هذا ديننا | 37 | نظرية الفهم جـ 3 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات برنامج ديننا. تكلمنا عن تلك النظريات السبع التي هي مُكوِّن من مكونات عقل المجتهد،
ونعني بالمجتهد أي مجتهد عبر العصور. تكلموا في تحديد الحُجّية: ما الحُجّة؟ واستخلصوا أن القرآن والسُّنة هما الحُجّة في دين الله دين الإسلام، ثم بعد ذلك تكلموا بعد بيان الحُجّة في التوثيق: كيف نتوثق ونتثبت أن هذا الذي أمامنا من كتاب الله ومن سُنة رسول؟ الله وأنه قد دخل في دور الحُجّية واتسع التوثيق عندهم حتى يشمل سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي وما عليه أصحابه الكرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تكون التجربة في عهد الصحابة والتابعين امتداداً للتجربة
في عهده صلى الله عليه وسلم، فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء". الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وقال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، يعني الصحابي ينفق صاعاً - والصاع هذا عبارة عن اثنين كيلو ونصف من القمح. فالصحابة أنفقوا اثنين كيلو ونصف من القمح، وأنا أنفقت ما يعادل جبل أحد ذهباً، فالذهب الذي أنفقته بثوابه لن يصل إلى ثوابهم. ثوابه سيكون ثوابي، هذا لن يصل إلى ثوابه. فأنا أمام شيء كبير جداً
من الفضل، فوسّعوا التوثيق إلى أن نال ما ورد عن الصحابة الكرام في الدين في الدنيا، ثم بعد ذلك انتقلوا إلى الفهم، ورأينا كيف أنهم قد وقفوا عند اللفظ، ثم وقفوا عند السياق، ثم جعلوا القرآن كله جملة واحدة، ثم لم يفصلوا فهم القرآن عن فهم السنة، ولما فعلوا ذلك اصطدموا بقضية الناسخ والمنسوخ، واصطدموا مرة أخرى بقضية المحكم والمتشابه، واصطدموا مرة ثالثة بأسباب النزول، وأصبحت دراسة هذه الأشياء
جزءًا لا يتجزأ من الفهم، بحيث أننا نفهم عنهم هذا النص فهمًا عميقًا، فهمًا لا يقف. عند ولا عند السطح ولا يقف عند الظاهر ولا يقف عندما يتبادر إلى ذهنه مباشرة من معانٍ، بل لا بد من التعمق والتأمل، وهذا معنى التدبر. "أفلا يتدبرون"، ولم يقل أفلا يقرؤون، أفلا ينظرون، لا، "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً". إذاً فنحن قد أمرنا بالتدبر، والتدبر يحتاج منا أن نفهم ما كان مقدماً ومؤخراً حتى
نعلم آخر الأمرين، وأن نفهم أيضاً أسباب النزول وأسباب الكلام الذي حدث، وأن نفهم أيضاً المحكم الذي هو أصل الإسلام وما تشابه بين هذا المحكم وبين غيره من الشرائع لأن ما هو أصل الإسلام في عقيدة الإسلام. مهيمن ومراقب على كل ما ورد من وحي منذ آدم إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الأساس، فهو المقياس والمعيار المُحكَم، وما تشابه إنما يُرد إلى ذلك المحكم، وكل آيات الله، كما تكلمنا في حلقة مستقلة حول
هذا منذ مدة، كل آيات الله محكمة بهذا المعنى إذاً. فالفهم يقتضي معرفة هذه الأشياء، ولنضرب لذلك مثلاً حتى نفهم بعمق، مثلاً حديث موجود، وهذا الحديث يقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد دخل الكعبة ثم قال للمشركين فيها: "جئتكم بالذبح". فصلوا هذا النص عن الديانة كلها وترى بعض الناس يأتي فينعي على هذا النص لأنه تأثر. بتلك الدعايات
وبهذا الفهم الخبيث الضعيف، وبناءً عليه ينكر النص، والثاني يُثبت النص ويسخر من هذا الذي أنكره ويقول: يا أخي أنا أتبع الرسول وأنت تنكر. فيكون ذلك دعاية في وسط الشباب. فالشباب عندما يسمع هذا الذي ينكر ويسمع هذا الذي بفهمه الخاطئ يستدل، فإنه يسير وراء المستدل أكثر مما. يسير وراء المنكر والأمر ليس كذلك. نعم، قالها الرسول، ولكن متى قالها الرسول؟ ما المشهد الذي قالها فيه الرسول؟ ثم ماذا يعني الرسول صلى الله عليه وسلم من
