#والله_أعلم | الحلقة الكامله 18-2-2014 | ما معني وسطية الأزهر ؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه، ثم أما بعد، تحياتي إلى المشاهدين الكرام، إلى الأسرة والعائلة المصرية العريقة، إلى كل مشاهد على أرض
مصر الطاهرة، تحياتي لكم مع هذه الأمسية والنافذة الجديدة التي نحاول أن نجري. فيها حوارٌ بين عقلين من جيلين أزهريين، جيل الأساتذة وجيل التلامذة. حوارٌ ينبع من القلب ويحاول أن يفتح نافذة للتواصل والحوار والنقاش على مسمع من الأسرة المصرية والمشاهد المصري الكريم. وكلنا في الحقيقة في ضيافة عَلَمٍ جليل من أعلام الأزهر الشريف الكبار، سماحة الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية. الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء والعالم الذي ملأ طباق الأرض علمًا، أنا وإياكم في ضيافة مولانا وشيخنا الجليل، والنقاش نابع من الأعماق، من القلب، في
مرحلة حساسة من تاريخ مصر، يحتاج فيها المصريون جميعًا إلى التقاط الأنفاس، إلى إعادة فتح منافذ التواصل مع عقل الأزهر الشريف، كيف يفكر، كيف يحلل. كيف يراقب الأحداث، كيف يعيشون هذه الحياة مصطحبين القيم العليا، مدركين الواقع والزمان، ممتلئين بالأمل والطموح، يحبون الوطن ويعظمونه. أمسية أرجو إن شاء الله تعالى أن تكون مفيدة، وقد اخترنا لهذه الأمسية موضوع الأزهر الشريف. الأزهر الشريف نهر متدفق موازٍ لنهر النيل، جرى في عمق الإنسان المصري على مدى ألف. سنة وزيادة وكما أن نهر النيل كان يأتي متدفقاً بالماء والخير والنماء وكان هو شريان الحياة للوطن المصري والحضارة المصرية العريقة، فكذلك كان الأزهر الشريف
يتدفق في عمق الإنسان المصري ووجدانه محملاً بالعلم والمواقف والمنهجية والتفكير، خرّج العلماء وصنع الأولياء، اجتذب طلاب العلم من مشارق الأرض ومغاربها، فانصهروا جميعاً في بوتقة الأزهر الشريف، انفض طلاب الأزهر إلى القرى والمدن والنجوع والكفور، فعلّموا وفقّهوا وناقشوا وحاوروا. فأهلاً وسهلاً بكم في هذه الأمسية التي استهللتها واستفتحتها بالترحيب بأستاذنا وشيخنا الجليل سيد الشيخ علي جمعة. حياكم الله يا مولانا، أهلاً وسهلاً بكم شيخنا السابق. خالص تحياتي وتقديري واعتزازي لأن أكون محاوراً ومشاركاً لحضرتكم. في هذا النقاش شكراً لكم لحضوركم. مولانا الأزهر الشريف، ما الذي صنعه في شخصية الإنسان المصري؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. الأزهر
الشريف هو محل للعلم، والعلم لا بد منه عندما نريد العمل، فكل عمل ليس مؤسساً على علم. فهو باطل ولذلك نرى الفضيل بن عياض وهو من أولياء الله ومن علماء الأمة يقول: "لا يقبل الله العمل إلا بالإخلاص والصواب". كلمة الصواب وراءها العلم، لا بد أن نتعلم، وكلمة الإخلاص وراءها الديانة، العلاقة بيني وبين الله. "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ولذلك نرى مثل الإمام. البخاري وهو يصدر هذا الحديث في أول صحيحه وكان المدخل الصحيح لهذا الدين ولتطبيق
هذا الدين في الواقع هو النية الصالحة. الأزهر هو الذي علمنا كيف نفهم النصوص سواء منها المقدسة أو غير المقدسة. الكتاب والسنة من النصوص المقدسة لدينا لأنها هي المصادر. النتاج الفكري لعلماء المسلمين عبر القرون هو... الفقه هو فقه هذا النص الشريف، كيف نفهم هذا ونفهم ذاك. نحن وجدنا كتباً، فكيف نتعلم فهم هذه الكتب. من ناحية أخرى، اهتم الأزهر الشريف في بناء عقلية المسلم، بل والإنسانية إلى إدراك الواقع. كيف نفهم ما نعيش فيه. تكلم عن مقاصد
الشريعة، تكلم عن المصلحة، تكلم عن مآلات الأفعال يعني. هذا الفعل لو فعلته سيؤدي إلى ماذا، وهذا النمط لم يتركه هكذا بل درب أتباعه بدرجات مختلفة طبقاً لتلقيهم العلم، لأنه هو فوق كل ذي علم عليم. كيف نصل بين النص المقدس، بين القرآن والسنة، وبين الواقع الذي نعيشه؟ القرآن والسنة مطلقات، ولكن الحياة تتغير كل يوم، تتغير بتغير الأشخاص. تتغير الأماكن وتتغير الأحوال، ولذلك كيف نطبق هذا المطلق في هذا النسبي؟ مولانا، هنا وقفة لو تكرمت، في مقولة شائعة فعلاً تحتاج إلى تأمل. دائماً ما يقال مثلاً:
هذا النص مطلق متجرد، وهذا الواقع نسبي شديد التغير، ولا توجد علاقة بين المطلق والنسبي. ما همزة الوصل بينهما؟ هذا المطلق معناه... أنه أمر متجاوز للزمان والمكان والأشخاص والأحوال، مثل أن الصدق واجب والكذب حرام. هذا مطلق بمعنى أن الكذب حرام دائماً والصدق واجب علينا أن نفعله دائماً في كل الأحوال. في كل الأحوال، عندما آتي إلى الواقع أجد أن هناك استثناءات يمكن أن أكون صادقاً فأؤدي بهذا الصدق إلى خراب. الدنيا سمعت واحداً يشتم أخاه، فذهبت إلى هذا المشتوم وقلت له. وهو
قال لي: هل شتمني؟ قلت له: نعم، وأنا أقول الصدق، هذا سبك ولعنك وقال فيك ما ليس فيك. يبقى إذاً أنا هنا أسعى بين الناس بالنميمة، ولذلك وأنا في الحرب وأُسرت من قِبَل العدو ولو قلت... لهم عدد السلاح وعدد الجنود ومواطنهم أكون قد أهلكتهم وأكون قد خنت بلدي وخنت جيشي وخنت ديني وخنت وطني وخنت وهكذا، ولذلك في الحرب يجوز لي ألا أقول هذا الصدق الذي يؤدي إلى... لأن الصدق في حياة الناس عامة في المطلق يؤدي إلى البر، والبر يؤدي إلى الجنة، والكذب يؤدي... إلى الفساد العريض، تخيّل الآن أنّ مدارس نشأت فيما بعد الحداثة تتيح للإنسان
أن يكذب في سائر الأحوال التي لا تترتب عليها [عواقب]، فامتلأ الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والثقافة الشائعة بالكذب. تخيّل أنّ الناس بعدما تتكشف لها بعد سنوات أنّ كل هذا كذب، فإنها لا تثق في أي خبر. طبعاً حضرتك، الفترة التي تمتلئ فيها الثقافة الشائعة بالضجيج والكذب ستؤول إلى صدام ونزاع. ما يحدث الآن هو أن الكذب أصبح هو الأساس، وأن الأكاذيب التي تُذكر في وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي السائدة. فتحدثنا مع بعض الأمريكيين وقلنا لهم إن هذا الكذب سيؤدي إلى هلاك المجتمعات، فقالوا: لا، الإنسان حر وحر. في أن يكذب وأنت حر في أن ترد عليه، وهذا هو الذي يُسمى بالفوضى الخلاقة، وانتقلنا إلى نسبية القيم إلى
فساد عريض. ببساطة، لدينا الصدق وهو مطلق، والكذب وهو مطلق. لدينا أحوال يجب علينا فيها أن نتلطف في الكلام أو أن نستر العورات، مثل الحرب مثل... الصلح بين الناس مثل كلام الرجل مع زوجته عندما يقول لها أنت أجمل واحدة في العالم وهي ليست بهذا الجمال، قد لا تكون جميلة وقد تكون جميلة، في حالة أنها لا جمال لها، هذا شيء يسعدها، هذا شيء طيب من القول يدخل السرور على قلب هذه الأسرة ويؤدي إلى الصلاح في. الدنيا إذا هذا هو معنى المطلق وهذا هو معنى النسبي. نحن صحيح أن الكتاب مطلق وصحيح أن العالم نسبي، ولكننا عند التطبيق نتفاهم مع
هذا الواقع للوصول إلى المقاصد. ما مقصد الشرع؟ عمارة الدنيا. نجعل المقاصد إلى شيخنا العلامة الجليل سيد الشيخ علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الديار. سابقاً كنا قد بدأنا الكلام عن الأزهر الشريف وما الذي صنعه الأزهر في شخصية الإنسان المصري، وكم كان عمق
ما حفره الأزهر في وجدان هذا الإنسان، كيف حافظ على منظومة القيم، كيف بنى العقل، كيف أفاض على المجتمع المصري بالنور والبصيرة، وكان مولانا قد بدأ يتكلم عن أن الأزهر بدأ الشريف يُعلّم الإنسان كيف يتوازن ويغترف من معين النص الوحي الشريف المطلق المتسامي، وكيف يُنزِل هذا الوحي الشريف على الواقع المتغير. مولانا، الحديث ممتد عن القيم المستفادة من النص وكيف يتم تركيبها مع واقع شديد التغير. لكن لدي سؤال لحضرتك: ما معنى الواقع؟ فالواقع ليس سهلاً. نحن نعيشه وكلنا يدركه، هل هذا الواقع شيء صعب إدراكه ويحتاج إلى علوم وأدوات، أم هو القدر الذي نحن جميعاً ندركه ونتساوى فيه؟ أنا مدرك للواقع، أنا أعرف الواقع، لماذا تحتاج حضرتك إلى أن تكون هناك دراسة قوية للواقع؟ كيف نفك هذه الكلمة المجملة المدمجة "الواقع"
