هذا ديننا | 34 | نظرية التوثيق | أ.د علي جمعة

هذا ديننا | 34 |  نظرية التوثيق | أ.د علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات برنامج ديننا. تكلمنا أن هناك
رحلة لا بد أن نقوم بها. في ذهن المجتهد العظيم أي مجتهد واخترنا الإمام الشافعي لأنه هو الأول من دوّن هذه الخطوات، وهذه الخطوات سبع، أولها ما أسميناه بالحجية، أي ما الحجة في دين الله سبحانه وتعالى. وبعد البحث وإقامة الأدلة من المعقول والمنقول وحال الأمة وما الذي وفقهم الله سبحانه وتعالى فيه، وصلوا إلى أن... الحجة هي الكتاب والسنة، والكتاب والسنة نسميها بالمصادر، ورأينا أن طائفة قليلة من المسلمين رأوا أننا نرجع إلى الأئمة، واضطروا لهذا
الرجوع أن يجعلوهم معصومين من الخطأ، لأن هؤلاء الأئمة إنما هم حجة في دين الله، وهم أبناء سيدنا الحسين أو نسل سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه، ولكن أهل... السنة والجماعة وهم العامة وجمهور الأمة رأوا أن الكتاب والسنة بأفهام المجتهدين هو الذي سيؤدي بنا إلى معرفة الأحكام الشرعية المرعية، حتى لو كان الأئمة الاثنا عشر من العلماء المجتهدين ومن الناس الطيبين، إلا أنهم ليسوا معصومين، فالعصمة قد انتهت بانتقال سيدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأعلى فلم يكن أحد من الصحابة
معصوماً ولا موحى إليه، وهذا أمر مهم للغاية. المرحلة الثانية والكتاب محفوظ بطريقته والسنة محفوظة بطريقها. أن نسأل عن هذا الحفظ، يعني كيف حُفِظ؟ من الذي قال لي أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن؟ ومن الذي قال لي أن هذا الكتاب أو ذاك هذا الحديث أو ذاك إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا تأتي مرحلة أخرى وتُسمى هذه المرحلة بالتوثيق، ونحن أمة نهتم جداً بالتوثيق، وتكلمنا
عن جوانب من جوانب التوثيق في حلقات سابقة. مهمة جداً قضية التوثيق، ولذلك عندما دخلنا في مجال القرآن وجدنا أن هناك قراءات لها أسانيد. صحيحة متواترة وأنها متفق عليها وأن هناك أشياء أخرى نُسبت إلى القرآن إما عن طريق الخطأ في التلاوة أو عن طريق الخطأ في السمع أو عن طريق الخطأ في الكتابة وكل هذا جمعناه فأصبح لدينا نحو تسعين قراءة أي تسعين قراءة شاذة لا تُعتمد ولا يُقرأ بها في الصلاة ولا يلتفت إليها
وبالرغم من ذلك إلا أننا وجدنا أن جزءاً من هذه التسعين إنما هو يفسر بعض القرآن المتواتر، النص الشرعي الشريف "وأمهاتكم من الرضاعة"، فوجدنا مكتوباً في بعض المكاتيب "بخمس رضعات مشبعات" أو "بخمس رضعات" طيب، أو "بعشر رضعات". الله، هل كان هذا خطأ أم هذا تفسير؟ يعني... هو يريد أن يجعل "بخمس رضعات أو بعشر رضعات" جزءًا من الآية، وهذا خطأ لأنه ليس منقولاً لا في المكتوب ولا في المتلو بطريقة التواتر.
