هذا ديننا | 45 | نظرية الإجتهاد | أ.د. علي جمعة

هذا ديننا | 45 | نظرية الإجتهاد | أ.د. علي جمعة - هذا ديننا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات ديننا. رأينا النظريات السبع التي حكمت فكر المجتهدين، وأنهينا الكلام على ست منها. الحجية، التوثيق، الفهم، القطع والظن، الإلحاق، التعارض والترجيح. هناك أيضاً السابع والأخير: مجال الاجتهاد. ومجال الاجتهاد في
الحقيقة يتحدث عن شروط الباحث، وأن شروط الباحث هي جزء لا يتجزأ من المنهج العلمي، وأنه إذا تكلم كل أحد في كل شيء أو في أي تخصص من غير أن يكون مؤهلاً ومن هذا الفن والعلم فإن هذا خروج عن المنهج العلمي الذي أوصل الناس إلى ما وصلوا إليه. المتأمل في كلام روجرز بيكون وهو أبو المنهج العلمي يرى أنه تكلم عن ثلاثة أشياء: الأول هو مصادر البحث، تكلم عن كيفية تحديد مصادر البحث. أنت تبحث في أي مجال في الطب أو في... الفلك أو في التاريخ أو في اللغة، فلا بد أن
تحدد المصادر التي سوف تستقي منها معلوماتك الصحيحة، معلوماتك الواقعية، معلوماتك الفنية في هذا المجال. الطب موضوعه جسم الإنسان من حيث الصحة والمرض. تقول هكذا: موضوعه هو جسم الإنسان من حيث... ترفع "حيث" هكذا، من حيث، لأن "حيث" هذه مبنية. إياك أن تقول من حيث الصحة لأن ما بعد "حيث" يُضاف إلى الجمل. إياك أن تقول الصحة من حيث الصحة والمرض. فالطب يجب أن نحدد له مصادر للبحث، والفلك كذلك، واللغة
كذلك. أي مجال للبحث لا بد أن نحدد أولاً مصادر البحث، وثانياً طرق البحث وكيفية الاستفادة من هذه المصادر، يجعل روجرز شروط الباحث جزءًا لا يتجزأ من المنهج العلمي، لأنه إذا جاءنا شخص خارج نطاق الطب يتحدث في الطب، فإنه يكون قد عرف شيئًا وغابت عنه أشياء. لا بد أن تكون الجماعة العلمية من داخل منظومة التخصص ومن داخل منظومة المجال هم الذين يتحدثون في هذا المجال، لأنهم يعرفونه من العلوم المساعدة ويعرفون مصادره ويعرفون طرق بحثه ولذلك
لا بد من شروط الباحث أو لا بد من الباحث كركن من أركان هذا المنهج العلمي. إذا تأملنا إلى مدرسة الرازي وهي تعرف أصول الفقه سنرى العجب العجاب. أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، ثلاثة عجب. أليست هذه هي الثلاثة التي قام عليها المنهج العلمي الذي تحدث عنها روجر بيكون؟ كان روجر يعرف اللغة العربية، ومن طريق الأندلس اطّلع على هذه المدارس واستخلصها. ثم هذه المدارس التي وضعت أصول الفقه وأسس الفهم وضعتها لقراءة الكتابين: كتاب الله المسطور (الوحي) وكتاب الله المنظور (الكون)، لكنه
جعل هذا فقط هذا الذي فعله روجرز من السابق روجرز أو الرازي الذي كتب هكذا: كتب أصول الفقه هي أدلة الفقه إجمالاً وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد. الرازي توفي سنة ستمائة وستة هجرية، ستمائة وستة هجرية، هذا يعني عندما نضيف إليها ستمائة وعشرين سنة من بداية هذه المسألة يصبح ألف ومائتان. روجرز هذا بعد ذلك بقرنين، فإذا نحن الذين زمننا كان لنا سبق في إنشاء هذا المنهج الذي ليس إلا هو المنهج العلمي. شروط الباحث إذاً من أساس المنهج العلمي، شروط الباحث إذاً هي مسألة في منتهى الدقة، أنه هناك فارق
بين الدين والتدين. التدين هو كل واحد مكلف لا. بد أن يكون متديناً يصلي ويصوم ويمتنع عن الحرام ويرجو وجه الله ويتمثل بالأخلاق النبوية الشريفة "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، ولكن هذا الدين علم، والعلم وصل به الحال إلى درجة أن يقال: "خذ بفتواه ولا تعمل بتقواه"، فقد تكون أنت أكثر التزاماً بالدين من ذلك ولكن هذا لا يُخرِجه عن حد العلماء ولا يُدخِلك أنت في حد العلماء. كثيرٌ من هذه الجماعات المستحدثة يقول: "أنا سُجِنت في سبيل الله". هل الدخول إلى السجن هو شهادة علمية؟ الدخول إلى السجن قد يكون بحكم قضائي فيكون عادلاً، وقد يكون تحفظاً