عند علماء الحضارة؟ ينقسم إلى أربعة عوالم: العالم الأول هو عالم الأشياء، والعالم الثاني هو عالم الأحداث، والعالم الثالث هو عالم الأشخاص، والعالم الرابع هو عالم الأفكار. ويرتبونها: الأشياء، فالأشخاص، فالأحداث، فالأفكار، ويبنون على هذا التقسيم إدراك الواقع. كل مجال من هذه المجالات يكون له في الحقيقة طريقة لإدراكه. عالم الأشياء... أنا أريد أن أعرف الماء مما يتكون. هذا الماء إذا عملناه بطريقة التحليل سنجد أنه يتكون من هيدروجين ومن الأكسجين. وهكذا تطور
الإنسان كثيراً في إدراك عالم الأشياء. كان الإنسان في السابق يأخذ بمظاهرها: أن قليلاً من اليانسون يزيل المغص، أو أن قليلاً من الشاي يزيل الصداع. النتيجة المباشرة، النتيجة الظاهرة، لكن بعد... هكذا عرفوا أن هذا الشاي يحتوي على كافيين وأن القهوة تحتوي على كافيين، وأنه بالتحليل ودخولهم عالم المجهر - المجهر يعني التلسكوب والميكروسكوب - أمور كبيرة معقدة وليست سهلة، وأيضاً يزيد من صعوبتها أن هذه العوالم لها علاقات مع بعضها. صحيح أنك مدرك للواقع بمعنى وعلى مستوى معين، لكنك لست مدركاً له في... حقائقه الأولى: أقدم لحضرتك مثالاً: عندما يأتي شخص ويقول لي إن لديه خلاً، وهذا الخل
مشتق من الكحول، والكحول هذه خمر، فهل يحل لي شرب هذا الخل أو تناوله أم لا؟ النبي يقول: "نعم الإدام الخل"، والإدام هو ما يُغمس فيه الطعام. نعم، أفضل شيء هو الخل، حسناً، هذا الخل مشتق من... من خمرة الظاهر التي كنا نسير عليها هي أن هذا الخل عبارة عن حمض الخليك، يعني شيء لاذع، والمرء يغمس به ويأكل فقط، أي مطعم حريف، وهو لا يؤدي إلى السُكر. لكن عندما قمنا بتحليل الخل، وجدنا أن به نسبة ضئيلة جداً من الكحول، وعرفنا أن هذا الكحول ستة. عشر نوع، فعندما يأتي أحدهم ويُخرج لي فتوى بأن الخل حرام لأن فيه كحولاً، فطوال عمر
الخل يوجد فيه كحول. عندما قال سيدنا النبي عنه "نِعم الإدام الخل" كان أيضاً فيه الكحول، وطوال عمر كل خل فيه كحول. هذا كيف تعرفه في وسط العُرف أن فيها كحولاً؟ هذه معرفة حديثة. لم تكن أبداً معروفة في الماضي، لقد عُرفت عندما تطورت العلوم. فيجب عليّ كمفتٍ أو كفقيه أن أدرك واقع هذه الأشياء مرة أخرى مثل الذي أدركها، فمن أفتى بغير علم. ونقول إن هذه النسبة الضئيلة لا تؤثر، وإن هذه طبيعة الأشياء، وإن النبي الذي قال عن الخل: "نعم الإدام الخل"، هو قال. على هذا الخل الذي فيه واحد من عشرة آلاف في المائة من الكحول، وعندما نتعمق أكثر ونجد أن هذه النسبة موجودة في مياه النيل، فإذا كان المقصود من التحريم هو الإسكار وذهاب العقل، وهذا يتم
بطرق أو بأساليب مختلفة، فيجب علينا أن ندرك عالم الأشياء بوسائل عالم الأشياء، ولكن يجب علينا أن نطلع عليها عالم الأشخاص، فأنا لدي شخصية طبيعية وشخصية اعتبارية، والأحكام تختلف باختلافهما. وعالم الأحداث، أريد أن أمتلك قدرة على تحليل الأحداث لكي أفهم المآلات، مآلات الأفعال. وعالم الأفكار، لدي مقياس وهو العقيدة وهي النموذج المعرفي الإسلامي الذي أستطيع أن أقول به إنني رافض لهذه الأفكار أو قابل لها. هذه الأفكار إذا كان الواقع ليس على المستوى الفقهي والعقائدي ليس شيئاً سهلاً، بل هو يحتاج إلى دراسة، لكنها ممكنة وليست مستحيلة أيضاً. ومن هنا رأينا أنه بعد تطور العالم، العالم تطور تطوراً عجيباً جداً. قبل هذه النقلة أين الأزهر من هذه المنظومة؟
سأقول لك الآن أين الأزهر. سيأتي لك ألف. ثمانمائة وثلاثين ألفاً وتسعمائة وثلاثين غيَّرت وجه العالم في المائة سنة. في هذه المائة سنة اكتشف الإنسان واخترع كل شيء، اخترع القطار واخترع السيارة والطائرة والحاسوب والتلفاز وآلة التصوير والهاتف. وهكذا تغيرت الوقائع، وتغيرت خريطة المعيشة البشرية، فأصبحت أنا بهاتفي المحمول الذي معي والذي فيه إنترنت وفيه طريقة الاتصال. في العالم كله في الجوار مع الأمريكي ومع الياباني أصبحنا نعيش مع بعضنا البعض، وأصبح الشخص الذي في السوق الإنجليزي معه الهاتف وأنا أتحدث معه، وهناك شبكة في العالم (تتيح لي أن) أشتري أو لا أشتري. هذا أثّر في الإنسان وأثّر في الاقتصاد وفي المجتمع وفي السياسة. اسمح لي حضرتك، هنا قبل ألف سنة، ألف... وأربعمائة سنة، ما كانت
صورة سريان المعرفة بين البشر؟ هل إلى هذه الدرجة كانت المجتمعات مغلقة وبعيدة، وسريان المعرفة بينها بطيء؟ كل مجتمع في أمان مما يحدث في المجتمع الآخر من أنماط معيشة فاسدة أو قيم أو عقائد أو أفكار. هل كان هذا هو السبب القديم الذي جعل كان... النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعث إلى الناس عامة. ما أثر التغير في ثقافة العالم بهذه الطريقة عما كانت عليه من قبل؟ الحقيقة أن كل عصر له أدواته وله شكله، ففي زمن ما كانت المسألة بطيئة جداً وظلت بطيئة تتطور بالكاد إلى عام ألف وثمانمائة وثلاثين حيث أدخلت إنجلترا. الحديد في السفينة فغيَّر وجه العالم. ماذا كانت السفينة قبل ذلك؟ الطوف الذي يعبر المحيط. السفينة سواء كبرت أو صغرت كانت من الخشب،
والخشب يُصنع بطريقة معينة حتى يطفو على الماء، لكن هذه دخل فيها الحديد. الحديد ليس المقصود به الماكينة التي تشغل السفينة، بل الحديد في نفس جسم السفينة التي كانت... تُشد بالحبال، لا السفينة خشب ولا حديد. خشب؟ لا، حديد. خلاص! ألف وثمانمائة وثلاثين أصبح الحديد داخلاً في جسم السفينة. كيف تعوم؟ الحديد شيء غريب! ولذلك هم اكتشفوا النقطة، سموها نقطة التعادل التي بها يطفو الحديد على المياه. تيتانيك، هذه التيتانيك كلها من الحديد، فما هي بخشب. ولذلك كانوا يقولون إنها لن تغرق أبداً. عندما حدث ذلك، اخترع الإنسان فوراً العلوم الاجتماعية والإنسانية. سيدي، أريد أيضاً
أن أتابع نقطة معينة: الأثر المباشر لإدخال الحديد في صناعة السفينة عند الإنجليز عام ألف وثمانمائة وثلاثين أدى بالطبع إلى قفزة في إمكانية الوصول إلى الأماكن البعيدة بالسفينة. إن السفن الخشبية تحتاج إلى أن تدور حول القارة الأفريقية لشهور، فجأة استطاع أن يصل في أسابيع، ووفَّر عليه الوقت، وأمكن أن يجلب الثروات والكنوز الموجودة في تلك الأراضي، وأمكن أن تتسارع عجلة الحضارة. هل هذا هو أثر الاستعمار؟ لقد احتل البلاد لأنه يضرب بدلاً مما كان يبحر بالسفن الخشبية. وتغرق السفينة فيضرب بلقية حديد فلا تغرق، لا تغرق، ويأتيني أنه لا فائدة، وهجم واحتل واستعمر وأصبحت هناك إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، أخذت مواردنا وبنت
مترو الأنفاق عندهم في لندن، بنوا تحت لندن مدينة كاملة، وتقدمت الصناعات تقدماً رهيباً، وأصبحوا يأخذون من عندنا الصوف والقطن وغيرهما ويصنعونه في لانكشاير. ويرجعهن ملابس اغتنوا وازدادوا في الغنى وأصبحوا من الصناعية السبعة والصناعية الثمانية والتسعة ونحن استنزفنا واضطربنا وأصبحنا على هذا الحال. أين الأزهر؟ أين الأزهر؟ الأزهر عندما حدثت الحملة الفرنسية تنبه حسن العطار لما هو موجود عند الفرنسيين وتأكد أن معهم مفتاحاً نحن ليس معنا، معارف وصلوا بها إلى شيء يفكون به. ألغاز الكون ونحن لا نملك (المعرفة)، فأرسل تلميذه رفاعة الطهطاوي وقال له: "اكتب لي كل شيء، ارسم لي كل شيء". فكان رفاعة يُرسل إليه رسائل يخبره فيها عن عربة الرش، ويصف له
