هذا ديننا | 43 | نظرية التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ ج1| أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات "ديننا". سرنا سوياً ونحن نتحدث عن
القرآن الكريم وعن أنه هو المصدر. والحجة وكيف وصل إلينا وبعض من جهات إعجازه، سرنا سوياً كيف وصلت إلينا السنة المشرفة وما ألهم الله سبحانه وتعالى به الأمة من حفظ القرآن ومن حفظ السنة، سرنا سوياً كيف أن الأصوليين قد وضعوا منهجاً للتفكير، وهذا المنهج لم يطبقوه فقط في النصوص الشرعية بل أيضاً طبقوه في الواقع. المحيط بنا وأنه خرج بنظريات سبع الحجية وتكلمنا عنها ثم التوثيق ثم
الفهم كيف نفهم النص ثم القطعية والظنية ثم الإلحاق وتكلم أيضاً وقد تكلمنا عن كل هذا على قضية التعارض والترجيح فإذا تعارض نصان فإن الأصولي يجلس من أجل أن يفك هذا التعارض الظاهري فهذا التعارض يستحيل أن يكون. من جهة الشرع الشريف ولكن لا بد أن أحد النصين قد خصص النص الآخر أو قد ألغى النص الآخر أو قد كان هذا في زمان وكان هذا في زمان آخر، فالجمع بينهما من جهة معينة إلى آخر تلك الاحتمالات الكثيرة. وإذا تعارض نصان في
ظاهرهما، بُحِثَ عن السند حتى يُرَى الذي هو أصح من الآخر في سنده، وكان هذا المجال، مجال التعارض والترجيح، كان مجالاً واسعاً كبيراً للعلماء في أن يبين كل واحد منهم مدى إمكانية التصور المبدع للمآلات، لمآل الأفعال، لما سوف تترتب عليه تلك الأحكام، والقدرة المبدعة لإدراك الواقع، ولإدراك المصالح، ولإدراك تحقيق مقصد الشرع من شرعه المقصد. الشرعية وإدراك كُنه وعمق اللغة العربية، وإدراك هذه الهيئة للإسلام والتي تصور الإسلام صورة رائقة فائقة عند العالمين، بحيث
ألا يكون المجتهد عائقاً ولا حجاباً بين الخلق وبين الخالق، وألا يصد عن سبيل الله بغير علم، كل هذه العناصر افتقدناها عند النابتة الذين ظهرت لنا عقولهم تختلف عن عقول تراثنا. الأمة وعلماء الأمة في السابق واللاحق في السلف والخلف في الماضي وفي الحاضر بل وفي المستقبل لأنهم حطموا كل هذا الذي بناه العلماء عبر القرون وأرادوا أن يستقلوا بالفهم مباشرة من الكتاب والسنة من غير أدوات ومن غير ترتيب ومن غير معرفة لتلك الخريطة التي رسمها لنا السلف الصالح وهنا ظهرت أمورٌ وستظهر أمورٌ أخرى أشدُّ وأنكى عندما
نفقد هذا المعيار، وعندما نفقد هذا الإحساس بالنص، وعندما نفقد هذا الإدراك للواقع، وعندما نفقد هذه القدرة على وصل النص المقدس المطلق عن كل زمان وعن كل مكان بهذا الواقع النسبي المتغير المتداخل المتشابك الذي ينبغي علينا أن نطبق عليه هذا المطلق. يفتقر النابتة من الخوارج ومن الجماعات هذا الأمر، ولذلك رأيناهم وسمعناهم بآذاننا وهم يقولون إن أصول الفقه طاغوت قد عبدوه من دون الله، فصار العلم طاغوتاً، وصار العلم مرفوضاً، وصار العلم والتأني والتوقيع عن رب العالمين غير مقبول، حتى أن بعضهم اعترض على عنوان
كتاب ابن القيم "إعلام الموقعين". عن رب العالمين وأعتقد أن العالِم ليس موقِّعاً عن رب العالمين. العالِم استعظم ما يقوم به فخاف الله، ارتعشت يده من أن يكتب شيئاً قبل التدقيق والتحقيق والترقيق والتزويق والتنميق، وهذه مراحل صياغة العبارة. اتقى الله في نفسه وعرف أنه وكأنه يوقع عن رب العالمين، وصدق ابن القيم رحمه الله. تعالى في عنوانه، ولكن هذا يعترض. لماذا يعترض؟ لأنه رأى أن كل أحد يجوز له أن يفتي وأن يتكلم وأن يحكم. كان هذا العنوان رادعاً لأنصاف العلماء ولبعض المثقفين من
