هذا ديننا | 38 | نظرية الفهم جـ 4 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تكلمنا عن رحلة في ذهن المجتهد، وعرفنا أن أول مراحل تلك توقفت الرحلة مع حجية الكتاب والسنة، ثم كانت المرحلة الثانية من هذه الحجية في التوثيق، وأن هذه أمة قد وثقت مصادرها ولا تزال، وأن المرحلة الثالثة هي مرحلة الفهم، ووقفنا عند الفهم، وأردنا أن نبين أنه لا بد من إدراك اللفظ، ومن إدراك النحو والصرف، ومن
إدراك السياق والسباق، ومن أسباب النزول وأسباب الورود ومن إدراك الناسخ والمنسوخ ومن إدراك المحكم والمتشابه وأمثال هذه المعاني التي افتقدها كثير من الناس وتعاملوا مع النص تعاملاً جافاً وتعاملاً خطيراً ولم يميزوا بين النص في ثبوته وبين فهم النص في دلالاته وهذا أمر هو الذي ولّد الإرهاب وهو الذي ولّد الجماعات وهو الذي ولد كل هذا البلاء، وقفنا في حلقة سابقة على قضية الذبح وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على المشركين في الكعبة وقال: "جئتكم بالذبح"، وهذا لم يكن هكذا، وإنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت الحرام
وكان فيه أكثر من ثلاثمائة وستين صنماً ووثناً قائماً بذاته، فلم يتعرض لها النبي ولم يقاطع النبي هذا المكان المقدس الذي هو محل نظر الله بالرغم مما فيه من هذه الأوثان ومما فيه من هذا الشرك، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وقلبه كان موجهاً إلى ربه. تخيل أن الكعبة أو البيت الحرام فيه كل هذا، المسجد الحرام في كل... هذا العدد من الأصنام ألَمْ يعني كيف كان يُصلّي في وسط هذا العدد؟ تخيل أنت هذا، ولكن هذا فعلُ رسولِ الله الذي هو الحجةُ والبرهان، وهو المصدر، وهو المعصوم، وهو
الموفق والمؤيد من عند الله، وهو الذي يجب أن نطيعه، لا أن نطيع الأهواء، ولا أن نطيع الرغبات والتخيلات التي تأتي عند الناس وضعوا على ظهره الشريف بعض القاذورات وجاءت السيدة فاطمة عليها السلام، وكلمة "عليها السلام" هذه يذكرها البخاري في صحيحه، ما ذكر فاطمة إلا وقال عليها السلام، ونحن من أهل السنة والجماعة نعظم أهل البيت ونحترمهم ونفتح صدورنا للجميع ولا نكفر مسلماً من أهل القبلة، ولذلك حتى لم نكفر الخوارج الذين أفسدوا في الأرض والذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أنهم كلاب أهل النار، وبالرغم من ذلك وما يفعلونه من تشويه صورة الإسلام في العالمين، إلا
أننا لا نكفرهم لأنهم من أهل القبلة، وحتى لا نكون مثلهم. فالقضية أن فاطمة عليها السلام أخذت تدعو. على المشركين فيما فعلوه بأبيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم رعايةً لخاطر ابنته عليها السلام قام وتحدث معهم أن هذا الأمر ليس هزلاً، وأن هذا الضحك الذي يضحكونه، كما قال تعالى: "إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ"، هذا أنا لم آتكم بالهزل ولا بالهزار، جئتكم بشيء يذبحكم، جئتكم بالذبح. فهذا يُسمّى في لغة العرب بالمجاز، يعني جئتكم بأمر فيه
جِدّ، بأمر لو تركتموه لذبحتم أنفسكم. فهم المساكين أنه أراد أنني سأذبحكم، والأمر ليس كذلك، والله أعلم بما هنالك، وإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذبحهم هو بل أنه مكث معهم بعد هذا سنوات طويلة في مكة وهو يدعوهم إلى الله ويعلمهم ويسلم معه القليلون ويكفر به الكثيرون، فلم يؤمن معه في أربعة عشر عاماً سوى مائة رجل، ولم يقتل أحداً ولم يصطدم بأحد، وفي النهاية ذهب إلى الطائف فصده أهل الطائف من أجل أمور سياسية عندهم وعلاقات. ومصالح مع أهل مكة، وتوفي عمه، وتوفيت خديجة، وبدأ الإعداد
لمغادرة بلاده والخروج منها. تجمعوا عليه ليقتلوه صلى الله عليه وسلم، وهو لم يصطدم معهم. جاء عبد الرحمن بن عوف وقال له: "يا رسول الله، استعرض بنا الوادي"، قال: "ما أُمرت بهذا". خباب بن الأرت يقول: استنصر. ادعُ لنا يا رسول الله، يعني ادعُ عليهم، فقال: "إنما أنا رسول الله ولينصرني الله، حتى تسير الظعينة المسافرة من مكة إلى الحيرة لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها". أهل العقبة الأولى والثانية من الأنصار يقولون له: "إذا أردتَ نَمِلْ غداً مَيْلَةَ رجلٍ واحدٍ على أهل منى فنذبحهم أو قال: "ما أُمِرتُ بهذا. الله سبحانه وتعالى ينزل