كيف يأكلون، ويشرح له طبيعة العلاقة بين الرجال والنساء في المجتمع الفرنسي، ويروي له كل شيء. وهذه الرسائل هي التي تطورت بعد ذلك في كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريس. الأزهر لم يكن غائباً بل ولأنه من أهل العلم ظهر في حسن العطار وظهر فيه رفاعة الطهطاوي. رفاعة الطهطاوي الذي ذهب في البعثات العلمية فوصف أين المفتاح وجاء وفتح هنا مدرسة الألسن وظل محاولاً للإصلاح ومحاولاً. لنقل المعرفة حتى بعد محمد علي باشا وبحضور الخديو إسماعيل الذي أراد أن تصبح مصر دولة مستقلة وتدخل العالم الجديد، وفعل ما فعل من أجل هذا. رحم الله الجميع. كان الأزهر
موجوداً، وأراد محمد علي أن ينشئ مؤسسة موازية له، ولكنه عرف من أهميته أنه لا يمكن إغلاقه. ولذلك جعل هناك تعليماً موازياً في وزارة المعارف التي أصبحت بعد ذلك وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي إلى آخره، وترك الأزهر يسير في أداء مهمته الجليلة في الوجدان المصري إلى الآن. ولذلك لو قرأت لويليام لين في "المصريون المحدثون عاداتهم وتقاليدهم" تجد أن الذي يعلّمه العربية شيخ، لكن هذا الشيخ يحترم أمه كثيراً هذا الشيخ، يقرأ القرآن في البيوت. تعلقت قلوب الناس بالقرآن من خلال الأزهر، وتعلقت قلوب الناس باللغة العربية من خلال الأزهر، وتعلقت قلوب الناس بالحياة الودودة
من خلال الأزهر. ولذلك الاستعمار عندما دخل إلينا لم يستطع أن يؤثر تأثيره كما في الجزائر مثلاً. الجزائر خلاص لم يعد فيها... المدن والحواضر تنطق الفرنسية، لكننا لدينا هنا بقاء اللغة العربية. وما معنى اللغة؟ إن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. أتريد أن تعرف ماذا فعل الأزهر في مصر؟ يعني حضرتك، اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. فعندما أتحدث بالعربية سأفكر بطريقة عربية. هذه العربية عبقرية، هذه العربية تصف مشاعر الإنسان. بعمق تصل إلى حقائق كونية بعمق لا توجد في غيرها من اللغات. هل أستطيع أن أقول أن اللغة العربية وعاء عبقري للفكر الإنساني والمشاعر الإنسانية تتميز عن بقية اللغات الحية؟ اللغة العربية لها خصائص كثيرة، هذه الخصائص الكثيرة ميزتها
وجعلتها من أفضل الأوعية، ولذلك عندما تأتي لترجمة نص إنجليزي من صفحتين... تترجمه في صفحة وثلث من اللغة العربية تستوعب المعاني التي تُعبر عنها اللغة الإنجليزية في ثوب وصياغة أكثر إحكامًا وأقل حجمًا. نعم، ولذلك هو يفكر أكثر، ولذلك نحن نؤكد على أهمية كتابة العلوم باللغة العربية، وهذا ما فعله محمد علي عندما أدخل الطب والهندسة والحربية وغيرها وكتبها باللغة العربية. وظلت باللغة العربية حتى عام ألف وتسعمائة واثني عشر وهي تُدرَّس باللغة العربية، وكان في كلية الطب بأبي زعبل الشيخ محرم كمراجع لغوي يراجع ما يكتبه الأطباء، وكان نادراً ما يجد لهم أخطاء لأن الطبيب كان مثقفاً وفصيحاً باللغة العربية، حيث كانت اللغة العربية سارية - رحمها الله - مثل الأبجدية، فهي موجودة.
معه ويفكر فيها، إذا الأزهر دخل في طريقة التفكير، دخل في حماية العربية، دخل في شيوع القرآن، دخل في شيوع السنة، دخل بالفقه. ولذلك تجد الكلام نفسه والثقافة نفسها آتية من الفقه، يقول لك الثالثة ثابتة، الثالثة ثابتة، وهي التي تعني الطلاق، أي أنهم أخذوا من أن الطلاق الثالث. هذا ثابت، ثابت يعني ثابت، الثالثة فحوِّلها إلى مثل وإلى قيمة، إلى قيمة تجد شيئاً غريباً جداً في العادات والتقاليد، وقد كُتِب في هذا كثيراً، أحمد أمين - رحمه الله - في قاموس العادات والتقاليد المصرية. حسناً، هنا لدينا وقفة في أثر الأزهر الشريف في منظومة القيم والعادات الاجتماعية والحياة اليومية. في مصر، لكن بعد فاصل إن شاء الله
موسيقي. أهلاً وسهلاً بكم في رحاب هذه الأمسية الأزهرية التي يتواصل فيها جيلان من أبناء مصر الذين يحبون الوطن ويقدرون له قدره، ويحرصون على نقل عصارة عقلية الأزهر الشريف إلى الأسرة والإنسان المصري. اليد الأزهرية التي تمتد إليكم في وقت حساس يشعر... ثمة حاجة لدى كل إنسان مصري إلى إعادة بناء الثقة والتواصل. كان الحديث مع
أستاذنا وشيخنا الجليل عن أثر الأزهر الشريف في بناء الإنسان المصري، وما الذي قدمه الأزهر الشريف في تشكيل شخصية الإنسان، وكيف استطاع الأزهر الشريف أن يصنع هذا الإنسان المصري الرائد القائد الطموح الشديد التعلق بهذه. الأرض المستوعبة لما حولها من الأعراف والأجناس والشعوب والثقافات واللغات، التي تقوم بين أشقائها من العرب والمسلمين مقام الأب من أبنائه وإخوته. ما الذي استطاع أن يصنعه الأزهر الشريف في عقلية الإنسان لكي يزيح عن هذا الإنسان عقلية الخرافة والجهل، وليتعلم الإنسان التفكير المستقيم. كيف استطاع الأزهر الشريف أن يبني. منظومة قيم وأعراف علمية وأخلاق ونمط تعامل وسلوك راقٍ، كان الحديث في هذا الأفق وفي هذه الأنوار
التي نسبح فيها مع أستاذنا وشيخنا الجليل سيد الشيخ علي جمعة حفظه الله. مولانا، كنا قد وقفنا عند الأزهر الشريف وكيف استطاع أن يبني مجموعة عادات وأعراف ومنظومة آداب عند الإنسان المصري، تكلمنا... تُشير أدلة إلى أن القرآن الكريم انتشر في البلاد والعباد، ولذلك تحت رعاية الأزهر كانت تُقام الكتاتيب حيث حفظ الناس، سواء كانوا من طلبة العلم أو من غير طلبة العلم، القرآن الكريم. لقد جعل القرآن الناس في حياتهم - فالشخص الذي يريد أن يكون صوته جميلاً يقوم بقراءة القرآن. كان من الممكن أن يؤدي أداءات أخرى مثلاً، لكنه يقرأ القرآن وقد علَّموهم ذلك. احترامُ هذا القرآن بركةٌ، تدبُّرُ هذا القرآن (مصدر الخير). القرآن في الأزهر ليس فقط حفظَ
الرسوم وليس فقط كتابتَه، ولكن أيضاً تفسيرَه وأيضاً تطبيقَه. وقد قام الأزهر الشريف بحفظ القرآن. ولو ذهبنا إلى الحوزات العلمية في العراق نجد أنَّ المتخرج لا يحفظ القرآن أصلاً. إنَّ ما يتميز به الأزهر هو القرآن الكريم. كان الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله تعالى يعتبر أنَّ الذي لا يحفظ القرآن ليس أزهرياً حتى لو انتمى إلى الأزهر أو كان في الأزهر أو ما شابه ذلك، وأنَّ الذي يحفظ القرآن ينبغي علينا أن نعتني به، وكان من أهل القرآن. كان الشيخ الغزالي من أهل القرآن وله ورد يومي لا... لا بد أن يسمع فيه القرآن وأثناء هذه التلاوة هو يعيش في جو القرآن ويعيش في
مرادات الله سبحانه وتعالى وتتفتح له معانٍ لم تكن من قبل ليست موجودة في كتاب. فإذا الأزهر حافظ على القرآن الكريم أداءً ورسماً وكل شيء وكيف علّم الإنسان منهجية التفكير. حسناً، سيدي، وأنا أسبح. أفكرُ فيما تفضلتَ به يا حضرتك وأتخيلُ عشرات الآلاف من الألسنة الأزهرية التي تخرجت من الأزهر وسكنت القرى والنجوع والكفور وأشاعت في الإنسان المصري في ريفه وصعيده والدلتا والمدن القرآن الكريم والتلاوة والتدبر والصلاة والتراويح. النور الذي يسري من خلال هذه الألسنة الأزهرية في المجتمع المصري هل هو الذي استطاع أن يحافظ على ثبات قوام هذه الشخصية على نقل أنوار الأزهر الشريف وما يدور
فيه من حركة علمية إلى المجتمع هذا شيء ضخم، أعني شيء عريق حفره الأزهر في مصر بكل أنحائها. كان هذا أحد العناصر، والعنصر الثاني كما ذكرنا كانت اللغة العربية والاهتمام باللغة العربية. هذا الاهتمام البليغ الذي أدى إلى استقامة الفكر مع الحياة. العنصر الثالث هو أن هذا العلم الأزهري مرتبط بالتقوى "واتقوا الله ويعلمكم الله". ولذلك حرص علماء الأزهر الشريف على أن يرتبطوا بالتقوى، ومن هنا تكلموا عن مرتبة الإحسان وعن تفسير مرتبة الإحسان، وكان التصوف جزءاً لا يتجزأ من المشرب الصحيح. نعم، هذا ما علّمه الأزهر للناس، والتصوف هو طريق إلى الله.