أن يستهينوا وأن يستعظموا؛ يستهينوا بالحكم الشرعي وأن يستعظموا ما يكتمونه. سمعنا بعضهم وهو يقول: "أتريدون أن نقصف أقلامنا؟" وكأن... المسألة هي عبارة عن تبارٍ في العبارات الأدبية أو في الرؤى والأفكار، والأمر ليس كذلك، بل إنها قواعد وعلوم لا ينبغي لغير المتعلمين بها أن يقولوا بما يعلمون وأن يذكروا ما لم يفهموا. هذا الأمر ترتبت عليه دماء كثيرة، وهذا الأمر ترتب عليه خروج عن النظام العام، وهذا الأمر ضاعت... بهِ الأموالُ ضاعت، وبهِ الأوقاتُ ضاعت، وبهِ الأعراضُ ضاعت. كلُّ ذلك
من أمرٍ يُسمى التعارض والترجيح، كيف تُرجِّح بين النصوص. العلماءُ قَبِلَ بعضُهم بعضاً وعَرَفَ أنَّ هناك أساليبَ مختلفةً للوصول إلى الحق، ولكنَّ هؤلاء رأوا الحقَّ واحداً لا يتغيّر، وأنَّ الأساليبَ كلَّها لا بدَّ أن تكون على هواهم، فمن كان لهم فهو يستحق القتل ويستحق التكفير والتفسيق منهم التعارض والترجيح، نضرب له مثالاً من السنة المشرفة: النبي صلى الله عليه وسلم ينصح فيقول في مكة: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت في أي ساعة شاء من ليل
أو نهار أن يصلي لله ركعتين". سدنة البيت الحرام. وخُدَّام البيت الحرام لديهم توجيه نبوي ألا يمنعوا من طاف بالبيت أن يصلي ركعتين طوافه في أي ساعة شاء من ليل أو نهار. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه نهى عن أوقات بعينها نهى عن الصلاة فيها، فنهى عن الصلاة بعد العصر إلى الغروب وبعد الفجر. إلى الشروق وعند استواء الشمس في وسط السماء أي قبل الظهر بنحو أربع دقائق أو خمس دقائق، هذا يُسمى وقت النهي، ثلاثة إجمالاً وخمسة تفصيلاً. لا
تُصلي بعد صلاة الفجر نافلة، تجلس للتسبيح وللدعاء وللذكر وللدرس وللقراءة، ولكن ليس هناك صلاة بعد صلاة الفجر إلى الشروق وعند شروق الشمس هذا. تفصيل آخر: وقتان بعد الصلاة وعند الشروق وعند الاستواء، عندما تصل الشمس إلى درجة تسعين في القبة السماوية، تُمنع الصلاة. نحن نؤذن عندما تكون الشمس في درجة واحد وتسعين، والشمس تبقى في الدرجة أربع دقائق. فإذاً، قبل صلاة الظهر بحوالي أربع أو خمس دقائق تُمنع الصلاة. النافلة وكذلك بعد صلاة العصر وكذلك عند غروب الشمس، خمسة إجمالاً، لكن يمكن أن نقول من بعد صلاة الفجر إلى الشروق ومن بعد صلاة العصر
إلى الغروب وعند الاستواء، ثلاثة إجمالاً. لما جاءنا الحديثان أصبح هناك تعارض، إذا طفت بعد العصر هل أصلي أم أنني قد دخلت في نهي الحديث. الآخر إذا يمكن أن نقول جمعاً بين الحديثين: يا بني عبد المناف، لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت أن يصلي لله ركعتين في أي ساعة شاء من ليل أو نهار، إلا هذه الأوقات الثلاثة التي سبق أن نهيت عنها. وأما أن نعكس ونقول: الصلاة مكروهة في كافة أركان الأرض في... هذه الأوقات الثلاثة
إلا في مكة، فإما أن نستثني الزمان وإما أن نستثني المكان، وبذلك فلا تعارض بين الحديثين. ويأتي الإمام الشافعي من أجل أن يوجد لنا حلاً ثالثاً، فهناك من قدم الزمان وهناك من قدم المكان، ولكن الإمام الشافعي قال: كل صلاة لها سبب يكون سببها سابقاً أو مقارناً. نصليها في أي وقت وليس هناك كراهة، وأوقات الكراهة مخصوصة بما لا سبب له وبالسبب اللاحق. ومن أجل أن نفصّل هذا الكلام للإمام الشافعي، سننشئ حلقة قادمة نفسر فيها كلامه الذي هو
رأي ثالث يضاف إلى رأيي استثناء المكان واستثناء الزمان، حتى نعلم الفرق بين طريقة تفكير السلف والعلماء والمجتهدين. والأمة الإسلامية وبين تفكير النابتة هداهم الله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.