هذا ديننا | 40 | نظرية القطعي والظني ج1 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تكلمنا في مرة سابقة عن قضية القطعي والظني، وأن كثيراً من الناس لا يميزون بين النصوص القطعية والنصوص الظنية، والتفرقة بين القطعي والظني شغلت مساحة كبيرة من مساحات عقل المجتهد. وضربنا مثالاً أو أمثلة وتوقفنا عند قضية المطلق والعام. المطلق يعني ما دل على ماهية الشيء
بلا قيد، يعني عندما أقول لك: ائتني برجل، فتأتي لي بأي رجل، يكون... هذا مُطلق لأنني يمكن أن أقول لك بِرجُلٍ كبيرٍ في السن، ويمكن أن أقول لك بِرجُلٍ صغيرٍ في السن، ويمكن أن أقول بِرجُلٍ يكون مصرياً. كل قيدٍ من القيود سوف يغير الطلب، لكن عندما أقول: أحضر لي رجلاً، فالرجل هنا مطلق. فالمطلق هو مَن في الرجال، أي رجل، فيبقى المطلق إذا جئنا بأي شخص يتحقق المطلق، فالمطلق يتحقق بأي فرد من أفراده.
أي واحد رجل يكون قد تحقق به هذا. أما العام فإنني أقول لك: أتِني بالرجال، يعني الذين موجودون في هذا المكان أو الحاضرين الآن، فلا بد عليك أن تأتيني بكل الرجال. يكون الفرق واضحاً ما بين المطلق وما العام المطلق يتحقق استجابتي للأمر عندما يأمرني أحد بمطلق بأي فرد من أفراد هذا الشيء الذي أُمرت به، أما العام فلا بد أن أفعل ما أُمرت به في كل المواقف أو بكل الأفراد. فرقٌ
واضح في أذهان المجتهدين لكنه ليس واضحاً في أذهان من لم يدرك الفرق بين المطلق وبين... العامُّ هو لفظٌ يستغرقُ جميعَ ما يصلحُ له بوضعٍ واحدٍ، ولكنَّ المُطلقَ هو ما دلَّ على الماهيةِ بلا قيدٍ زائدٍ. فلو قلتُ لكَ: "ائتِني برجلٍ"، فيكفي أيُّ رجلٍ، لكن لو قلتُ لكَ: "ائتِني بالرجالِ"، فمعنى هذا أن تأتيني بكلِّ مَن حضرَ في ذلك الوقتِ وفي هذا المكانِ من الرجالِ عندما أو عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة، هل هذا من قبيل المطلق أو أنه من قبيل العام؟ سؤال: ما
الذي رأيناه، ما الذي رويناه، ما الذي أطبق عليه المسلمون في الأرض؟ إننا عندما نقوم فنقف في الصلاة نضع يدنا اليمنى. على يدنا اليسرى ثم بعد ذلك نقول الله أكبر ونركع، ثم بعد ذلك نقول سمع الله لمن حمده فنرفع من الركوع ولا نضع يدينا، اليد اليمنى على اليد اليسرى، فيأتي صاحبنا النابتة ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى وهو واقف في الصلاة. طيب، إنه بعد الركوع وهو واقف في الصلاة، إذاً فهو فهِمَ هذا على أنه من
قبيل العام الذي لا بد أن يضع يده قبل الصلاة، قبل الركوع، ويضع يده أيضاً بعد الركوع، فالعلماء أجابوه أن هذا من قبيل المطلق وليس من قبيل العام، لو كان هذا من قبيل العام. كنا نضع أيدينا اليمنى على اليسرى بعدما نرفع من الركوع. لو كان هذا من قبيل المطلق، فإذاً مرة واحدة تكفي. من الذي حدد لنا أن نفعل هذا أو ذاك؟ نتبع السنة ونتبع فعل الصحابة. لم يرد أبداً أن أحداً من الصحابة ولأن رسول الله صلى الله عليه... وسلم رفع من الركوع فوضع يده اليمنى على يده اليسرى. إذا هذا
المثال واحد يقول لي: حسناً، يعني هذه مسألة سهلة، يضع أو لا يضع. المصيبة أنها مع سهولتها هي التي جعلتهم يفهمون من الأحاديث أن يقتلوا الناس من أحاديث أخرى. أتتذكرون كلمة الذبح التي استدل بها هؤلاء؟ أتتذكرون كلمة... أُمرت أن أقاتل الناس، إن الفرق بين العقل الفقهي والعقل الإرهابي المتطرف الذي يشوه الإسلام والمسلمين هو فهم النصوص. أتتصور أن هذه المسألة البسيطة التي قد يستنكرها الناس قائلين: "ما هذا يا مولانا الذي تقوله؟ أيضع يده
أم لا يضع يده؟" هذا ليس شيئاً مهماً، لا، أنا لا أبحث. عن ذات المسألة أنا أبحث عن الفهم الذي أوصل إلى هذه المسألة حتى أشرح أن هذا الفهم بذاته هو الفهم الذي سيقلب الأمور وسيقلب الحقائق، وأنه هو الفهم الذي أثّر على الشباب؛ ثلاثون ألف شاب من غرب أوروبا انضموا إلى داعش. لماذا؟ لأنهم يقولون أن سيد الخلق قال للمشركين قد... شرحنا هذا قبل ذلك، "جئتكم بالذبح" فلا يعرفون حقيقةً ولا يعرفون مجازاً ولا يعرفون مطلقاً ولا يعرفون عاماً، ويفسرون هذا على ما يتبادر إلى أذهانهم، ويضلون بهذا حديثي العهد
بالإسلام من الشباب والفتيات اللاتي دخلن إلى الإسلام من أجل ما فيه من أخلاق، من أجل ما فيه من توحيد وأسلموا. أنفسهم للإسلام، فإذا الإسلام يقول لهم - في رأي هؤلاء الفسدة الكاسدين - يقولون: يقول لهم اذبحوا الناس، اقتلوا الناس، قاتلوا الناس، دمروا الأرض ومن عليها. إذاً نحن في مصيبة كبرى. نذكر هذه الأشياء حتى نتعمق في فهمٍ عميق لما يفعلون. هذا لم يرد في السُّنة، وهذا لم يرد في أيضاً هذا فهم يتجاوز خصائص اللغة العربية، هذا فهم يخلط ما بين مفهوم المطلق ومفهوم العام. هو نفسه الذي يحدث مع النصوص
التي استعملوها فيما بعد لتضييع الإسلام والإرشاد والتعليم. إن هنا موطن الخطر، هنا موطن الخطر، فيها يكمن الخطر في هذا الكلام عدم إدراك اللغة العربية الذي... ترتب عليه عدم التفرقة بين المطلق وبين العام الذي يحدث في بعض المساجد أيضاً من هذه المسألة الصغيرة أن صيّروا المسائل قضايا وكأنها قضايا
الأمة. ضع يدك بعد الركوع، من أين أتيت بهذا الكلام؟ أتى به من فهمه الخائب، أتى به من فهمه الناقص، من أنه لم يفهم الفرق بين. المطلق وبين العام ومن أجل ذلك فهو يتمسك بها وتنتقل عنده من كونها مسألة إلى كونها قضية ويشغل بها بال المسلمين وترى في التواصل الاجتماعي يرسلون لك رسائل حتى يشعروك بأنك على الأقل مفرط في الإسلام وفي دينك وأنك لست ملتزماً من الملتزم هذا المتكبر المفسد الجاهل هو الذي
يتكبر على خلق الله بعبادته، يرسل لك عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن قول "صدق الله العظيم" بدعة. "صدق الله العظيم" التي نقولها بعد تلاوة القرآن أصبحت بدعة! ولماذا هذا؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى: "قل صدق الله" في سورة آل عمران "فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" إن وضع للناس قل صدق الله، قل صدق الله، وعندما يأمرني ربي بأن أقول صدق الله، فجئت وكلما أنهيت قراءتي أقول سبحان الله صدق
الله العظيم، وكأنني أستشعر صدق هذا الكلام وجمال هذا الكلام وحلاوة هذا الكلام، إذاً ما الذي حدث ويحدث الآن مع الجماعات الإرهابية هو نفسه الذي حدث أولاً. أن القرآن لا يستقل عنده بالحجة، قال تعالى: "قل صدق الله"، لا تكفي، لا بد أن يرد إليه شيء من السنة، فإذا لم يرد شيء من السنة بدّعك وفسّقك ولعنك وصارت به أحواله. إن القرآن
له دلالة مستقلة، ولذلك فهو المصدر الأول للتشريع، والسنة تفسر القرآن، ويقول الإمام الشافعي المجتهد. الفاهم لم يرد شيء في السنة إلا وهو تفصيل ما أُجمِل في القرآن، فالسنة هي التي علمتنا الصلاة، وهي التي علمتنا الصوم، وهي التي علمتنا الحج. وكان يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويقول: "خذوا عني مناسككم"، ويقول: "ابدأوا بما بدأ الله به"، ينبهنا إلى أن الأصل في الحجية هو القرآن. فمن فصل القرآن عن السنة كمن فصل السنة عن القرآن، كلاهما منه الدين وكلاهما هو الذي يشرح لنا الدين،
ولكن السنة لها استقلال، وحرَّم النبي علينا الجمع بين المرأة وخالتها وبين المرأة وعمتها، وهو ليس موجوداً في القرآن. والقرآن له استقلال وله عموم وله إطلاق، ولكن هذه العقلية التي فقدت. اللغة التي أنكرت استقلال القرآن هي العقلية التي سنراها تفسد في الأرض بعد ذلك. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.