يقول الهروي مثلاً في كتابه "منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين" ووضع كتابه على مائة درجة، أي أن هناك طريقاً من مائة خطوة سيوصلنا إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا الطريق محدود بالذكر والفكر وبتعلق القلب بالله. الأزهر لم ينسَ هذا. الجانب لم يقتصر على تاريخ الفقه، فأنا عندما أعلم أن الشافعي قال وأبو حنيفة قال ومالك قال رضي الله عنهم، فهذا تاريخ وسرد لأقوال تاريخية. عرفت التاريخ بدقة قليلاً. كان الأستاذ عبد الحميد العبادي رحمه الله، وهو متخصص كبير ومؤرخ، يقول: "لا يكون..." لا يمكن أن يكون الإنسان مؤرخاً إلا إذا اطلع على الفقه الإسلامي، ولا يكون فقيهاً إلا إذا اطلع على التاريخ الإسلامي. لا يمكن أن
يكتمل للفقيه فقهه إلا بالتاريخ، ولا يكتمل للمؤرخ تاريخه والتمكن فيه إلا إذا قرأ الفقه، لأنه سيعلم كيف كانوا يفكرون، وهنا سيعلم ما الذي حدث حتى فكروا بهذه الطريقة. هذا التفكير يؤكد أن العلوم متصلة، وهذه هي النقطة الرابعة التي أدى بها الأزهر. القرآن ثم اللغة والتقوى التي هي الطريق الذي هو التصوف الذي هو الإحسان. والنقطة الرابعة هي تكامل العلوم، وهو أمر عظيم. ولذلك تجد الأزهر يهتم بعلوم الوسائل وبعلوم المقاصد، ويهتم بالتطبيق، والأزهر جامع لأنه يدخل الدين في الحياة. والحياة في الدين من أقرب طريق. هذا أحدث تكامل العلوم، وأحدث عقلية محترمة. احترم المسألة الخامسة: التعدد. ولذلك لم يدرس الشافعي
فقط. الشافعي مدفون في مصر، ومالك مدفون في المدينة، وأبو حنيفة مدفون في الأعظمية في بغداد، وابن حنبل في بغداد. لا، إنه يدرس كل هذا، ودرس المذهب الجعفري أيضاً. درس الفقه المقارن. هناك نقطة واحدة أن مشايخنا كانوا يعيشون سوياً، هذا حنفي وهذا شافعي وهذا مالكي. فكانوا عندما يجلسون معاً يقول أحدهم للآخر: "سنذهب لنأكل الفول صباحاً"، وهم من مجاوري الأزهر، فيذهبون للإفطار، وأثناء عودتهم يقول له: "لدينا أن الطلاق يقع بالطريقة الفلانية"، فيجيب: "لديكم..." هكذا نحن عندنا أنه لا يقع. كيف إذن ويتناقشون في المسائل العلمية باعتبار أن هذا مجال للظن وليس مجالاً للشجار، وليس مجالاً لأن يوسع صدره لعدة أقوال. لا
بد ووسع صدرك، وأنه لا بد عليك أن تكون رفيقاً بالناس وأن كذا إلى آخره. هؤلاء الناس تعلمت وعلمت. والتعدد هذا أثر كثيرًا حتى في الشخصية المصرية، فأصبحت قابلة للغير، قابلة للآخر. عندما يأتيني السياح، أنا لا أريد قتلهم، بل أريد أن أريهم وأخبرهم أننا طيبون وجميلون، وهكذا. لكنني لم أنظر إليه على أنه ليس مسلمًا، ولم أنظر إليه على أنه جاء ليُفسد. البلادُ والعبادُ في مؤامرةٍ عليَّ. لم يحدث هذا الكلام إطلاقاً من العقلية الأزهرية المستوعبة. حسناً، هل تعلم أن هناك طريقاً للحج كان يأتي من منتصف أفريقيا إلى الحرمين الشريفين ويمر عبر الديار المصرية، وكان هناك مكان تجمع للقوافل في قوص في قنا بالصعيد، حيث يجتمع
الوافدون من شمال أفريقيا. في القاهرة ثلاثون رواقاً أزهرياً كانت تجمع الملايوي والهندي والمغربي والكردي والحضرمي والتركي والشامي والحجازي. فهل كل هذه الروافد مع البعد العقلي العلمي الفقهي الذي كان يرسخ قيمة التعدد جعلت الإنسان المصري يرى التعدد علماً ونظراً ويعيشه واقعاً من خلال السن ولغات الشيخ محمد المبارك بن عبد الله شيخ العلماء؟ السودان يقول في كتابه "التعليم الديني في السودان": كنا نجلس في رواق السنارية في الأزهر الشريف فنسمع الكردي والجبرتي والشامي والمغربي، وكلنا لدينا اهتمام بالعلم. هل هذه يا حضرتك هي التي عودت الإنسان المصري على أن يتسع صدره للأمة العربية وللأمة الإسلامية؟ الأزهر اتسع لكل هذا، وكان عندنا أحصينا سبعين رواقاً. نعم، الثلاثون رواقًا الذين تتحدث عنهم كانوا يضجون كخلية النحل،
لكنهم كانوا سبعين رواقًا. بالطبع، هناك بلاد يأتي منها واحد أو اثنان أو ثلاثة أروقة. الصينيون في سنة ست وثلاثين، فإذا كان لدي سبعون رواقًا، فالآن لدي مائة وثلاثة. كيف أصبحت مائة وثلاث دول فيها وافدون؟ إذا الأزهر نظام مفتوح وليس نظاماً مغلقاً، فهو لم ينغلق على نفسه ولم يجعل هناك كهنوتاً أو سراً لا يطّلع عليه الآخرون أو قدس الأقداس. فعندما يأتي شخص لا يعرف اللغة العربية، ينطقها الأزهريون وينطقونها له. ولا تتصور مدى بلاغة وفصاحة شخص مثل رئيس المالديف ومعاونه اللذين كانا يدرسان في الأزهر، فإذا... به ينطق لغة عربية صحيحة لا يخطئ فيها أبداً،
وإلى هذا الحد رأيناه في الفلبين، ورأيناه في الهند، ورأيناه في أماكن أخرى، وكل هذا لأن المدرسة الأزهرية اهتمت باللغة، لكن مع نسق مفتوح استقبل كل العالم، فليس فقط أنه استقبل المذاهب، بل أيضاً أنه استقبل الجنسيات المختلفة، حتى أن بعض المسيحيين درس في الأزهر وهو على مسيحيته وبقي على مسيحيته إنما يريد أن يتعلم حتى إن الشيخ حسن الجبرتي - لا بل قبل حسن الجبرتي - حسن الجبرتي كان يدرس الرياضيات والرياضيات العليا وكان يستقبل الطلبة الفرنسيين الذين اتضح فيما بعد أن بعضهم كان جاسوساً ورسم شواطئ الإسكندرية لأجل أن يحضّر لويس للحملة التي نفذها. نابليون بعد ذلك لكن هذا في أيضاً الشيخ مثلاً أسانيد الشيخ الشبراوي وهو يتحدث
عن سبعين علماً تُدرس في الأزهر. فالأزهر أفقياً ورأسياً كان نسقاً مفتوحاً قَبِلَ التعدد، قَبِلَ الآخر، قَبِلَ العلوم، قَبِلَ الدنيا، قَبِلَ الدين، وهو معهد للعلم رصين، ولذلك استطاعوا أن يدركوا النص، أن يدركوا الواقع، أن... يصلون بينهم. هل حضرتك قادر أن أقول إن المدارس العلمية العريقة كجامع الفاتح في إسطنبول والمساجد التي كانت في تركيا والمدارس العلمية هناك التي مثلاً اعتمدت مذهب السادة الأحناف ولم تعتمد ولم تدرس سواه، والقرويين في المغرب وقد اعتمد مذهب الإمام مالك ولم يدرس سواه، عندما نقارن هذه المدرسة الحضرمية التي... اعتمدت المذهب الشافعي ولم تدرس سواه. عندما أقارن هذه المدارس بالأزهر الشريف الذي استوعب المذاهب الأربعة وغيرها، واستوعب الوافدين من أقطار مختلفة، هل هذا هو الذي جعل للأزهر الخصوصية والتميز والبقاء؟
نعم، إن أهم شيء هو البقاء. هذه المدارس، كثير منها تعثر، لكن الأزهر بقي لأنه تعامل مع... المطلق ومع النسبي تعاملاً صحيحاً عظيم، الآن هذا في قطعي وفي ظني، فتعامل مع القطعي على أنه قطعي ومع الظني على أنه ظني. لا يوجد مذهب أحل الخمر، لا يوجد مذهب أحل الخنزير، لا يوجد مذهب أحل الزنا والخنا والفاحشة والسرقة والكذب، لا يوجد مذهب أحل هذا، ولذلك هذا هو. دين الإسلام أركان الإسلام الخمسة، وأيضاً أن نبتعد عن المحرمات ونؤدي الواجبات ونفعل المندوب بعون الله تعالى. حسناً، وما اختلفنا فيه فيه سعة، والتشدد يحسنه كل أحد. لقد أشرت حضرتك مرات إلى إحصائية
قام بها صاحب كتاب "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" بيّنت مناطق الاختلاف والاتفاق بين المجتهدين. الإسلام لو تفضلت فقط بتوضيح في هذا المعنى هو صاحب رحمة الأمة هو الشيخ العثماني، نعم الشيخ العثماني خطرت له فكرة مبنية على مسألة في الأصول، في أصول الفقه. المسألة في أصول الفقه لكي نفهمها تقول ماذا: هل الحق واحد ليس له وجوه أم أن الحق واحد له وجوه متعددة؟ وهؤلاء يسمونهم المخطئة والمصوبة. الجمهور يفهمها على أنها المخطئة، أي أنت وأنا عندما نختلف في مسألة، فواحد منا على صواب والآخر على خطأ، والآخر مخطئ حتماً وفق هذا الفهم. أما المدرسة الثانية، المصوبة، فتقول: لا، إن الاثنين على صواب، أنا وأنت على صواب. فهو انطلق من المصوبة، وهم الذين يعدون أقل عدداً بقليل في... العدد من المخطئة: المخطئة
