وصايا الرسول | حـ12 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكم في حلقة جديدة من وقائع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. اليوم نعيش مع سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. تعالى عنه وأرضاه. عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت، واستوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل". أَعْوَجُ اسْتَوْصُوا بالنِّسَاء،
فَفِي الأَحَادِيثِ رَبَطَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْأَخْلَاقِ وَبَيْنَ الْعَقِيدَةِ. "يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" نِظَامٌ عَقَدِيٌّ، وَلَكِنْ نَسْمَعُ مَا بَعْدَهُ سَنَرَاهُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْأَخْلَاقِ. "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُرِحْ بَهِيمَتَهُ". "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ مِنْكُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". من كان منكم يؤمن بالله، وهكذا ربط شديد بين المنظومة الأخلاقية وبين العقيدة. ما ورد في الأخلاق عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يمثل خمسة وتسعين في المائة من السنة، وما ورد في القرآن عن الأخلاق يمثل خمسة وتسعين في المائة من السنة. كل هذه الأخلاق مرتبطة بالعقيدة. في المائة إلى خمسة في المائة مرتبطة بكل التشريع من أوله إلى آخره من عبادة ومن معاملة ومن قضاء ومن علاقات دولية ومن أحكام للأسرة ومن كل شيء، يمثل في مساحته هذا ألفي حديث لكل الشريعة، وثمانية وخمسين ألف حديث في الأخلاق المرتبطة بالعقيدة، وهذا منها "من كان يؤمن بالله". واليوم الآخر، فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو
ليسكت. إذاً هذا هو معنى كلمة "فليقل خيراً"، ولا يتحدث بما لا يعرف، لا يفتري، لا يكذب، لا يُكمل من عند نفسه. رأى وليس سامعاً، فليقل خيراً أو ليسكت. هذا وحده كفيل بأن تنتهي ثلاثة أو أربع من مشاكلنا. الإمام مسلم أدرك هذه المصيبة. التي إذا ما تناقل الناس الإشاعات أو تناقل الناس كلاماً غير موثق، كم من متهم وهو بريء لهذه القضية، وكم انتُهكت الأعراض والأموال
والدماء. فيقول وقد روى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي يوثق لنا الحال ولا يتعلق بهذا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن". يُحدِّثُ بكلِّ ما سمع مَن رأى، وكان يقول: "أرأيتَ الشمس؟ فعلى مثلها فاشهد". لم تَرَ وسمعتَ، فالسمعُ لا بُدَّ فيه من توثيقٍ أشد، لأنَّك لم تَرَ ولم تحضر. لعلَّ الناقل قد فهِمَ خطأً، لعلَّ المُبلِّغ قد زاد أو أنقص، لعلَّ الكلام لم يكن بذلك السياق، فهو مُبتَسَرٌ من سياقه. ولكن
الرؤية يرى هذا كلام آخر، كلام يجعل الإنسان على التوثيق وعلى الثقة بحياته، فإذا شهد أمراً فليتكلم وإلا فليسكت. واستوصوا بالنساء خيراً. إذ في هذا الحديث يدل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة على قضيتين: إياك أن تتحدث بما لا تعرف، تكلم عن مشاهدة ورؤية ويقين، واستوصِ. بالمرأة خيرًا رسول الله وهو يقول هذا
الكلام وهو في بيئة كانت بيئة جاهلية، منهم قبائل كانت - والعياذ بالله تعالى - تقتل الطفلة الصغيرة، "وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت"، وهذا اعتراض على مرادات الله في كونه، وما خلق الذكر والأنثى وهو لا يريد الأنثى يريد دفنها، جاء رسول الله ليخرج. الناس من الظلمات إلى النور، ومن هذا المجتمع المتسلط على الضعيف، المتسلط على المرأة، المتسلط على الطفل، المتسلط على الرقيق، المتسلط على الفقير، المتسلط على المرأة بجسد الرجل، المتسلط على الفقير بمال الغني، المتسلط على العبد
بكلام سيده أو بسلطان سيده. ولو كان هذا نظاماً شائعاً تختل معه البلاد والعباد إذا نُزع مرة. واحدة فإذا به يصرخ فيهم هذه الصرخة التي لا بد أن نفهم معناها: "استوصوا بالنساء خيراً". كان مرة في رحلة وكان معه رجل يقال له أنجشة، وأنجشة هذا حسن الصوت، صوته حلو جداً، فلأجل أن تجري الإبل لابد من جعلها في حالة طرب وسعادة، فكان أنجشة هذا يغني للإبل فتشد الإبل حيلها. قليلاً وتجري الإبل، هذه كانوا يسمونها القِلاص. عندما
تجري تُثير التراب هكذا وتهتز هكذا، نقول عنها الخَضّ. فيسمونها في العربية "وَخْد القِلاص"، والوَخْد يعني الاهتزاز الشديد. وَخْد القِلاص هذا كان مُطرباً وهو يُغني، فيُحدِث للإبل طرباً شديداً أو تجري. مَن يجلس على الإبل؟ بعض الرجال وبعض النساء، فالنساء... تتعب من الجهد المتواصل هذا، فأجسامهن لا تتحمل هذه الهزة، كما لو كانت السيارات تصطدم بمطبات شديدة، فيقول له: "رفقاً يا أنجشة بالقوارير"، أي كأنه شبّهه بأنجشة لكي يفهموا أن ما تفعله سيؤذي الفتاة
ويضر بجسدها، أي كأنها مصنوعة من الزجاج، فاحرص عليها واستوصِ بها خيراً، استوصوا بالنساء. خيراً هذه كلمة بليغة يؤكد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة المرأة، فكان في حديث آخر وهو يقول: "استوصوا بالنساء خيراً". وهذا الحديث طبعاً أصبح مما لا يُفهم بتعابير العرب الآن ويُحمل على المعاني السلبية، لأننا إذا عرفنا ما الذي كان، فإننا نفهم "استوصوا بالنساء خيراً" على هذا المعنى. على وجوب الرقة مع النساء، هذه وصية رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فلير أحدكم ماذا سيصنع في حياته. اللهم صل وسلم دائماً أبداً على حبيبك خير الخلق كلهم. إلى
لقاء آخر.