هذا؟ لا يجوز إطلاقاً أن نأتي فنقول: قال الله تعالى "لا تقربوا الصلاة"، لأنه لم يقل هذا. ولكنه قاله ولكن "ولا تقربوا الصلاة". وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. لا يمكن أن نقول أن الله سبحانه وتعالى ما أمرنا بالصلاة وتوعد عليها بالويل والثبور لقوله تعالى: "فويل للمصلين". الله لم يقل هذا، "فويل للمصلين" إنما قال: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"، يعني هو فعلاً يصلي لكنه يسهو عن صلاته. ويقول ابن الحمد لله الذي قال "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم"، ولم يقل "في صلاتهم"، لأنه لو
قال "في صلاتهم" لكنا جميعاً سنعذب، لأن الإنسان يشرد ذهنه في الصلاة مهما حاول، وليس يُكتب من صلاتك إلا ما عقلت منها. فهذا الكلام يعني أننا يجب أن نهتم بحروف المعاني ونعرف معناها. ويجب ألا نجتزئ من النص، ويجب أن نعرف السياق والسباق، ويجب أن نعرف فيما قيل الذي هو أسباب الورود إذا كانت في الحديث، أو أسباب النزول إذا كانت في القرآن. النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، ولما دخل الكعبة كان فيها ثلاثمائة وستون صنماً. رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يصطدم بأهل مكة وهم يعبدون الأوثان، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتنع من البيت الحرام وفيه الأوثان ثلاثمائة وستون صنماً، لم يفعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل الكعبة وصلى فيها، وكان كلما يصلي يجعل البيت الحرام بين يديه ويتوجه إلى بيت المقدس وهي قبلة المسلمين إلى أن منّ الله علينا بأن وجهنا إلى الكعبة بعد ما ذهب إلى المدينة. لماذا لم يصطدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين؟ لم يصطدم بالمشركين لأن الدين لا يأمرنا بالصدام وإنما الدين يقول ما على الرسول إلا البلاغ، لأن الدين يأمرنا
أن نبلغ عن. ربنا سبحانه وتعالى عندما أجاز لنا الدين القتال دفاعًا عن النفس: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم". إذًا، الذي سيخرجني من دياري هذا قد ارتكب كبيرة من الكبائر، وأنا سأدافع عن نفسي. حدٌّ أنا يا بشر، أنا يا بشر، إذا أخرجتموني من مكاني سواء كنت مسلماً أو كنت غير مسلم، فإن الذي أخرجني ارتكب كبيرة من الكبائر يجيز الله بها قتاله. قاتلوا المُخرِج هذا، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم". فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم، هذا الدين يقول لي دافع عن نفسك، المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. المؤمن لم يقل لي الذي يضربك على قفاك سلم له، لم يقل لي هكذا، ولكن أيضاً لم يقل لي اعتدِ، لأن الذي قاله لي ولا تعتدوا إن الله لا يحب. المعتدين، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وضعوا القاذورات وبقايا الذبيحة على ظهره، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام. جاءت ابنته فاطمة عليها السلام ودعت عليهم وأزالت هذه الأشياء من فوق ظهره الشريف، فقام وقال - بمعنى الكلام - ما يفهمه كل عاقل: "أأنا جئت لألعب معكم؟"
هل أنا آتٍ للمزاح؟ إن هذه القضية خطيرة جداً. إنني آتٍ إليكم محذراً من الذبح، آتٍ إليكم وأنا أحذركم من جهنم التي ستدخلونها في الآخرة، وأحاول أن أمنعكم من هذا المصير. فهذا ما يُسمى بالمجاز الذي تحدثنا عنه مراراً. ثم يقول الآخر: لا، أنا أريد ذبح... حسبنا الله ونعم الوكيل. سيؤتينا الله ويغنينا. الله ورسوله من فضله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
.