وصايا الرسول | حـ14 | أ.د. علي جمعة

وصايا الرسول | حـ14 | أ.د. علي جمعة - سيدنا محمد, وصايا الرسول
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من وصايا الرسول، نعيش فيها مع وصية مما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه. فوجهوا الأمةَ من بعده
لهذا الخير العميم. نعيشُ اليوم مع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. قال أنسُ بن مالك رضي الله عنه: مرَّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلسٍ من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخلت. على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم
بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم". كان أنس بن مالك يقول: "والله ما..." قال لي عن شيءٍ فعلتُه: لماذا فعلتَه؟ ولا عن شيءٍ تركتُه: لماذا تركتَه؟ وغاية ما هنالك أنه مرةً أرسلني لآتيَ له بطلبٍ، فغبتُ عنه ولعبتُ مع الأطفال. فلما أتيتُه قال: "لقد أثقلتَ عليَّ
يا غلام، والله لولا أني أخاف الله لأوجعتُك بهذا السواك". والسواك يعني فرعاً من شجرة، حتى لو ضَرَبَ به. به على اليد لا ألم فيه ولا ليس كالخيزران مثلاً أو العصا، وكذلك هذا لم يفعله أنس الذي كان يحبه كثيراً حتى دعا له قائلاً: "اللهم أنسئ في عمره". فعاش أكثر من مائة سنة وأكثر نسله، فكان أنس قد عاش حتى أصبح جد الجد ورأى أكثر من مائة وعشرين من أولاده. من أبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده وهكذا. أمه أم سليم بنت ملحان، وأم سليم
بنت ملحان كانت تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وهي التي أتت بأنس إلى رسول الله. إذاً أنس مدني من الأنصار، وحينئذ هو ابن عشرين سنة تقريباً، وهو يروي هذا الحديث. قال مرة أبو... أبو بكر والعباس - أبو بكر وسيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم - كانا يسيران ذاهبين إلى المسجد، فمروا بمجلس من مجالس الأنصار. كان الأنصار جالسين في مجلسهم وهم يبكون. تعجب أبو بكر والعباس قائلين: لماذا هؤلاء يبكون؟ فسألاهم: ما
الذي يبكيكم؟ فقالوا: تذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيننا وكان... في مرض النبي عليه الصلاة والسلام، كان مريضاً فافتقده أصحابه يوم الاثنين، واشتاقوا لمجلس النبي، فلما اشتاقوا لمجلسه جلسوا يبكون كأنهم حُرموا من بركة وجمال وحلاوة كانوا ينعمون بها. فدخل العباس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجرته فأخبره، وكان النبي يحب الأنصار كثيراً، فقام وجاء وقد... عصبَ على رأسه حاشية برد، أي أنه يعاني من صداع،
فلفَّ حول رأسه حاشية برد، وهي قطعة قماش شدَّها بإحكام على رأسه. كانوا في بلدتنا قديماً يسمونها "اللمطة". واللمطة هذه ما هي؟ إنها شيء نلفُّه على رؤوسنا لمنع الصداع أو للتخفيف من شدته. حاشية برد، ثم صعد المنبر وجلس. على المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، كانت آخر مرة صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على المنبر كان في هذا اليوم الذي بكى فيه الأنصار، وخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يُطيّب خاطرهم،
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كَرشي وعَيبتي". كلمة "كرشي وعيبتي"، الكرش هو البطن، وهذا هو المعنى المعجمي لها. الكرش الذي نطلق عليه الكرش يعني البطن. "كرشي وعيبتي" تعني أمين سري، أي أنني لا أبوح بأسراري إلا للأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي. فكأنه يقول لهم: يا جماعة، أوصيكم بالأنصار، الذي سيوصى بالأنصار. مَن أحب الأنصار فقد أحبني، ومن أبغض الأنصار فقد أبغضني. يعني حب
الأنصار من الإيمان، وحب الأنصار يكون من حب الله. لقد قضوا الذي عليهم عندما ذهبوا إلى الحديبية وأبرموا المعاهدة مع رسول الله. فعلاً قضوا ما عليهم وبقي الذي لهم، فهم أعطوا ولم يأخذوا شيئاً، والحب عطاء، فهؤلاء هم جماعة الأنصار. هؤلاء يحبون لأنهم أدوا ما عليهم ولم يطلبوا بالمقابل ما لهم. قالوا سنحميك فحموا، قالوا سنحارب فحاربوا، قالوا سنستقيم فاستقاموا. فالأنصار حقيقةً هم من عند الله سبحانه وتعالى، هكذا هم آووا المهاجرين وكل من ذهب
إليهم وأكرموهم كرماً كبيراً، وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، يعني عندما تلقون واحداً. تعاملوا مع أفضلهم، فاقبلوه وحيّوه وأكرموه واعترفوا بمكانته واشكروه، وتجاوزوا عن المسيء منهم حتى لو أساء أحدهم. إننا لا ننسى الجميل. فهو هنا يدعو الناس إلى الوفاء، ذلك الوفاء الذي أصبح نادراً في عصرنا. عندما أدركنا - والحمد لله أدركنا - مشايخنا الذين ربّونا على الوفاء. كان لدينا
شيخ يرى أن الصلاة خلف المذياع جائزة يعني. يوم الجمعة أصلي خلف التلفاز وتُحتسب لي صلاة جمعة، وهذه الفتوى قيلت من أجل الثوار في الجزائر حيث يضع الشخص المذياع ويصلي خلفه بدلاً من أن يُحرم من صلاة الجمعة لأنه مختبئ من الفرنسيين أو لسبب من هذا القبيل. هذه الفتوى لم يتفق عليها جميع العلماء، ورأينا أنها فقدت كثيراً من مصداقيتها. من شروط الفتوة فكنت أرى أنها الفتوة التي لا حاجة لها، وكان الشيخ يقول لي ولكنه مات وأنا أقره عليها، فيحب أن يصلي
خلف المذياع. أنا أتحمل معه حتى أنزل به إلى المسجد. رحم الله الجميع، حتى الوفاء بعد الموت، حتى يكون الوفاء بعد الموت. ربنا يجعلنا على هذا الخلق. من الوفاء والشهامة، وإلى لقاء آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.