هذا ديننا | 44 | نظرية التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ ج2| أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. تكلمنا عن نظرية سادسة في أصول الفقه وهي التعارض والترجيح. وأن العلماء قد وضعوا قواعد لهذا التعارض والترجيح، وضربنا مثلاً بحديثين قد يبدو لأول وهلة عند القارئ لهما أن بينهما تعارضاً: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينهى فيه عن الصلاة في أوقات بعينها: بعد صلاة الفجر إلى الشروق،
وعند استواء الشمس في كبد السماء عند درجة تسعين. وبعد العصر إلى الغروب في هذه الأوقات يُكره لك أن تُنشئ صلاة النافلة، وحديث آخر يقول: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت في أي ساعة شاء من ليل أو نهار أن يصلي لله ركعتين". فهناك سنة تسمى بسنة الطواف، نصلي فيها ركعتين في مقام إبراهيم. أو في أي مكان في المسجد إذا ازدحم المقام، والنبي يوجه كلامه لسدنة البيت الكريم ولخدمة بيت الله الحرام أن لا يمنعوا أحداً من الطواف في أي ساعة شاء من ليل أو نهار، ويحدث هذا التعارض الظاهري أي الحديثين نطبق.
بعد ما نطوف هل نصلي وتكون مكة مستثناة وكان النبي هذه - صلى الله عليه وسلم - الأوقات الثلاثة للصلاة في أي مكان في الأرض، إلا في مكة. أو أنه يا بني عبد المناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أن يصلي لله ركعتين إلا في هذه الأوقات. ما الذي نستثنيه؟ الزمان أم المكان؟ أنستثني مكة من سائر الأرض؟ أم هذا الزمن في مكة. الحقيقة أن قال بعض العلماء هذا وقال بعض العلماء هذا جمعاً بين الحديثين، وجاء الإمام الشافعي برأي ثالث وقال إن أي صلاة لها سبب وقد تكون ليس لها
سبب. إذاً الصلاة نوعان: ما له سبب وما ليس له سبب، والسبب قد يكون سابقاً وقد يكون مقارناً. وقد يكون لاحقاً على الصلاة، والذي لا سبب لها لا سبب له. فعندنا أربعة أنواع من الصلوات، والسبب معناه الدافع لهذه الصلاة التي تصليها، ما هو الدافع؟ فهيا بنا نرى أنك دخلت المسجد، فسُنَّ لك صلاة ركعتين نسميهما صلاة تحية المسجد. السبب أو الدافع الذي دفعك لهذه الصلاة هو دخول هل الدخول كان قبل الصلاة أو مع الصلاة أو بعد الصلاة أو أنك تصلي من غير سبب؟
في الحقيقة، في تحية المسجد، السبب الدافع هو ما كان قبل الصلاة لأنك دخلت المسجد ثم صليت، فجاءت الصلاة بعد الدخول. طفت بالبيت العتيق، البيت الحرام، الكعبة المشرفة، وصليت ركعتين الطواف ما... الذي دفعك لهذه الصلاة سبب سابق عليها وهو الطواف الذي تم قبل الصلاة، فالسبب السابق هو قبل إنشاء الصلاة. فتحية المسجد والطواف سببها واقع قبل الصلاة، لكن هناك أسباب قد تكون واقعة مع الصلاة مثل صلاة الكسوف وصلاة الخسوف، وعادةً الكسوف
والخسوف في اللغة يُطلقان على هذا العارض الذي يحدث. للشمس أو القمر، ولكن في الاستعمال خُصَّ الكسوف بالشمس وخُصَّ الخسوف بالقمر. وسُنَّ لنا أنه إذا كسفت الشمس أن نصليها ركعتين بطريقة عجيبة قليلاً ليست معتادة عندنا في الصلوات، وهي أن لها ركوعان، أي مثل ركعة أركع ثم أقوم ثم أركع مرة أخرى، ولها سجدتان. فالإنسان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ ما تيسر معه من القرآن ويطيل ثم يركع ثم يقوم فيقرأ ما معه من القرآن ثم يركع مرة أخرى. هذه صورة غريبة عجيبة ليست موجودة
في صلاة العيد ولا موجودة في تحية المسجد ولا موجودة في الجنازة ولا موجودة في ركعتي الطواف ولا موجودة أبداً، هي مختصة بها صلاة. الكسوف والخسوف سنة يتركها كثير من الناس ولا يؤديها الكثيرون، وذلك لأنها حدثت مرة واحدة عند وفاة سيدنا إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتكرر. فهي ليست سنة مؤكدة، ولكن على كل حال، هذه الصلاة تشتمل على ركوعين. لم يكن الكسوف قبل ذلك أو معه. لأنه لو كان قبل الوفاة لما كنا صليناها، خلاص فات وذهب وانتهى. ولذلك الكسوف أو الخسوف يكون معها. فالسبب هنا