وليس هذا تفسيرًا، بل احتمال أن يكون صاحب هذا المصحف أضاف هذه الكلمة حتى يذكّر نفسه أن أقل ما يُحرِّم هو خمس رضعات، وبالمناسبة هي رضعات فقط حتى لو لم تكن مشبعة، لكن شاع بين الناس خمس رضعات مشبعات. كلمة "مشبعات" هذه لا وجود لها حتى في هذا، فهذا نوع من أنواع التفسير هذا الكلام، وهو الخطأ في الكتابة أو الزيادة في الكتابة، بحيث أنه ليس إلا تفسيراً كما في قوله تعالى. مثلاً أمرنا
مترفيها ففسقوا فيها، فوجدنا أحدهم قد كتب "أمرنا مترفيها" يعني جعلناهم أمراء، ولكن هذا ليس موجوداً في المتواتر. قد يظن إعراباً مخالفاً لما هو متواتر "لا ينال عهد الظالمين"، فوجدنا أحدهم قد كتبها "لا ينال عهدي الظالمون" يعني الظالمون لا ينالون عهدي. كل ما هو مُتَلَقٍّ لك فأنت لا ينال عهدي الظالمين صحيحة وهي المتواترة والظالمون وردت فسُمِّيت كل هذه القراءات ولم نهملها حتى أيضاً بالقراءات الشاذة. وأتى هنا في مرحلة التوثيق من أجل أن يبين هل هذه القراءات الشاذة حجة أو أن هذه القراءات الشاذة يُستأنس
بها، أي يُنظر إليها وتُفحص ونأخذ منها ما يوافق أصول الشريعة. وما يساعدنا في إتمام عملية الاجتهاد لكنها ليست حجة، كذلك السنة المشرفة. السنة المشرفة في الحقيقة لها أسانيد وتكلمنا عن هذا بالتفصيل. فإذا قسمنا هذه السنة المشرفة إلى متواتر وإلى آحاد، فإن أغلب السنة آحاد، ولذلك لنا مواقف في أصول الفقه في الفهم في قضية دلالة هذه الأحاديث على... ما يفيد العقيدة أو ما يفيد العلم، هناك فرق بين العقيدة والعلم. العلم يعني اليقين،
لكن العقيدة تعني مسائل العقيدة حتى لو كانت ظنية. ولذلك أخذوا بما في السنة في قضية عذاب القبر. عذاب القبر له أصول في الكتاب، ولكنه منصوص عليه في السنة، هذا النص الذي في السنة. لا يخالف ما في الكتاب ولا يخالف ما في المعقول ولذلك نأخذه. فمن أنكره من أنكره فقد أنكر شيئاً صحيحاً، ولكن لم ينكر شيئاً قطعياً، يعني علماً يكفر بإنكاره، هذا أبداً. لكنه يكون مشوشاً على خلق الله ويتكلم بغير علم ويتكلم بطريقة سيئة لأنها جاهلة، ولذلك أخذ العلماء بعذاب. القبر
وأثبتوه، لكن من أنكره لا يكفر. من أنكره لم يكن قد أنكر قطعياً في الدين أو قطعياً في الرواية، ولذلك فهو ليس كافراً، ولا ينكر الصلاة مثلاً أو حرمة الزنا أو حرمة السرقة أو ما إلى ذلك. وفي نفس الوقت هو يكون قد أتى جهلاً، إذًا فإذا كانت المرحلة... الأولى هي الحُجِّيَّة، فإن المرحلة الثانية هي التوثيق، والتوثيق يتم بناءً عليه في الكتاب والسنة، ثم يتسع مفهوم السنة هنا في التوثيق ليشمل المذاهب المروية عن الصحابة الكرام: ما رأي عمر في هذا الشأن؟ ما رأي عثمان؟ ما رأي العبادلة: عبد
الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله؟ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود يُسمّون العبادلة لأن كلهم عبد الله. لقد رأينا روايات عن الصحابة الكرام أفادت الفقه وأثرته، وأصبح قول الصحابي كجزء من أجزاء التوثيق أيضاً. وأصبح قول الصحابي يُستأنس به، أو أنه حجة، أو لا نأخذ به إطلاقاً، وهذا كلام في الفقه. وفي الفهم الصحيح للدين الصحيح فالحجية كانت هي الأولى ثم بعد ذلك جاءت مرحلة التوثيق واتسعت هنا توثيق الحجة فقط إلى توثيق ما نستأنس به أيضاً من روايات وأصبح التوثيق
ديدن هذه الأمة. أصبح موثقاً كلام مالك وكلام الشافعي وكتب المؤلفين، وأصبح لنا سند للإمام النووي ولنا سند للإمام ابن. لدينا حَجَر ولدينا سند للسيوطي ولدينا سند لزكريا الأنصاري، وهكذا أصبح التوثيق هو المسيطر على عقل الأمة. تسير
في جهالة أو في ضلالة أو في هوى أو في "أفرأيت الذي اتخذ إلهه هواه". أبداً، إنما كانت تسير بنظام، أول مرحلة كانت الحجية، ثاني مرحلة كانت التوثيق، ثالث مرحلة سوف نرى. أنهم أرادوا أن يفهموا هذا المكتوب. أنا أمامي نص من القرآن وأمامي نص من السنة، وأريد أن أفهم هذا المكتوب. كيف أفهم وبماذا أفهم ولماذا أفهم وأبني على فهم هذا، وهو ما سنعالجه في حلقة
قادمة إن شاء الله. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.