية معناها كون الشيء حجة. هكذا المصادر الصناعية كلها، نقول: كون الشيء، ثم نأتي بالمصدر. يعني الزراعية تعني كون الشيء منسوبًا إلى الزراعة، والصناعية تعني كون الشيء منسوبًا إلى الصناعة، والمنهجية تعني كون الشيء منسوبًا إلى المنهج، وكذلك الحجية تعني كون الشيء منسوبًا إلى الحجة. ما الحجة؟ انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فمن أين نأخذ ديننا؟ وذهب أهل السنة والجماعة إلى أننا نأخذ ديننا من كتاب الله ومن سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: "قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، وقال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا. وقال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا". وقال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". وقال تعالى إلى آخره... يعني أمر واضح في الكتاب والسنة أن نطيع الله ورسوله وأن مصدرنا هو الكتاب والسنة لما... كان الأمر كذلك، جاء السؤال الثاني في مرحلة الحجية: وما الكتاب وما السنة؟ أين هذا الكتاب الذي تتكلمون عنه؟ فإذا بنا أمام معجزة
للرسالة، وأن عندنا كتاباً محفوظاً بكل وسائل الحفظ، ومحفوظاً على أعلى درجات الحفظ. أولاً: الكتاب نزل باللغة العربية وهو باقٍ باللغة العربية. بعض الأنبياء كان يتكلم لغة... وكتبت نصوصه المقدسة بلغة أخرى لكن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن بالعربية وحفظ بالعربية. إذاً فليس هناك ترجمة معانٍ بل الكتاب في حد ذاته محفوظ. كيف هو محفوظ؟ نجد أن أبا بكر الصديق كما
ذكرنا في أوائل لقاءاتنا قد كتب القرآن وجمعه وأنشأ لجنة من الحافظين. حتى يضبطوه، فخرجت نسخة أبي بكر، ونسخة أبي بكر هذه للقرآن التي حُفِظَت وُرِّثَت لعمر، وبعد عمر وُرِّثَت لحفصة. وفي عصر حفصة استعارها منها عثمان بن عفان وكتب ست نسخ من المصاحف وأرسل لكل حاضرة من حواضر المسلمين: مصر والشام والعراق والمدينة ومكة إلى آخره نسخة، وهذا موجود بالتفصيل في... تاريخ هذا الأمر ولكن القرآن لم يُحفظ في صورة مكتوبة ولا في صورة اللغة العربية
التي نزل بها فقط، بل الغريب العجيب أنه حُفِظ في صدور الناس، فهناك شخص حفظه ولقَّنه لأبنائه ولتلاميذه، وهذا التلميذ حفظه وأصبح في يوم من الأيام وهو كبير صار شيخاً فنقله إلى تلاميذه، وهذا التلميذ... أيضاً فَعَلَ هذا حِفظاً ومحافظةً ونقلاً، والأمرُ الرابعُ أننا لم نجدهُ مكتوباً ولم نجدهُ باللغةِ العربيةِ ولم نجدهُ في صدورِ الناسِ فقط، بل إننا وجدنا أنَّ هؤلاءِ الناسَ الذين حفظوا القرآنَ حفظوهُ بالعشراتِ ثم فجأةً
بالمئاتِ ثم فجأةً بالآلافِ ثم فجأةً بعشراتِ الآلافِ ثم فجأةً بمئاتِ الآلاف، غريباً عجيباً في الحفظ أنه قد حفظه الأولاد الصغار وليس من عانى حفظه كبيراً، حتى قالوا: "الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر". فوجدنا أبناء المسلمين من سن سبعة ومن سن ثمانية ومن سن تسعة ومن سن عشرة وإحدى عشر واثني عشر يحفظون القرآن الكريم، وصار هذا شائعاً. ما معنى كلمة "شائعاً" هذه؟ معناها... أن القرآن
الذي يُتلى في الهند هو عين القرآن الذي يُتلى في مصر، هو عين القرآن الذي يُتلى في السودان أو في تشاد أو في السنغال. وما معنى هذا؟ معنى هذا أنني إذا كنتُ شيخاً كبيراً في السن ومتصدراً في العلم، وجئتُ لأتلو كتاب الله في الصلاة وأخطأتُ، تركتُ كلمة. بدلت كلمة مكان كلمة، فالذي يردني هو ذلك الطفل. ذلك الطفل كان أحد القراء الكبار يحكي في الإذاعة ويقول: "أنا كنت في مكان أقرأ، وأولاد القرية التي كان يقرأ فيها يستمعون إلى تلاوته،
فإذا به رحمه الله تعالى يخطئ ولا يلتفت إلى خطئه". شيخ كبير من أئمة القراء، لكنه القرآن. غالب لا مغلوب، وكان مشايخنا وهم يعلموننا القرآن ويرون في أعيننا الحزن إذا ما أخطأنا أو ما إلى ذلك، يقولون لنا: "القرآن غالب لا مغلوب، والقارئ حالب، والسامع شارب". كأنهم شبهوها بحلب اللبن من البقرة، فإن الذي يقوم بالحلب يبذل مجهوداً ويكون مشغول الذهن، في حين أن الشارب في... النهاية يشرب بهدوء وراحة ولا يكون مشغول الذهن.