علماء كثيرون، لكن المصوبة علماء أقل. هذا - حضرتك - يتعلق بالرأي في أن كل مجتهد مصيب. كل مجتهد مصيب، فيكون هذا هو رأي المصوبة. نعم، نعم. لماذا؟ لأنه قُدِّم عليه. ماذا يعني قُدِّم عليه؟ ربنا قال له اجتهد، فهو اجتهد فقط وانتهى الأمر. هو هكذا يكون هذا حقاً له وجوه متعددة مثل. المكعب كل وجه من وجوه المكعب هو من المكعب جزء منه. حسناً، عندما يقول أبو حنيفة إن الذي يلمس امرأة يصلي في أمان الله، والشافعي يقول إن الذي يلمسها حتى لو كانت زوجته يذهب ليتوضأ، فأين الصواب وأين الخطأ؟ فيقول: الاثنان على صواب. قلنا له: كيف؟ اشرح لنا هذا، كيف يكون الاثنان على صواب؟ يا شيخ العثماني، فقال هذه رخصة وهذه عزيمة. أنت الآن ليس لديك وقت وستفوتك الصلاة في مكان لا تستطيع الوضوء فيه مثلاً، أو في الطواف في الزحام الشديد. في الزحام صلِّ وطُف، فالتيسير
مطلوب. طيب، والذي يقول توضأ في ساعة من الوقت، قال هذا في ساعة أعرف. إذا درست المذهب الشافعي، فإن الإمام الشافعي الذي يسمعني الآن سيقول: أعوذ بالله، أصلي من غير وضوء؟ لا، إن الشيخ العثماني لا يقول هكذا، بل يقول: هذه رخصة وهذه عزيمة. والعزيمة يكون سببها أكثر عندما أذهب وأتوضأ وأجدد وضوئي، فالوضوء على الوضوء نور على نور. لا يحدث شيء، فالاحتياط والاحتياط قد يكون... واجباً وهو مستحب على كل حال، فالمهم الحاصل أنَّ الشيخ العثماني جعل الخلافة بين الفقهاء المجتهدين وليس الفقهاء الصغار. نعم، قال: "للأسف ظهر لنا نابتة في عصرنا هذا يقولون بلا قواعد، يقولون هذا عندنا غير جائز، فمَن أنتم حتى يكون لكم عندكم كذلك". فإذاً الرخصة والعزيمة، خذ هذه
الفكرة. السيد الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الميزان، في الميزان الكبرى، وفي الميزان الخضرية نسبةً إلى الخضر، وفي الميزان الخضرية شرح لنا كيف أن كل مجتهد مصيب، وكيف أن الاختلافات الفقهية التي في مجال الظن هي بين الرخصة والعزيمة، وأنك ما زلت في إطار الدين بعد ذلك. المفكرين وغير معروف الصحفيين والكُتَّاب ونحو ذلك إلى آخره، فيقول لك ماذا؟ هناك فارق بين الرأي الإسلامي ورأي إسلامي. رأي الإسلام هو المُجمع عليه، أي أننا لم نختلف فيه. أما الرأي الإسلامي فهو رأي منسوب إلى المفكرين والعلماء والمجتهدين الذين ينتمون إلى الإسلام، وهكذا يصبح رأياً إسلامياً يمكن نحن... نتمتع بكل الآراء ولكن بضابط، لأنه
أيضاً ظهر بعض الناس وهم يُحيِّرون الناس، قيل لك: "حيِّروا، خيِّروا، مَن خيَّرك فقد حيَّرك"، نعم ولا يقولون ماذا. فالناس بدأت تتشكك ما الأمر، كون أن هذه رخصة وهذه عزيمة، كون أنني أقول لك ماذا بما هو الواقع، هذه مهمتي، لكن تلقي... مهمتك على عاتق الناس وكأنك تقول: "أنت تعلم أن هذا الشخص الذي يجلس ويقول أشياءً كثيرةً جداً للناس، يجوز ويجوز ويجوز ويجوز، وأنت اختر، أنت أنت استخدم عقلك واختر". هذا يذكرني بماذا؟ يذكرني بطالب دخل إلى الامتحان وجاءه السؤال، فقيل له: "راجع الكتاب من صفحة ستة عشر إلى صفحة ستة". والعشرين وستجد فيه إن شاء الله، وستجد فيه إن شاء الله الإجابة. هذا الكلام يُلقي عبئاً لم يكن يجب عليك على الآخرين. عبؤك هو أن تدرس، تدرس الواقع وترى المآلات وترى ما يريح
الناس ومصالح الناس. الأمور التي تجري في المطبخ لا تظهر للناس ولا تأتي للناس. وأنا أدعوهم إلى طعامٍ فأُخرج لهم الكوسة وبجانبها البشاميل وبجانبها الطماطم وأقول لهم: كلوا الآن كوسة بالبشاميل. هذا كلام غير منطقي. فهو حضرتك قدَّم ما لم يكن ينبغي عليه أن يفعله، قدَّمه للناس، عرضه عليهم، وهذا يُحيِّر الناس. حسناً، كنا نتحدث عن أمرٍ شديد الأهمية في أن هذه... المقومات والعوامل التي منها القرآن واللغة العربية والتعدد وربط العلم بالتقوى كانت من أسباب بقاء الأزهر. أحتاج أن أسمع من حضرتك أكثر عن بقاء الأزهر، ما هي الأسباب الأخرى التي خصت هذه المدرسة بالبقاء دون عدد من المدارس الكبرى التي عمرت زمناً ثم ماتت؟ وأنا أستأذن حضرتك، أنا فقط من باب... المشاغبة بعض الشيء، أنا كنت نظمت قصيدة اسمها "الأزهر يتحدث عن نفسه"
على غرار "مصر تتحدث عن نفسها" لحافظ إبراهيم، وصِغْتُ على لسان الأزهر: المعاهد كم من مدارس شُيِّدت لكنها بادت، وسبحان الذي أبقاني فبقيت أشهد، فبقيت أشهد فضل ربي أنه كم صانني ولكم وكم أعطاني، ولسوف أبقى شامخاً والعلم. في رأيي، يا منير والشيوخ، أسباب بقاء الأزهر هل هي فقط تعود إلى التعددية واتساع الصدر واستيعاب عدد من العلوم والمقومات؟ أنا أحتاج أن نغوص أكثر في هذا المعنى. لقد ذكرتَه في كلامك الآن، تقول إنك كتبت قصيدة عن الأزهر على غرار ما كتبه حافظ إبراهيم عن مصر. نعم، هذه هي الفكرة. الأزهر أصبح ضمير مصر. ما
هي الهوية المصرية؟ عندما نتحدث ونقول إن مصر لها هوية، ما هي؟ إنها شيئان: العروبة والإسلام. جميل، والعروبة والإسلام تمثلان هنا الحضارة وليس الدين. بمعنى أن حضارة الإسلام يندرج تحتها المسلم والمسيحي واليهودي والوطني. حضارة الإسلام شيء، الذي هو كيف نتعامل مع الأمور. كيف تكون أفراحنا، كيف نأكل، ماذا نأكل، كيف نفرح، أوقاتنا المحددة، أقابلك بعد الظهر أو بعد العشاء مثلاً. كل كلامنا يسير على الشهور القبطية. هذه هي حضارة الإسلام أنه يقبل الآخر وأنه مثل الطوبة يجعل الشاب متواضعاً. شهر بابة، ادخل وافتح البوابة، كياك صباحك مساؤك، تستيقظ من النوم وتحضر عشاءك يا سيدي. أبو الهوى والزوابع لا
يعرف شهر برمهات، اخرج الأغطية في شهر برمودة واضرب بالعمود. إذا كنت أعيش في ثقافة كعك العيد الذي صنعه الفاطميون، وهذا يأكله المسيحيون. دخلت مرة عند شخص ووجدت كعكاً صيامياً، فسألته: "ما معنى صيامي؟ هل هو بعد رمضان؟" فقال لي: "لا، هذا لإخواننا المسيحيين، إنهم..." لا يدخل فيه ما فيه روح أو ما خرج من روح، نعم. فإذا كان الله لكي يستطيع أن يفرح معي بالكعك ولا يخالف شريعته، فأنا حضارة الإسلام والعروبة والإسلام. حسناً، أليس الأزهر هو العروبة والإسلام؟ أليست مصر هي العروبة والإسلام؟ هل حضرتك بحساسيتك هذه استطعت أن تصل إلى القضية؟ الأزهر هو مصر ومصر هي الأزهر، ولذلك تجد الكنيسة المصرية مثلاً بكل طوائفها
موجودة في بيت العائلة مع فضيلة الإمام، مع فضيلة الإمام، نعم، أجل، لكنهم لا يضعون يدهم مع يد الخوارج مثلاً، أي تيار متطرف، الله واحد، يقول له: سأقتلك وسأميتك، ولن أعيد عليه ولن أقول لك السلام عليكم. وعلى فكرة لو كنت أسير بالسيارة لصدمتك بها هكذا لكي تتعرض لحادث. ما هذا؟ وما الأمر؟ ما بنا الآن؟ ما هذا؟ هذا هراء! هذا كلام يعكس فهماً مشوهاً للدين، وفهماً مشوهاً للحياة، وفهماً مشوهاً لكل شيء. أنا الآن لكن الأزهر قال ها هو، نريد الأزهر، الشيخ أحمد حسن البقوري رحمه الله. الله كان صديقًا. دعني أكمل الجملة وأقول لهم: انتظروا قليلًا، انتظروا يا جماعة، يعني ابقَ واقفًا معي. أنا معك يا مولانا. أحمد حسن الباقوري كان صديقًا للبابا كيرلس. إذًا نحن، حضرتك، هل هذا ما قاله مكرم عبيد:
"أنا مسيحي ديانةً، مسلم وطنًا، وأعيش في مصر وطنًا يعيش فينا" أم لا؟ نعيش في جو مليء بالحرية بين جيلين من أجيال الأزهر الشريف، بين جيل الأساتذة وجيل التلاميذ. حوار أزهري ممتد على مسمع من الأسرة والعائلة والمشاهد
المصري الكريم، نحاول فيه أن ندرس وأن نتأمل ما هي العلاقة بين الأزهر الشريف ومصر. كان المرحوم المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال رحمه الله يقول: "أنا متوقف..." كثيراً ما أقف أمام عبارة المؤرخين الكبار إن مصر هبة النيل، وأنا أقول إن مصر هبة المصريين. المصريون الذين بنوا الأهرام وبنوا السد العالي وبنوا سور مجرى العيون وحفروا القناة. المصري المغرم بالعمران، المصري المحب للحياة، الممتلئ بالطموح، الواسع الصدر، الذي يشعر أنه يقوم مع أشقائه العرب والمسلمين بدور قيادي كبير هذا. المصري الذي تم صناعته في مصنع الأزهر الشريف، وكان كلام مولانا وأستاذنا الجليل السيد الشيخ علي جمعة عن أن الأزهر هو مصر ومصر هي الأزهر، وأن هذين الهرمين العظيمين - مصر والأزهر -
قد قاما معاً على أساس العروبة والإسلام، الإسلام الذي اتسع لينطلق من كونه الوحي الإلهي والدين السماوي الموقر حتى يتحول في حياة البشر إلى حضارة وآداب ونمط معيشة. الحديث موصول يا مولانا عن الأزهر الشريف، كيف استطاع أن يحول قيم الإسلام إلى حضارة في حياة المصريين. أقدم لحضرتك بعض الأمثلة: عندما قلنا إن الأزهر يهتم بالقرآن، ويهتم بالسنة، ويهتم بمذاهب أهل السنة الفقهية، ويهتم باللغة العربية، ويهتم بالتنوع. هو نسق مفتوح يهتم بالتقوى، يهتم بالحياة. اهتمامه بالحياة هو الذي جعله متشعباً هكذا. الأزهر مثلاً لو دخلت فيه ستجد
أعمدة وعليها رسوم فرعونية في قمم التيجان الخاصة بالأمور، لأنهم أخذوها من بعض الآثار البيزنطية أو الفرعونية أو الأجيال السابقة. وجدوا العمود ووجدوه مناسباً هنا، فلم يكن عندهم نسق. مفتوحٌ يا أخي، قلبٌ مفتوحٌ للحضارات، وقلبٌ مفتوحٌ للتاريخ، وقلبٌ مفتوحٌ للدنيا كلها. الشريف الإدريسي في كتابه يقول إن سفح هذا الهرم مصلى الأنبياء، وأن إدريس هو الذي بناه، وأن الصحابة عندما وصلوا كتبوا أسماءهم على الهرم "فلان بن فلان يوحد الله"، وكتابه مطبوع بعنوان "تنوير الأجرام". في خبر الأهرام، نعم، انظر إلى الأزهري وهو ينظر إليك هكذا، والشاب الذي ظهر يريد أن
يكسر الأهرام مثلاً، يريد أن يهدمه لأن هذه آثار الكفار. الفرق بين العقليتين هذا هو الذي بنى الحضارة. عندما تدخل في الأزهر تجد الإبداع الخاص بالمشربية، الإبداع الخاص بالزخرفة، المزولة والساعة، الإبداع الخاص بالساعة، الإبداع الخاص بـ... المحراب الخاص بالمنبر عندما زاد عدد الناس فقاموا بزيادة المنبر، فيأتي شخص ليقول لك: "لا، منبر النبي كان ثلاث درجات، وأنا أريد ثلاث درجات فقط". نعم، ولكن عندما تكون على ثلاث درجات لن يُسمع صوتك، ولم يكن هناك ميكروفون في ذلك الوقت، فلابد من أن ترتفع حتى ينتشر الصوت بهذه الطريقة. الأزهر يا أخي، أليس كذلك؟ من السنة أن تصلي في نعلك، لكن بعدما فرشنا السجاجيد في المسجد، كيف ستصبح صلاتك وكيف ستسجد في هذه الطينة؟ ولذلك قمنا بخلع الأحذية. خلع الأحذية
في هذه الحالة هو السُنّة، مع مراعاة إدراك الزمان وإدراك المكان وإدراك المال وإدراك الحال. هذه هي العقلية التي علّمها الأزهريون للناس. قبلت التطور وقبلت الآخر وقبلت التنوع، فبنت الحضارة بهذه الكيفية. هل عندما حصل دخول التتار إلى بغداد وبدأ يجري ما يمكن أن نسميه تعارفًا بين الحضارتين، استطاع فيه العقل المسلم أن يستشف من هؤلاء المغول والتتار أرقى ما عندهم وهم قوم معتدون همجيون في نمط القباب والفن؟ المغولي، واستطاع العقل المغولي أن يستشف نمط حياة هؤلاء المسلمين، فشرب منهم الإسلام، فأسلم التتار. ومحمد علي البار له كتاب "كيف أسلم التتار". هل هذه العقلية المسلمة التي استفادت وانفتحت على
الأمم، ورأت كيف تبني الأمم الحضارة، واجتلبت من كل أمة أفضل ما عندها، هي التي حافظ عليها الأزهري وحولها؟ إلى منهجٍ يُعلَّم ويُدرس في حضارة لدي. هذه الحضارة كامنة، فكان كل وافدٍ يأتيني يتأثر بها ولا نتأثر به. كل وافدٍ - حضرتك تقصد التتار والوثنيين والصليبيين والتتار والصليبيين والاستعمار الحديث وكل هذا - فكان يتأثر بنا. كانت هناك جماعة تُسمى فرسان المعبد، تأثروا بنا ورجعوا إلى أوروبا ضد الملك وضد... البابا في الفاتيكان وتاريخ مشهور معروف في الجمعيات السرية وما إلى ذلك، هم الذين تأثروا بطريقة المشاهدة، هم أسلموا. التتار أسلموا، أنت تقول الآن محمد علي البار وهو كتب كيف أسلم التتار. التتار أسلموا وأصبحوا يعقدون حلقات للذكر
وحلقات للصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وشيء آخر أيضاً. كيف هذا لأنه وجد حضارة كاملة ليست حضارة حائرة. عظيم! نحن الآن بعد ألف وثمان مئة وثلاثين وألف وتسع مئة وثلاثين، في المائة سنة التي تغير فيها وجه الأرض. نحن لم نؤد العلوم الاجتماعية والإنسانية المناسبة للنموذج المعرفي الخاص بنا، ولذلك لم نعرف كيف نبني حضارة جديدة. النموذج المعرفي القائم على... الغيب والألوهية والنبوة والوحي عقيدتنا هي أننا مؤمنون بإله واحد، هو الذي خلق، وهو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهو الذي جعل يوم القيامة فيه جنة وفيه نار، وأنه جعل لنا تكليفاً ومنظومة من "افعل ولا تفعل"، وأنه جعل لنا منظومة أخلاقية: الرحمة حسنة والقسوة سيئة والكذب. حرامٌ والصدقُ حلالٌ. فعلوا لنا هكذا، أليس هذا ما نعيشه؟
هذه هي هويتنا. لكن عندما يأتيني شخصٌ فأقول له: "لماذا تكذبون؟"، يقول لي: "وما المشكلة؟ ما المشكلة إن كذبنا؟ من يريد أن يكذب فليكذب". والآخر يرد عليه. قلت له: "وهل لدينا وقت؟ أين البناء؟ أنتم بهذا ستدمرون البشرية وتُغرقون العقل". في التوهيمات والخرافات وما شابه ذلك ستجعلون الناس لا تثق أبداً، دعوا الناس تعيش كما هي. والله أقوى من المخدرات، ولذلك رأينا هذه الجماعات الإرهابية التي تكذب ليل نهار على الفيسبوك وتُعجبنا. هم يعلّمون أولادهم الكذب، واتضح أن هذا الكذب شيء أمريكي وأنه لا مانع منه. أن نكذب يعني لا، فنحن هذه الأمة النبي يقول لنا إن الكذب حرام والزنا حرام والقتل حرام. أذكر حضرتك قصة كنت تذكرها دائماً عن الشيخ علي الخواص عندما كان جالساً يجدل الخوص، وجاءه رجل
يجري يطلب منه الإيواء فرفض. سيدي علي الخواص رجل أمي لكنه يحفظ القرآن، فهو ليس أمياً إذن. بالكاد يُتقن الكتابة والقراءة لكنه حافظ للقرآن وعائش في القرآن، وإضافة إلى ذلك هو من الخواص لأنه كان يصنع حصير المسجد هذا. فالصبي يجري هارباً من الشرطة، لا أعرف ماذا فعل، فقال له: "خبئني". قال له سيدي علي الخواص: "اختبئ في..." قال: "لا". قال علي الخواص: "خبئني". فالصبي الهارب وقف في مكانه. في الحصيرة وجاءت الشرطة، سيدي الخواص قال له: "ما الأمر؟" عندما قال له: "إنه لجأ إليّ"، قال له: "أخفني". يقول له: "أتمزح معي؟ أم أنت يعني...". فقال له: "فقط اجلس هنا واختبئ". فجاءت الشرطة وسألته: "هل كان هناك شخص يجري هنا؟" فقال: "ها هو مختبئ". في الداخل، إنه هنا في الداخل. قال له: "إنه مختبئ
بالداخل". أنت تسخر منا! فأخذوا بعضهم ومضوا. فقال له الرجل: "كدت أن توردني المهالك، أنت ترشدهم إليّ!" فأجاب: "لولا صدقي ما انصرفوا، صدقي أنجاك". فالصدق منجاة حتى لو ظننت فيه هلاكك، والكذب مهلكة حتى لو ظننت فيه نجاتك. نجاتك، وهذا في الحقيقة وارد عن سيدنا عمر وارد كذلك عند هند بن الساري في الزهد وأورده إلى آخره، لكن على كل حال انظر إلى الرجل، فهو لا يريد أن يكذب رغم أن الكذب والصدق قد ينجي الشخص الآخر. طبعاً الإنسان بحساباته العقلية لا يحتمل هذا، لكن الإنسان الذي يعيش مع الله يتحمل هذا ويفعله. وهو واثق في ما عند الله أكثر من ثقته بما في يده. حضرتك،
إن الصنعة التي صنعها الأزهر الشريف في عقلية الإنسان المصري وسلوكه وآدابه ونفسيته وفي تصوره، هي أعمق بكثير من القدر الذي يدركه الإنسان المصري المعاصر. يؤمن إيماناً عميقاً بأن الأزهر له دور، وأن مصر... بلد الأزهر وأن الأزهر الشريف حامل لواء الإسلام، لكن الدخول إلى هذه التفاصيل المدهشة التي تجعل الإنسان يعرف قيمة الأزهر عن قرب، فحضرتك ما أريد أن أقوله فقط أنه الأزهر الشريف مهما غصنا داخل تفاصيله والصنعة التي ظل يصنعها ألف سنة، فإن هذا يزيد وضوح دور الأزهر عند عقلية الإنسان. سأعطيك مثالاً عن حكاية المستويات والعمق وما إلى ذلك من خلال شيخي الشيخ أحمد مرسي. الشيخ أحمد مرسي أدرك شيخين
عظيمين في العرب، نعم. الشيخ الأول هو محمد راشد والشيخ الثاني هو الشيخ المرصفي أي المراصفة صاحب البغية، الآن الشرح، سيد بن علي، سيد بن علي، فيقول للشيخ... أحمد راشد: يا مولانا، ما الفرق بينك وبين المرصفي؟ قال له: أنا مستوعب مفردات اللغة. هذا الشيخ محمد راشد يقول: نعم، محمد راشد مستوعب مفردات اللغة، فأنا أكاد أحفظ لسان العرب لابن منظور. يكاد يحفظه من كثرة القراءة ومن كثرة الاهتمام ومن كثرة التعمق. تخيل شخصًا عَرَفَ اللغة بهذه الكيفية. وبهذا العمق الذي تسأل عنه، فإن العمق ليس بالأمر
السهل، بل إن الموضوع القادم عميق جداً. من هو محمد راشد؟ محمد راشد كان يجلد كتبه بنفسه، أي أنه محترف صنعة، محترف حرفة. محمد راشد كان أستاذ الكيمياء في الأزهر الشريف، وكان أستاذ التفسير في الأزهر الشريف، محمد... كان راشد مهتماً بتذهيب الكتب، كيفية إجراء التذهيب، وقد تعلمه في إسطنبول. كان محمد راشد في هيئة كبار العلماء في المرتبة الأولى لأنه كان إمام الحضرة الخديوية. كان محمد راشد حضرتك شخصاً واسع المعرفة ويعيش في الجمال في التجليد والتذهيب، وكان يستلهم من الشيخ أحمد مرسي تلميذه. يستلف من تلميذه اثنين جنيه أو ثلاثة جنيه إلى أن يأتي ويقبض في أول الشهر فيقول له: "يا ولد يا أحمد"، فيرد عليه: "نعم يا
سيدي"، فيسأله: "كم لك عليّ؟"، فيجيب: "ثلاثة جنيه يا سيدي"، فيقول له: "خذهم يا ولد". وكان محمد راشد هذا يذهب إلى الرجل الذي عنده، المعذرة، النعال، وكانوا يُفصِّلون. الجزر فيختار من كل لون واحدة. كان محمد راشد العمامة، هذه العمامة لها بطانة، وبالداخل هذه يجب أن تساوي بطانة الجبة والقفطان والقفطان. فيقول له: "يا مولانا، يعني لماذا هي هكذا؟" قال له: "الجمال داخلي، الله الله، الجمال ليس خارجياً، هكذا لكي تشعر من الداخل أنك متسق." أنه متسق كما قال الأزهر، والذي عمله المرصفي. حسناً، فيمَ يتميز إذن؟ يتميز بالتراكيب الجميلة، أي تراكيب اللغة، أي التعبيرات، لكي يفهم الناس ماهية التعبير. انظر إلى
أين وصلنا، حتى أصبحنا نستعمل اللغة الإنجليزية لتفهيم ما كانوا عليه. إذا تذكر حضرتك مرة قلت لنا أن الشيخ محمد راشد... جلس يفسر قول الله تعالى "حميم" في سورة الشورى. لا، أولاً، "حميم". طيب، فجاء يفسرها، فواحد قال له وكان صعيدياً: "يا مولانا، لا تقل لنا 'الله أعلم بمراده'، نريد أن نعرف 'حميم' ما معناها؟" قال له: "حسناً، أتريد أن تعرفها؟ أأجلس معك فيها سنة أم أجلس معك فيها شهراً أم أجلس معك؟" فيها أسبوع، أو دعني أخبرك بشيء سريع هكذا. قال له: يا مولانا، هل تستغرق هذه سنة؟ قال له: تستغرق سنة، ولكن خير الأمور أوسطها، فلتكن شهراً. وجلس الشيخ محمد راشد يفسر في "حم" أسبوعاً، شهراً،
شهراً، وقدم ستة وخمسين تفسيراً لها. نعم، والغريب أنه كان يأتي مثلاً بمقدمات السور. كذلك وهو واسع للاطلاع حتى يصل إلى قصيدة أبي شدوف وهي قصيدة هزلية "هذه القحوف في شرح قصيدة أبي شدوف"، ويأتي بكل هذا ثم قال: "واعلموا أن كل حميم - نحن عندنا سبع حوامين في القرآن - كل حميم لها معنى قد يكون مختلفاً عما ذكرنا"، يُفسَّر في شهر آخر يُفسَّر اختصاراً تماماً. الذي يظهر أن هؤلاء الناس كانوا متعمقين جداً في العلم، متعمقين في إدراك الواقع، لم يكونوا غائبين عن الحياة، وكانوا متنورين، كانوا أناساً محترمين
لأنهم وكان كل ذلك مجتمعاً معاً، عندما وجب اتباع الشيخ محمد راشد، سيدنا الشيخ أمين البغدادي، وأمين البغدادي رجل صاحب طريقة نقشبندية، والشيخ ارتحل إليه ووجد. أنه عنده أن شرح صدره له، وكان الشيخ محمد أمين البغدادي رجلاً شافعياً، فلما دعاه إلى بيته، وجد رفّين من الرفوف القديمة تلك التي يبلغ ارتفاعها ستة أمتار، كلها كتب، فقال له: "يا شيخ محمد، أقرأت كل هذا؟" قال له: "نعم يا سيدي، قرأت كل هذا قال: فأين وجدت قلبك؟ الله الله، أين وجدت قلبك؟ قال له: يا سيدي، أنا لي
أربعون سنة وأنا أصلي في جوف الليل ركعتين لا يعلم إلا الله ماذا أقوم به، حتى أهل بيتي، حتى زوجته وأولاده. زوجته وأولاده وهكذا، يتركهم عندما ينامون ويقوم متسللاً ويخلو إلى الله ويخلو إلى... الله بهذا في هذا الوقت الشريف، هؤلاء الناس ربطوا بين العلم والتقوى، وعرفوا أن هذا العلم ليس تاريخاً، وأن هذا العلم إنما هو عبادة، وأن هذا العلم إنما هو حياة، وأن هذا العلم إنما هو حضارة، وأن هذا العلم إنما هو للناس، وأن هذا العلم لا بد فيه من التقوى. ذكرتَ لي مرة أن أستاذ فضيلتك الشيخ أحمد مرسي الذي تتلمذ على الشيخ محمد راشد بهذه الطريقة ورأى أمامه هذه الذات الإنسانية الشيخ محمد راشد رفيعة القدر إمام الخاصة الملكية الممتلئة بالجمال المتضلعة من العلم، وذكرتَ لي أنه ترك أثراً تعدّى وعبر الأجيال، الشيخ أحمد
مرسي كان... أيضاً لديه أزواج من الأحذية بعدد أزواج الجلباب، ففي واقعةٍ حدّثتنا عنها سابقاً، وهذا هو تأثير الأزهر أن السابق يورث العلم والحال أيضاً للاحق. يعني أنا رأيت الشيخ وهو له صداقات كثيرة جداً، وكان يحتفظ في دفتر ملاحظاته برقم هاتف محمد شقيق محمود محمد. بشير محمود رئيس الوزراء، رئيس وزراء مصر ثروت عبد الخالق ثروت، رقم هاتفه طبعاً، هذا الرقم قد تغير منذ زمن بعيد، لكنه وهو شاب كان هؤلاء هم رفاقه وأصدقاؤه، يذهب إليهم وما إلى ذلك. وبناءً على هذا كان يذهب لزيارة الناس وأنا معه، أناس كثيرون رحمهم الله
من أهل الأعمال من... أهل القضاء من أهل وجهاء المجتمع، وهكذا. وكانت الناس تحبه جداً. وجود الشيخ في العائلة كان شيئاً أساسياً. كانت عائلات الناس الكبار لا بد أن يكون فيها شيخ لكي يبين لهم الحلال والحرام. جميل، جميل. الشيخ هو موجود فقط. أول ما يأتي يذكر الله. إذا رأوه يُظهرون ذكر الله. أول ما يأتي يذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول ما يأتي يستحيي أحدهم وقد همَّ بمعصية أن يفعلها، أول ما... وهكذا الأزهر كان له وجود وما زال له هذا الوجود إلى الآن، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لا يعلمون، ولذلك أنا أقول لك إن الأزهر ومصر وجهان لعملة واحدة. لماذا؟ لأن الهوية واحدة.