مع، ليس قبل، ليس سابقاً، إنما هو مقارن معها. وقد تكون صليت ركعتين من أجل قضاء الحاجة. وماذا يعني قضاء الحاجة؟ يعني أصلي ركعتين وبعدها أدعو: "يا رب حقق". لي الأمر الفلاني وكذا إلى آخره، أو صلاة الاستخارة: أصلي ركعتين وبعد ذلك أقول: "اللهم خِرْني في أمري، أأمشي يميناً أم أمشي شمالاً؟ أأفعل هذا أم لا أفعله؟" لأنني بعد أن صليت، ما الدافع إليها؟ أستخير، استخرت، فتكون الاستخارة قد جاءت. ثم بعد أن صليت طلبت الدعاء للحاجة، وبعد أن نسأل الله أن ينزل لنا المطر استسقاءً، فصلاة الحاجة وصلاة الاستخارة وصلاة الاستسقاء، كل
السبب الخاص بها بعدها. وفي حين أنني أصلي ركعتين لله، هكذا تصلي نافلة لله من غير سبب. فيكون عندنا أربعة أنواع: سببها قبلها، وسببها معها، وسببها بعدها، وما لها سبب. فالإمام الشافعي قال إنه إنما وقع التي بعدها والسبب الذي ليس له سبب فهذا يكون على الاثنين الأخيرين الثالث والرابع. الأول والثاني يجوز في أوقات الكراهة في أي مكان في العالم أن أقوم بها، ولذلك ترى الإمام الشافعي عندما يدخل بعد صلاة العصر المسجد يصلي ركعتين، وعندما يطوف في مكة بعد صلاة العصر يصلي ركعتين دائماً. يُصلّي ركعتين في خسوف الشمس، وإذا
خسفت أو كسفت الشمس بعد صلاة العصر يُصلّي ركعتين. لماذا؟ لأن السبب السابق هو المُقارِن، فنُصلّي. أما السبب اللاحق والذي لا سبب له فلا نُصلّي، وهذا هو الذي جاء عليه النهي. فإذا كان الطواف سبباً سابقاً فليس هناك أيّ إشكال ولا جمع بين الحديثين. حاجة هذين الحديثين محلولان من الأساس. هناك رأي آخر غير استثناء المكان واستثناء الزمان. هذا قال به بعضهم، وهذا قال به آخرون، لكنه جاء بحلٍ آخر أكثر إبداعاً وهو أنه أصلاً لا تعارض، وأن الصلوات هي التي قد قُسِمت. هم أربعة أنواع من الصلوات، اثنان منها لا يجوز أن أصليهما وقت الكراهة واثنان منهم يجوز
أن أصليهما في وقت الكراهة. ومن هنا نرى واحداً دخل المسجد وجلس. قيل له: لماذا تجلس يا أخانا؟ قال: والله نحن بعد العصر وأنا مالكي، والمالكية عندهم أنهم لا يصلون بعد العصر. وشخص آخر دخل فصلى ركعتين. قيل له: لماذا تصلي ركعتين؟ قال: لأنني دخلت قلنا له ما هو بعد العصر، فقال: "ما هو هذا سببها سابق، ولذلك أنا شافعي، والشافعية يرون أن السبب السابق يجوز معه الصلاة". هذا في مقابل هذا، وهذا في مقابل ذاك، ولم يتخاصموا مع بعضهم، ولا اعترض بعضهم على بعض، لأنه نظام من الاجتهاد والقواعد التي تعمقت في المسألة بحيث إلى حكمٍ بقدر الوسع والطاقة ظنوه أنه حكمٌ
يرضي الله لأنهم بذلوا فيه الوسع ولم يفعلوه تشهياً ولا اعتباطاً ولا استسهالاً ولا استهانةً، وإنما فعلوه عن تفكيرٍ وفعلوه عن قواعد وفعلوه بطريقةٍ مطردةٍ، فإنه دائماً كل الصلوات التي سيكون سببها سابقٌ أو كل الصلوات التي سيكون سببها مقارناً معها كل الصلوات التي يجوز أن أصليها في هذه الأوقات وكل الصلوات التي سببها لاحق وكل الصلوات التي لا سبب لها ستكون منهياً عنها في هذه الأوقات وبذلك تُحَل المشكلة بطريقة ثالثة. عندما تدرب المسلمون على هذا لم ينكر بعضهم على بعض إطلاقاً وعاشوا سوياً وعرفوا هذا القطع واليقين أن. القطع لا نختلف
فيه، فالكل يحرم الزنا والربا والخمور، والكل يحرم الكذب والفاحشة والبهتان والغيبة والنميمة، والكل يحرم السرقة والرشوة وأكل مال اليتيم، والكل يوجب الصلوات الخمس، وأن الظهر أربع ركعات، وأن القبلة هي مكة، وأن شهر الصيام هو رمضان. الكل يتفق على ذلك، فهذا محل إجماع ومحل لا نزاع وليس محلاً للنظر والاجتهاد، ثم تأتي مثل هذه المسائل فيكون هناك محل للنظر والاجتهاد. قد يخطئ المخطئون وقد يصيب المصيبون، فمن اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران. وأخرج الإمام الدارقطني: "من اجتهد فأخطأ فله أجران" لأنه بذل
الوسع في تحصيل الحكم الشرعي بقواعد مرعية شرعية منضبطة، ومن... اجتهد فأصاب فله عشرة، فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يجزل لنا الثواب فيما أقامنا فيه من محاولة إدراك الحكم الشرعي، مع الخوف من الله سبحانه وتعالى، ومع الرجاء في وجهه سبحانه وتعالى. النابتة أحدثت حدثاً كبيراً في الإسلام لأنها خرجت عن كل هذه القواعد، وأصبح بعضهم يقرأ سواء كانت. المصادر الشرعية أو نتاج المجتهدين العظام وعلى ناظريه وعلى عينيه نظارة من مجموعة من الأساطير والخرافات والأبجدية
المزيفة التي جعلته يرى شيئاً آخر، فتعجب مما نقول وتعجبنا مما يقول. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.