هذا ديننا | 35 | نظرية الفهم جـ1 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. رأينا كيف أن المجتهد يسير في رحلة ذهنية من تحديد. الحجية التي
حددها بالكتاب والسنة ثم بعد ذلك بالتوثيق فقد وثق الكتاب وعرف أن منه ما هو متواتر وهو الحجة وأن منه ما هو قراءة شاذة وهو الذي سوف يستعمله استئناساً أو يرده ولكن سيفحصه على كل حال ورأينا كيف أنه عرف السنة المتواترة التي تفيد القطع في روايتها وعرف والتي تفيد أنها ظنية في رواياتها وخدم كل ذلك بتوفيق الله سبحانه وتعالى حتى أواسط القرن الخامس الهجري خدمة رائقة جعلت من الكتاب والسنة محوراً لحضارة المسلمين، ومحور الحضارة معناه أنه منه الانطلاق،
فتنطلق كل العلوم والفنون والآداب والعمارة - عمارة الأرض وعمارة المباني وتخطيط المدن - من هذا المحور معناه أننا نتخذه معياراً لتقويم الأشياء، لتقويم الحسن والقبيح، التقدم والتخلف، القبول والرد، وإليه المرجع، يعني كله يخدم لأنه منه المنطلق فإليه المرجع، لأنه هو الذي تنجذب إليه الحضارة، تنجذب إليه وحوله فتدور في فلكه، فإذا منه المنطلق وإليه العودة وبه التقويم
وله الخدمة، يخدمونه دائماً، فرأينا كيف نشأ. علم النحو وعلم الصرف، كيف نشأ علم الفقه وعلم الحديث وعلم القراءات، كيف نشأت علوم كثيرة، وكيف نشأ علم للكون في الفلك. كنا المتقدمين في هذا المجال، وفي الطب كنا المتقدمين. كان الشيخ عبد الله الشبراوي له سبعون إجازة في سبعين علماً، كان يقرأ في الأزهر الشريف. الرحلة أوصلتنا من... الحجية إلى التوثيق ومن التوثيق إلى أدوات الفهم، وأدوات الفهم بداية. بدأنا في تحليل الجملة العربية، والجملة
العربية مكونة من ألفاظ، فكان لا بد علينا من أن ندرك دلالة هذه الألفاظ. ودلالة هذه الألفاظ جعلت الكلمة لها معنى. يعني ماذا السماء؟ فعرفنا أن هذه القبة التي فوقنا. ويعني الأرض، فعرفنا. أن هذا الجرم الذي تحتنا هكذا لا يعرف كلمة ما معنى السماء ولا معنى الأرض. من لم يكن ناطقاً بالعربية [يفتقد] دلالات الألفاظ. كانت هذه هي الخطوة الأولى لقضية الفهم، وفي هذا عندما تعرضنا لدلالات الألفاظ وجدنا العجب العجاب، ووجدنا كلاماً عميقاً جداً في الوقوف أمام هذه المعاني، وجدنا
ما... يُسمى في لغة العرب بالحقيقة والمجاز، ووجدناهم في لغة العرب يطلقون السماء التي عرفنا أنها تلك القبة الزرقاء التي فوقنا، يطلقونها أيضاً على المطر. اسمه السماء، وتعجبنا أن المطر يُسمى بالسماء، يعني نقول: نزل السماء. نعم، نقول: نزل السماء في لغة العرب هكذا. إذا نزل السماء بارد، قوم رعيناه كانوا غاضبين. ماذا يعني عندما يقول الشاعر العربي القديم: "إذا نزل السماء بأرضِ قومٍ"؟ يعني إذا نزل المطر بأرض
قوم. فالسماء معناها القبة السماوية التي نراها والتي نسميها السماء، ومعناها أيضاً المطر. وبدأنا نبحث كيف تكون للكلمة معنيان: السماء بمعنى القبة، والسماء بمعنى المطر. وَوَجَدْنَا أَنَّ العَرَبَ تَفْعَلُ هَذَا، تَفْعَلُ شَيْئًا غَرِيبًا وَهُوَ أَنَّهَا تُطْلِقُ عَلَى الشَّيْءِ الوَاحِدِ عِدَّةَ أَسْمَاءٍ، وَيُسَمَّى هَذَا بِالتَّرَادُفِ. فَالسَّيْفُ، الحُسَامُ، المُهَنَّدُ، اليَمَانِيُّ، كُلُّ هَذِهِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ. أَوِ الأَسَدُ، القَسْوَرَةُ، اللَّيْثُ، السَّبُعُ، وَكُلُّ
هَذِهِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، هُوَ ذَلِكَ السَّبُعُ المُفْتَرِسُ، الأَسَدُ الَّذِي نَرَاهُ فِي حَدِيقَةِ الحَيَوَانَاتِ أَوْ نَرَاهُ فِي السِّيرْكِ. فإذا هذا هو حيوان واحد والصوت الخاص به يسمونه زئيراً وله لبدة هكذا صفراء، بعض الشعر هكذا، ويسمونه ملك الغابة. لكن هذا الأسد له عدة أسماء، فهذه ظاهرة لغوية سجلناها وقلنا إذاً هناك ظاهرة لغوية تسمى بالترادف في لغة العرب، ووجدنا أيضاً أن الشيء الواحد يطلق على معنيين، يعني هنا وأطلقت عليها عدة أسماء لكن دمجت أشياء متعددة وأطلق عليها اسم واحد مثل العين، فكلمة