ما هي الهوية؟ العروبة والإسلام أو الإسلام والعروبة، هي هي، لأنها دائرة من حيث بدأت حيث انتهيت. فالأزهر في الحقيقة قام بدور كبير جداً في بناء الشخصية المصرية، وأنا أتذكر كيف كان يدرس الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم رحمه الله، نعم، كان أي كلمة يراها يأتي يقول... مثلاً ماذا، وهذا من باب السرياني، فيصادق أستاذ السريانية في كلية الآداب ويجلس يبحث هل هذه الكلمة سريانية صحيحة، ويكتشف أن هذه الكلمات المنسوبة في بعض الكتب إلى السريانية ليست لها أصل سرياني، ناهيك عن الآرامية، هي لهجة من اللهجات السريانية، ولذلك كان السيد المكشف وضع شرطة
معاش كم. سنة أي هي التي في الأوراق الرسمية تقريباً ثمانية وتسعين سنة. أعتقد أنه في هذه الحدود لأنه كان قد بدأ في سنة أربعين وهو عنده أربعون سنة، واستمر إلى قرن من الزمان تقريباً، قرن من الزمان. كان حضرتك لي مقال في مجلة المسلم. يقول: قد يظن بعض الناس أنني رجل متقشف ومعمم أزهري صاحب ثقافة عتيقة، لكن الحقيقة أنني درست الفلسفة ودرست الرومانتيكية والحديثة والكلاسيكية، ودرست الأدب الرمزي والتأثيري، ودرست المدارس الأدبية المختلفة، ودرست بعض اللغات وأتكلم بأكثر من لسان. هل هذه هي الشخصية الأزهرية عبر التاريخ؟ بدون شك
الشيخ كان... يتقن الألمانية، والألمانية ليست سهلة، وكان متبحراً في السريانية، والسريانية لا ينطق بها إلا قبيلة قليلة في سوريا الآن، لكنها من الدراسات التي اهتمت بها لندن هي والآرامية وما إلى ذلك وهكذا. وأغلب المتخصصين فيها في الخارج، يعني ربما اليهود لأجل الكتب المقدسة وما إلى ذلك. أين أنت في الشيخ؟ هذا الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم، هذا علامة من علامات مصر. ماذا كان يفعل؟ فقط لأنك تسألني ماذا فعل الأزهر، الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم أسس العشيرة المحمدية، فبنى المستشفيات، وبنى المدارس، وبنى المساجد،
وبنى الحضانات للأطفال المبتسرة، والحضانات من أجل الأطفال، وهكذا إلى آخره، بنى المعاهد، بنى... عَمِلَ مجلةً لتخاطب الناس شهرياً، وكل هذا في نطاق التصوف الصحيح. هل أستطيع القول أن هذا هو النموذج الذي استوحيته حضرتك وصنعت على غراره مؤسسة مصر الخير؟ لو رجعنا نجد أن محمد عبده عندما كان يعمل، أنشأ المؤسسة الخيرية الإسلامية (الجمعية الخيرية الإسلامية)، ولم يكونوا أبداً منفصلين عن الواقع. نعم، عندما نرى الخضر حسين وشكل جامع الأزهر وجمعية الهداية، وعندما نرى نشاطاً اجتماعياً، لكن غُطِّيَ
على هذا بمحاولة إدخال الناس في حمية السياسة الحزبية. نحن نريد أن نحكم، لا، نحن نريد أن نحكم بالإسلام، وهذا هو الفرق بيننا وبين الإرهابيين. نعم، الإرهابي يقول نريد أن نحكم، يعني أنا... يا كرسي يا تقتلني، نحن نريد أن نحكم، نحكم، ولكن الأزهر يقول: نحن نريد أن نحكم بالإسلام، كائناً من كان هذا الرئيس، سنقول له: اتقِ الله، سنقول له: خف الله، سنقول له... وهكذا عندما يصل الإنسان إلى حمأة السياسة الحزبية، يدخل إلى مكان مقيت، نعم، ويدخل إلى الكذب، وهذا هو. الذي شاهدناه من الكبير ومن الصغير
أنهم قد كذبوا. أيكذب المؤمن يا رسول الله؟ قال مولانا في خواتيم الحلقة: هل أستطيع أن أقول أنه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، اجتهد ورثته وأتباعه وتلاميذه ونوابه في الأمة من بعده في أن ينهض كل منهم. بأعباء هذه الرحمة العامة فضلاً عن المدارس العلمية الكبرى التي كانت من خلال العلوم والمعارف وبناء الرجال وسريان منظومة القيم والعمل الاجتماعي الخيري وشيوع الرحمة. هل كل هذه المدارس والشخصيات والعلماء وجوه معبّرة عن الهدي النبوي في نقل الرحمة للعالمين؟ الرحمة أساس، "إنما أنا رحمة مهداة". الرحمة أساس لأنها بسم. الله الرحمن الرحيم، ومعلوم أنه له أسماء جلال وجمال وكمال. فكان يمكن أن نقول: بسم الله المنتقم الجبار
خوفاً، بسم الله الرحمن المنتقم، لكنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم. فالرحمة هي البداية والنهاية. "يا عائشة، إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه"، والرفق والحب هو نتيجة الرحمة وما نُزع. ما من شيءٍ إلا وشأنه الرحمة، هي التي عندما ينساها الناس وتصبح القلوب قاسية، وينظر الإنسان إلى ذاته ونفسه ولا ينظر إلى خلق الله. فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. هل أستطيع أن أقول إن شعار هذا الدين وإن شعار الأزهر الشريف يمكن أن يُلخص في شعار الرحمة؟ بالطبع. ولذلك نرى المحدثين وهم يجعلون حديث الرحمة هو المسلسل بالأولية بمعنى أنه أول حديث يقوله الشيخ لتلاميذه مسنداً ومسلسلاً بالأولية، أول
حديث، فيقول عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن تعالى"، وفي رواية: "تبارك وتعالى ارحموا". مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، وفي رواية: "يرحمْكم" مَن في السماء بالسكون، و"يرحمُكم" بالضم. إلى هذه الدقة وبهذا النقل وبهذه الكيفية، هذا هو شعار الإسلام: "بسم الله الرحمن الرحيم". شعار الإسلام: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" هي شعار الإسلام، وهي التي تخرجني من الصلاة إلى مواجهة العالم. الرحمة هي... الأساس أن النبي هو نبي الرحمة، النبي رحمة مُهداة، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". فكيف لا تكون الرحمة، وهي عنوان هذا الدين،
هي التي نواجه بها العالمين؟ ليسأل كل مسلم نفسه هذا، بعيداً عن متاهات وعن الغموض، وبعيداً عن تمويهات الأفكار الضالة. شكراً جزيلاً يا مولانا، وخالص تحيتي وتقديري. وأتشرف بلقائك إن شاء الله مساء الثلاثاء القادم وخالص تحياتي للمشاهدين الكرام. نلقاكم بإذن الله تعالى في رحاب الأزهر الشريف وفي الحلقة القادمة من برنامج الله أعلم، وعلى خير نترككم في القناة.