القارئ حالب والسامع شارب. فرأى ذلك الشيخ طفلين عندما أخطأ، جلس أحدهما يضرب أخاه بيده ويقول له في أذنه بهدوء: "هكذا الشيخ أخطأ، الشيخ أخطأ". قال: فنبهني، يعني تنبهت على الفور، فتذكرت: "نعم، صحيح، هذه ليست هي هذه". فأعاد الآية مرة أخرى. ثانية على الوجه الصحيح، فقال الطفل لأخيه أو صديقه أو زميله الذي يجلس: "نعم، هكذا استقام". يقول للشيخ الكبير ولكن بصوت منخفض وفي ذهن أو في سمع الطفل الصغير. إذاً فالقرآن
أصبح محفوظاً بالقوة الاجتماعية. كنا في المؤتمرات في الخارج يقولون لنا شيئاً نستغربه، لكنه ليس غريباً عليهم، وهو يقولون... يا إخواننا، أنتم كمسلمين، لماذا لا تصنعون طبعة جديدة للقرآن الكريم وتحذفون منها ما تريدون أن ترفعوه؟ قلنا لهم: لكن هذا ليس في مقدورنا. قالوا: كيف ذلك؟ ألستم علماء الدين؟ أليس علماء الدين يستطيعون أن يحذفوا ما يريدون ويضعوا ما يريدون؟ قلنا لهم: لا، ليس عندنا هكذا. هل تعلمون لماذا يقولون هكذا؟ لأن الصورة الإسلامية صورة فريدة وحيدة لم تتكرر، فهم ليسوا متصورين أنني لا أستطيع أن أرفع حرفاً من كتاب الله. لماذا؟
لأن الناس كلها حافظة له، ولأن الناس كلها ستقول لي: "أنت هكذا غيّرت كتاب الله الذي نعرفه، كتاب الله الذي حفظناه، كتاب الله". الذي حفظه الله سبحانه وتعالى فلا نستطيع أن نغيره، قالوا: لا تستطيعون تغييره، هذه مسألة غريبة جداً، يعني هو محفوظ كما هو، نعم هو محفوظ كما هو منذ أن نزل إلى يوم الدين، حفظه الله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، والله هذا ليس في مقدور محمد وليس. في مقدور بشر وليس في مقدور الأمة ولكن هو إذن الله وبأمر الله وبمراد الله، سبحانه وتعالى هو الذي حفظ هذا القرآن عن طريق الأمة بأن وفق الأمة لحفظه. القرآن
ما هو؟ فقالوا: ما بين دفتي المصحف، لأنهم وجدوه محفوظاً يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة وينتهي. بكلمة "الناس" في سورة "قل أعوذ برب الناس"، سورة الناس. ما بين دفتي المصحف هو القرآن الكريم، وهو حجة وهو مصدر، والحمد لله أنه قد حُفِظ. وتكلمنا في حلقات سابقة عن قضية القراءات، وأنه حُفِظ بعشر قراءات حتى تفسر بعضها بعضاً، وحتى نصل إلى أعلى مرتبة من الحفظ المذهل المعجز. وحتى تلين تلاوته في ألسنة الناس، ولذلك تجد عندما تذهب إلى المغرب يقرؤون بورش عن نافع، وعندما تذهب إلى ليبيا يقرؤون بقالون
عن نافع، وعندما تذهب إلى السودان تجدهم يقرؤون بالدوري، وعندما تذهب إلى مصر وتركيا والشرق كله يقرؤون بحفص عن عاصم، وعندما تذهب إلى أفريقيا يقرؤون بحمزة والكسائي. شخص إذا كان الكتاب حجة، يُقال مثل هذا بالضبط في قضية السنة. قد حُفظت، وتكلمنا بالتفصيل كيف حُفظت، فأصبح الكتاب والسنة حجة. هي المرحلة الأولى للنظريات السبع التي هي مكون لعقلية المجتهد عبر العصور. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله