هذا ديننا | 42 | نظرية الْإلْحَاقِ | أ.د علي جمعة

هذا ديننا | 42 | نظرية الْإلْحَاقِ | أ.د علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. في هذه الحلقة، وقد استعرضنا سوياً كيف يفكر المجتهد وماذا فعل وماذا
كتب في أصول الفقه، فقد كتب عن الحُجَية ما الحجة في ديننا، وتلخص له أن الحجة الكتاب والسنة. الكتاب هو المصدر الأول والسنة المصدر الثاني، وأيضاً كيف نوثق الكتاب والسنة، فتكلم الأصولي عن هذا. ثم ثالثاً: ما الأدوات التي يمكن أن أفهم بها الكتاب والسنة، فتكلم عن اللغة. العربية عن المطلق والمقيد، عن العام والخاص، عن المجمل والمبين، عن الناسخ والمنسوخ، عن أسباب النزول، عن أسباب الورود، وتكلم في هذا كثيراً حتى يبين لنا كيف نفهم. تكلم عن الحقيقة والمجاز، تكلم عن السياق والسباق واللحاق،
تكلم عن دلالات الألفاظ، تكلم عن مجموعة من المسائل، تكلم عنها بتوسع، أيضاً عن القطعي والظني لأننا عندما فهمنا القرآن وبعد ما فهمناه وجدنا أن مساحة منه ومن فهمنا للسنة هي أيضاً تقابل مساحة أخرى، هذه قطعية وتلك ظنية، وأن القطع قليل وأن الظن واسع. ولذلك فنظام التعامل مع الدين أن نؤمن بالاثنين معاً القطعي في موضع القطع والظني في موضع الظن. ورأينا أن بعض الناس يريدون تغيير معالم الدين، ولا يُعَدُّ هذا أي نوعٍ من أنواع التجديد، فالتجديد له أصوله وله قواعده وله أهدافه وله طريقته
وله نتائجه، وليس من كل ذلك الفوضى في الفهم. الفوضى هي التي سوف تأتي لنا بجماعة التطرف والتشدد والإرهاب، وعزل الأمور بعضها عن بعض. وسوف تأتي لنا بعقلية غير فارقة لا تفرق بين النص وفهم النص، ولا تفرق بين المطلق والمقيد، ولا تفرق بين العام والخاص، ولا تفرق بين القطعي والظني، ولا تفرق بين أي شيء في أي شيء. وكلما جاء له خاطر فإنه ومن منطلق ذلك الخاطر كأنه هو النبي وكأنه هو الموحى إليه وكأنه هو يعني صوت الله في أرضه كأنه هو هكذا فإنه يفعل
كل هذا. عرفنا الكتاب والسنة وعرفنا التوثيق وعرفنا أدوات الفهم وعرفنا الإجماع وما ترتب عليه. أضافوا شيئاً آخر وأسموه بالإلحاق، والإلحاق كما يقول الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني جاء من أن نصوص الشريعة متناهية، القرآن ستة آلاف ومائتان. ستة وثلاثين آية كما ذكرنا. السنة لا تزيد إطلاقاً عن ستين ألف متن للحديث، ولكن المختص بالفقه من كل هذا خمسة بالمائة، والمختص بالأخلاق وبالحياة التي ندعو الناس إلى أن تحب
الحياة من خلال الدين، وندعو الناس إلى أن تعمر الأرض وأن تتمتع بما خلقه الله سبحانه وتعالى في هذا. الكون من خلال الدين، ونعمر الأرض ونحن ننظر إلى هذا الكون من خلال عبادة الله. "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". إذاً هذه المواضيع: الكتاب والسنة، ثم بعد ذلك قضايا التوثيق والفهم، ثم بعد ذلك القطعى والظنى، أتى بشيء أسموه الإلحاق وهو القياس. النصوص متناهية والأحداث غير متناهية كل يوم. كل يوم هو في شأن، كل يوم جديد، ولذلك عدد الأسئلة التي ستُطرح في فعل
الإنسان كثيرة جداً. فكيف ألتزم بروح الشريعة؟ كيف ألتزم بفكر هذه الشريعة؟ صنعوا أداة معقدة دقيقة اسمها القياس أو الإلحاق، وهذا القياس عبَّر عنه بعض العلماء بأنه هو عين الاجتهاد، والقياس له أركان أربعة، وكل... ركن من هذه الأركان لها شروط، وكل ركن من هذه الأركان له أحوال وله درجات عملية معقدة للغاية. نجلس ندرس في القياس هذا الذي يستغرق وقتاً طويلاً لكي ندرك
بدقة كيف نمارس فتوى أو حكماً أو رأياً حول شيء جديد لم يكن موضوعه موجوداً من قبل. فالقياس له أربعة أركان: الركن الأول هو الأصل، والأصل معناه الكتاب والسنة، والأحاديث معناها أنه يجب علينا أن يكون هذا الشيء موجوداً في الكتاب والسنة. الأصل على الدوام كلمة "الأصل" معناها ذلك الحكم الموجود أو ذلك الشيء الموجود حكمه في الكتاب والسنة. والفرع هذا الركن الثاني ليس موجوداً في الكتاب والسنة. الكلام على هذا الفرع، الأصل