أو اعتقالاً أو ظلماً، ولكنه أبداً... لن يكون شهادة للعلم ليس بمحض دخولك في السجن يا أستاذ، تخرج فتكون متصدراً للناس وتكون داعياً إلى هواك وإلى ما اعتقدته من أخطاء وما تراكمت عندك من بلايا. أبداً، العلم علم، والقواعد قواعد، والمصطلحات مصطلحات، والمصادر مصادر، والكتب المعتمدة هي الكتب المعتمدة، وطريقة التفكير كما ذكرنا مراراً وتكراراً هي... الأساس ولذلك من شروط الباحث المجتهد شرط من شروط إصدار الحكم، فلا يجوز إطلاقاً أن نتقبل الحكم من كل أحد،
وقد ملأنا الأرض ضجيجاً ودماءً بسبب هؤلاء الذين فقدوا إدراك النص وفقدوا إدراك الواقع وفقدوا الوصل بينهما، ومن هنا كانت هذه المهزلة التي يعيشها العالم الإسلامي من محاولة لنفاق عجيب في يد العدو يتصرف فيه كيف يشاء ويتلاعب به كيف يشاء وهو خارج المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في نفس الوقت يدعي الإسلام ويحقر أحدنا صلاته إلى صلاته أو صيامه إلى صيامه فتنة يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخوارج كلاب أهل النار. أتعجب كيف يكونون كلاب أهل النار وهم
مسلمون. وإذا عرفت أنهم يصدون عن سبيل الله بغير علم، وأنهم يشوهون صورة الإسلام في العالمين، وأنهم يؤذون خلق الله، وأنهم ضدُّ فطرتهم، مقلوبون عن كل القيم الإسلامية وكل ما أراده الله من خلقه، يدمرون ولا يعمرون. أنا حتى متى لا يُميَّز بين برها وفاجرها؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بريء من هؤلاء وهؤلاء. لهم سلف عند السامري عندما أضل بني إسرائيل، وسلف عند أولئك الذين بنوا مسجد ضرار، وسلف عند أولئك الذين أفسدوا في الأرض وهم خوارج يذهبون ليقاتلوا علياً رضي الله تعالى عنه ويسألون في دم. البعوضة، هؤلاء
العجائب الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً، أبداً هم يسيئون صنعاً ويدمرون ولا يعمرون، ولا يعبدون الله سبحانه وتعالى كما أمرهم، بل يعبدون الله كما أرادوا. مثل إبليس، قال: "لا، أنا لا أسجد لآدم، أسجد لك أنت". نحن نسجد لك، لكن آدم لا. "اخرج منها فإنك لعين". وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين، اخرج منها فإنك رجيم، نعم مرجوم. ولذلك هؤلاء الناس فقدوا شروط الباحث، وشروط الباحث جزء لا يتجزأ من عملية الاجتهاد، وشروط الباحث جزء لا يتجزأ من المنهج العلمي. المجتهد يصل إلى درجة الاجتهاد بعد تحصيله
لكمية من العلوم يستطيع بها أن يستشعر في نفسه. أنه قادر على استخراج الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية. بعض هذه العلوم متعلق باللغة العربية، وبعضها متعلق بالأسانيد والتوثيق، وبعضها متعلق بأصول الفقه، وبعضها متعلق بعلم التفسير، وبعضها متعلق بإدراك الفقه ونمط الأحكام الشرعية ومعرفة مواطن الإجماع، وبذلك يصير المجتهد مجتهداً. ماذا؟ يُفرِّق مُجتهد عن مُجتهدٍ آخر ما نُسمِّيه في أدبياتنا الحديثة التصوُّر المُبدِع. التصوُّر المُبدِع يُمكِّن
المُجتهد من تصوُّر المآلات. ما الذي يقوم به المُجتهد عندما تُعرَض عليه مسألة ويتصوَّر هذه المسألة؟ لو أنني توصَّلتُ إلى حُكمٍ مُعيَّن، ماذا سيترتَّب على هذا الحُكم؟ إذًا المُجتهد يقوم بمرحلتين: المرحلة الأولى الاستنباط. الحكم من ظواهر النصوص، والمرحلة الثانية معرفة ما سيؤول إليه الأمر في الناس عندما يُطبق هذا. فقد يكون عندما أُطبق هذا أصل إلى حد الفساد، فيراجع المجتهد نفسه مرة أخرى ويقول: هكذا أنا تكلمت
عن شيء سيؤدي إلى فساد، والشرع لا يؤدي إلى فساد، فلا بد أنني قد أخطأت، فأين؟ أخطأت ويبدأ في البحث عن مواطن الخطأ، حينئذٍ يتبين له أنه أخطأ في هذه النقطة أو في تلك، فيصحح المسار ويصحح الاجتهاد بحيث تكون الأحكام الشرعية تؤدي إلى مصالح الناس، إلى تحقيق مقاصد الشرع، إلى الالتزام بمآلات منضبطة لا تضر الناس. هذا هو الاجتهاد الصحيح، ولذلك فلا يجوز كما... يقول الإمام القرافي أنَّ أن ننظر إلى الكتب وننقل منها أحكاماً مجردةً على وقائع مختلفة، فقد اختلفت الدنيا
فاختلفت الوقائع فاختلفت الأحكام. وعلى ذلك فهذا مجال الاجتهاد. والاجتهاد لا بد فيه من مجتهدٍ له شروطه، له أدواته، له علومه الأصلية وعلومه المساعدة، له إدراكاته للواقع، له إدراكاته للمآلات، له إدراكاته المصالح وتحقيق المقاصد، إلى لقاء آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.