"عين" هذه معناها بئر، قال لا، هذه معناها العين التي أرى بها، إنها العين المبصرة، فواحد قال لي لا، هذا حرف موجود عندنا في اللغة العربية اسمه عين هكذا، حسناً، ترى ماذا أصبح معنى كلمة ما هي "عين"؟ أهي بمعنى البئر، أم بمعنى العضو المبصرة، أم بمعنى حرف الهجاء، أم ماذا؟ إذن هي كلمة واحدة لكن لها عدة معانٍ، على عكس الذات الواحدة التي لها عدة أسماء، وهو ما يسمونه الترادف، مثل: السيف، الأسد، وغيرهما. فهذا ترادف، فما هذا إذن؟ قالوا إنه اشتراك، الاشتراك هو مشتركة في الدلالة على عدة أشياء ولذلك الظاهرة اللغوية الثانية
اسمها اشتراك. حسناً، الظاهرة الثالثة أن هناك شيئاً حقيقياً وشيئاً مجازياً، لأن ما علاقة المطر بالسماء؟ هما شيئان مختلفان. هل المطر هو النازل؟ هل السماء لها جسم ينزل منه المطر؟ لا، هذا المطر نازل من السحاب، إذاً... السحاب هذا في السماء، ولذلك يوجد مجاز هنا، إذ سمَّينا الشيء باسم المكان الذي هو فيه. ولأن السحابة موجودة في السماء، فنحن سمَّينا المطر النازل من السحابة سماءً. سمَّينا الشيء من الجهة التي يأتي منها، ولأن السماء
فوقنا وليست تحتنا، قمنا بتسمية المطر الآتي من فوق سماءً. السماء لأنها آتية من جهة السماء، فهذا يسمونه مجازاً. فأصبح لدينا حقيقة ومجاز. عندما آتي وأقول لك: نحن عرفنا معنى كلمة "العين"، فمعناها البئر، ومعناها عيني التي أُبصر بها، ومعناها حرف الهجاء، وهكذا. عندما أقول "سأضع عيني عليك"، ماذا يعني ذلك؟ يعني سأراقبك وسأعتني بك. بكَ سأعتني، لن أتركك، لا تخف، عيني دائماً عليك. فهذا مجازٌ، لأنه ليس معناه أنني سأقتلع عيني المبصرة وأضعها على رأسه، ليس
هذا هو المعنى، ولا ينبغي لأحد أن يفهمها هكذا، بل نفهم منها أنها مجازٌ بمعنى أنني سأراقبك أو أنني سأعتني بك. أي أنني سأرعاك وأصبح عندي الآن الترادف وأصبح عندي الاشتراك وأصبح عندي الحقيقة والمجاز وهكذا أشياء كثيرة لن ندخل فيها، شيء يسمى المطلق والمقيد وشيء يسمى العام والخاص وشيء يسمى البدايات والنهايات وشيء يسمى السياق والسباق واللحاق وشيء يسمى وشيء يسمى... أشياء كثيرة لكن دعنا نبقَ في هاتين الكلمتين. التَّرادُف عَرَفْناه، والاشتراك عَرَفْناه، والحقيقة
والمجاز، ما رأيك أنَّني من الممكن أن أفهم النصوص خطأً إذا لم أعرف هذا المفتاح؟ ولذلك "ولتُصْنَع على عيني"، "ولتُصْنَع على عيني"، كيف يعني؟ يأتي شخص ويقول لك: إن الله له عين، يا أخي ألست عربياً؟ هذا مثل... الذي سيقول لي: "أنت أخرجت عينك ووضعتها عليه"، أنت تكذب الآن عندما قلت لي: "أنا عيني عليك"، أو عندما يقول شخص لآخر ترحُّماً: "يا عيني عليك، يا عيني عليك". هذه عبارة لا علاقة لها بالحقيقة، هذه عبارة معناها مختلف تماماً، وإلا فلن تكون عربياً. فإذا بنا فوجئنا يا أستاذ. بهؤلاء الناس يقولون لا، هذا ربنا له عين، ويُحدثون ضجة وضجيجاً وفرقة
في مساجد المسلمين، ويدخلون هنا وهناك لأنهم لم يدرسوا أن هناك شيئاً يسمى الحقيقة والمجاز. حاولنا أن نعلمهم وقلنا لهم: على فكرة، هناك شيء يسمى الحقيقة وشيء يسمى المجاز. قالوا: كيف يعني؟ طيب إن هذا المجاز... إذاً هذا كذب. قلنا لهم: ليس المجاز هو الكذب، بل أنتم الكاذبون، أنتم المغفلون، لديكم شيء ضعيف في عقولكم، وضعف عقولكم هذا هو سبب هذه المسألة. لكنكم ستعودون وتقولون إن هذا كذب وليس كذباً، وأن المجاز كذب، وما إلى آخره. هذا كلام فارغ. مغفلين، ولذلك في مرحلة الفهم وضع الإمام الشافعي أيدينا على أشياء كثيرة. بدأنا بالكلمة، ثم
سنصل إلى السياق، ثم سنصل إلى السورة، ثم سنصل إلى القرآن الذي نقرؤه كالجملة الواحدة. تخيل إذًا أننا جالسون ندرس أربعين سنة في هذا بالتفصيل، ويأتي شخص على نظام "خذ واهرب" ويقول: لا، أنا أفهمها فاهمها بطريقة غبية، بطريقة مغشوشة، بطريقة لا علاقة لها بالعلم ولا علاقة لها بالتقوى ولا علاقة لها إلا بالاستهانة والاستخفاف
بنصوص الله سبحانه وتعالى ونصوص رسوله. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.