له حكم وله علة والفرع له علة فإذا له حكم الأربعة الأصل وعلته وحكمه والفرع، ولا بد أن يكون ذات نفس علة الأصل، فهم أربعة فقط: الأصل والحكم والعلة والفرع. ينتج من هذا القياس نتيجة وهي حكم الفرع. ما هذا الكلام؟ كيف ببساطة؟ فكروا قالوا مثلاً: نحن عندنا الخمر، هذا الخمر عبارة عن شيء اسمه خمر. زجاجة كهذه تسمى خمراً، ونريد أن نرى
كيف يكون فعل الإنسان فيها. هل هذه الخمرة يجوز شربها؟ السؤال هو هذا، وعلى فكرة، القياس كله أسئلة يطرحها الفقيه على نفسه ويتتبع كل جزء منها. فهل هذه الخمر يجوز للإنسان أن يشربها؟ الذي يريد طاعة الله سبحانه وتعالى لا يجوز. فيقول إذن الخمر هذه هي الأصل، ما حكمها؟ حرام. فيسأل نفسه: لماذا؟ لماذا الخمر حرام؟ يعني لماذا حرَّم ربنا هذا السائل؟ وبعد بحث طويل وكلام دقيق، يصل إلى أشياء نحن نعرفها جميعاً الآن من مجهود
هؤلاء الناس وتأملهم الدقيق. فيقول: حرام لأنها مُسكِرة، تسبب السُّكر. لا بد أن يدرس إذن ما هو هذا السُّكر وما هي المادة الفعالة التي في الخمر والتي جعلت فيه سكراً، وهذا السكر هو العلة. جاءتني مسألة جديدة وأريد أن أرى هل هي حلال أم حرام. سائل كهذا، هذا السائل الجديد الذي لم يكن موجوداً قبل ذلك في الصناعات القديمة، أبحثه، هل هذا مسكر؟ فقال لي: نعم، هذا يسبب الإسكار. قلت له: إذا كان الخمر محرمة لأنها مسكرة، فتكون
الأشياء الجديدة المسكرة محرمة مثلها. هذا تفكير منطقي، السؤال الثانى، لماذا حرّم ربنا المسكر؟ لماذا لم يسمح لنا بشرب هذا المسكر وحسب. يفكر الفقيه هكذا، لماذا قال ذلك؟ قال لأن الإسكار يحجب العقل عن التفكير والتركيز والتدبر الذي أُمرنا به، وأن نتدبر في القرآن وأن نتأمل في السماء وأن نحن ننظر في الأرض ونأخذ العبرة من التاريخ، ولأن هذا العقل هو مناط التكليف فإن الله تعالى أراد أن يحافظ على العقل في
حالة الاختيار، ولا نترك هذا العقل إلا إذا كنا سندخل في عملية جراحية، فبدلاً من أن نموت من الألم، أجاز لنا البنج الذي يجعلني - المخدر الذي لكن بإرادتي هكذا وفي حالة كهذه أكون قد تنازلتُ عن التكليف الذي أمرنا الله به والذي بموجبه نُصلي ونصوم ونعبد ونذكر وندعو ونعمر الأرض وهكذا. فإذا كان الخمر أصل الحكم فيها أنها حرام، والعلة أنها مسكرة، فلو ظهر أي شيء كفرع جديد وجاء ليقول لي هذا أنا هذا. ليست خمراً، قلت له: "إذاً ما هذا؟"، قال لي: "هذه زجاجة ويسكي"، قلت له: "هل هي مُسكِرة؟"، قال لي: "نعم"، قلت له: "إذاً هي حرام"، قال: "طيب، الشامبانيا؟"، قلت له: "هل هي مُسكِرة؟"، قال لي: "نعم، إنها
مُسكِرة"، قلت له: "إذاً هي حرام"، ولذلك المسلمون دائماً ومن دون نقاش يسمون البيرة خمراّ، يسمون الويسكى خمراَ، يسمون الشامبانيا خمراً، وأي شخص سيأتي إليّ ويقول: "إن أنواع الخمر عندنا عدة أنواع وعدة ماركات وعدة..." فأقول له: ما يهمني هو هل هو مُسكر أم لا؟ فإذا قال: نعم إنه مُسكر، قلت له: إذن هو حرام. هذه قضية القياس. من كلمة "لماذا" نعرف العلة، ثم نسأل لماذا مرة أخرى فهذا يعرفنا العلة الثانية، أى علة العلة، فنعرف لماذا جعل الله المُسكِر حراماً لأنه يُذهِب العقل، فلماذا حرَّم الله ذهاب العقل؟ لأن العقل مناط التكليف. نجد أنفسنا أمام ثلاثة أسئلة، كل سؤال ينقلنى إلى مستوى أعمق في الفكر. طبقوا هذه
المنهجية مع كل الفقه من أول الطهارات إلى نهاية الشهادات والقضاء والشهادات. إذا هذا هو الفهم أو... هذا المفهوم هو الذي يجعلنا نفكر وفق الشريعة، وهو ما يُسمى بالقياس. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.