إلينا حتى نفهم مراده من كل هذا، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يقل: بسم الله المنتقم الجبار، ولم يقل: بسم الله الرحمن المنتقم، بل قال: الرحمن الرحيم. وبعد كل هذا ينزع هؤلاء الناس النص من سياقه ومن سباقه ومن لحاقه ومن..." معناه ومن أسباب نزوله ومن مراداته ومن فعل الصحابة من بعدهم ومن فعل سيدنا ومن أعطني بجملته لكي يستدلوا به أنهم يذبحون الناس. ما رأينا أمثال هؤلاء إلا أن يكونوا عملاء لجهات أجنبية. ما رأينا هذا الفهم على مستوى العالم. إنه قساة القلوب لم يفهموا عن الله ولم يفهموا عن... رسوله وذلك
ركن من أركان الاجتهاد، مرحلة من المراحل السبع التي تحدث في عقلية المجتهد: الحجية، التوثيق، الفهم. والفهم له أدواته، ومن لم يتعلم فإنه لا يفهم. هنا خلط عظيم عند هؤلاء الناس بين النص وبين فهم النص، ورأينا وحذرنا أن أيها الناس لا تستمعوا إلى أقوالهم فتنكروا النص، إياكم. أن تنكروا النص، إياكم أن تنكروا النص، فالنص له معنى تعرفونه بأدوات فك المعنى، تعرفونه بتلك الأدوات التي وضعها العلماء لفهم النصوص الشرعية المرعية
من أدلتها التفصيلية، وإذا لم تكن معكم هذه الأدوات فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. والذي فهم فهماً خاطئاً فصار خلفه هو الوجه الثاني النص منكر. النص. أنت ترتكب الآن مصيبة أنك تعطي الغذاء والحجة الواهية لهؤلاء الناس لكي يتغولوا ويتوغلوا فيما هم عليه. يعني كل واحد منهم يقول لك: "إذا كنت أنا على صواب، انظر ماذا يفعل هذا، إنه ينكر النص، ولذلك أنا على صواب، وهذا على خطأ، وهذا على خطأ، وهذا على ظلال النصوص معانٍ لا تُدرك معانيها، فاسأل أهل الذكر، وأهل الذكر
سوف يوضحون لك بجلاء ما هذا الفهم وكيف يكون وما أدواته إذا أردت ذلك. الدين علم، ونحن تكلمنا عن الفرق بين الدين والتدين، فالدين علم والتدين التزام وسلوك، ولذلك ليس كل ملتزم وكل سالك وكل شخص... تقي عالم في الدين، ولكن هؤلاء فعلوا هذا واعتقدوا أن من ابتُلي فصبر، أو من أوذي فتجاوز، أو من كان تقياً، أو من كان سالكاً - كل ذلك من العلماء. أبداً، العلم علم له أركانه،
وله مبادئه، وله مصطلحاته، وله كتبه، وله قواعده، وله نتائجه، وهكذا. العلم علم، فعلم الدين. شيء والتدين شيء آخر. قضية الفهم قضية في غاية الخطورة، وهي مكون من مكونات الاجتهاد ومكون من مكونات عقل المجتهد. فعلينا أن نتأمل وأن نتدبر في هذا تدبراً شديداً. تكلمنا في الفرق بين النص وفهم النص بأمور تفيدنا في هذا المقام الذي نحن فيه، منها حديث "لن يفلح قوم ولوا". أمورهم امرأة وهذا الحديث اختلفت فيه الأنظار، لكن
إذا رجعنا إلى أسبابه وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كسرى يقول له: "أسلم تسلم"، دعوة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل الرسائل في كل جهة وكانت الإجابات مختلفة، فنرى مثلاً المقوقس في مصر أرسل له هدية ونراه نرى. ملك البحرين أو غيره وما إلى ذلك فعل شيئاً غير الذي فعله كسرى، أما كسرى فإنه قد مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لما بلغه عنه: "هذا مزق الله ملكه". كسرى كان هناك تدابير من ابنه الولد الذكر أنوشروان في
قتله والاستيلاء على الحكم وكانت... له أخت هي ابنة كسرى، وسمع كسرى بهذه المؤامرة وعرف أن الأمر قريب، ولذلك أوجد سمًّا في علبة وكتب عليها "إكسير الحياة، من أخذه فإنه يخلد أو يعيش أبد الدهر"، ووضعه في خزائنه لأنه تأكد أن ابنه سوف يقتله. وفعلًا قتل أنوشروان أباه، ثم لما فتش في الخزائن وجد. هذا الحق أو هذه العلبة فتناولها وكانت السم الزعاف فمات، فتحدث الناس أن المقتول بعد قتله
قتل قاتله يعني بهذه الحيلة التي كانت. فلما مات أنوشروان تولت أخته، وكل هذه العائلة هي التي مزقت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لن يفلح هؤلاء الأقوام الذين مزقوا كتابي". لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة فأخذها هؤلاء على العموم ولهم هذا الموقف العجيب الغريب من المرأة