وصايا الرسول | حـ8 | اتق الله ، ولا تحقرن من المعروف شيئاً | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من وصايا الرسول. عن سليم بن جابر الهجيمي رضي الله عنه قال: انتهيت إلى كان النبي صلى الله عليه وسلم محتبياً في بردته، فقلت: يا رسول الله، أوصني. قال: عليك بتقوى
الله، ولا تحتقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار فإنها من الكبر والخيلاء، ولا يحبها الله. وإن امرؤٌ عيّرك بشيءٍ يعلمه فيك فلا تعيّره بشيءٍ تعلمه منه، دعه يكون وباله عليه وأجره لك، ولا تسبن شيئاً. قال: فما سببت بعده دابة ولا إنساناً. أخرجه ابن حبان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهيت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم يعني. وصلتُ إليه وهو مختبئ في بُردته، أي أنه يتدثر بهذه البُردة، وساقاه الشريفتان قائمتان، ويجعل البُردة حولهما حتى يعتمد بظهره عليها. وهو ملتف في بُردته، وأطراف البُردة تغطي قدمي النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: "يا رسول الله، أوصني". إنه نفس سليم يطلب الوصية من رسول الله. قال: عليك باتقاء الله، اتقِ الله
حيثما كنت، اتبع السيئة الحسنة تمحها، خالِق الناس بخلقٍ حسن. هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. عليك باتقاء الله سبحانه وتعالى، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئاً. الوصية الثانية يعني لا تقل إن هذا أو إن هاتين الركعتين يعني ماذا؟ يعني هاتين الركعتين. ماذا ستفعلين أبداً؟ إن هاتين الركعتين اللتين استهنت بهما قد يكون لهما في الميزان ثقل عظيم. كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. فلا تحقر من المعروف شيئاً، ولو أن تملأ كوب أخيك، أو تتنازل وتؤثر أخاك على
نفسك في فنجان. حتى ولو كان معروفاً قليلاً، هذا المعروف القليل يعبّر عما في الوجدان، وهو عند الله سبحانه وتعالى أصل واسع وعظيم. قال: "يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني"، قال: "كيف تمرض وأنت رب العالمين؟"، قال: "مرض عبدي فلان ولو زرته وعدته لوجدتني عنده". تخيل أنك تذهب إلى عيادة المريض فتجد... الله عنده في المعيّة أن لا يحقر أحدنا من المعروف ولو كان قليلاً، لا يحتقرن منه شيئاً، وليفعل الخير دائماً، وأن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط في
الحديث، ولو أن تلقى أخاك بوجه متبسم، فالتبسم في وجه أخيك صدقة، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق منبسط وليس عابساً. التبسم في وجه أخيك صدقة، فهذا هو معنى "لا تحقرن من المعروف شيئاً"، وهذا معناه أن تلقى أخاك بوجه منبسط، أو بوجه طلق، ولو كان مجرد تبسم. واحذر إسبال الإزار، فإسبال الإزار كان علامة على الكبر والفخر، ويُلام عليه الفقير. كانت هناك عادات جاهلية تقتضي أن الغني ينبغي عليه أن... يذل فقير، فكان الفقير إذا سلم على الغني لا يرد عليه. وما
زالت مثل هذه الأحوال الرديئة موجودة بعضها بقلة في أماكن من العالم الإسلامي أن الغني يتكبر على الفقير. النبي يربي الأمة، والأمة في عمومها فعلاً تمسكت بهذه الوصية وهي أنه لا يتعالى على الآخرين، وإياك وإسبال الإزار الذي... يدل على الفخر فإنها من المخيلة ولا يحبها الله، لكن لما كان أبو بكر عنده إزار وكان طويلاً بطبعه وليس بصنع أبي هريرة ولا مراده، قال: مثلك لا يتكبر يا أبا بكر. فالعبرة هنا هي بثوب
الشهرة، نرى أناساً يجعلون الثياب إلى المنتصف، هذه صارت ثوب شهرة، ونص العلماء على أن لو أصبح اللون الأبيض الذي كان يُحبه النبي شعارًا للفاسقين، يحرم عليك أن ترتديه. لماذا؟ لأنك تواجه به الناس، والناس لا يعرفونك، بل سيعرفون أنك فاسق ما دام هذا شعار الفاسقين في بلد ما. فالعبرة ليست بالنصوص وإنما بمعانيها ومراداتها ومنهجها ومقصدها. العبرة هنا بالمعنى الذي تؤول إليه هذه المرادات الربانية والنبوية. فهو لا يريد منا الإسبال من أجل الكِبر، فإذا
لم يكن هناك كِبر وكان هذا عادة الناس، نرجع مرة أخرى إلى أن هذا لا يكون ممنوعاً. وإن امرؤ عيّرك بشيءٍ يعلمه فيك، فلا تُعيِّره بشيء تعلمه فيه. يعني هذا من أعلى محاسن الأخلاق، هو عَرَف عني شيئاً يُعيِّرني به أمام الناس. بها وأنا أعرف عنه بلاءً مستطيراً لكن لا أرد عليه ولا أنزل إلى مستواه، أصبر وأحتسب وأجد هذا في الدنيا قبل الآخرة، لأن هذا الذي تكلم به يحوله ربي سبحانه وتعالى - وهو
فعلاً كان فيَّ - يحوله إلى أكذوبة ويغير من شأني ويجعله كاذباً، والعكس كذلك وهو أنه عندما امتنع فقد ربيت نفسي من أجل الله، فأخذوا ثواب هذا الامتناع عن المقابلة بالإساءة. دعه يكون وباله عليه وأجره لك. المصيبة والمعايرة التي فعلها له وبال سيكون عليه. ولما سكتَ عن عيبه الذي تعرفه ولم تعيره، أصبح أجر هذا البلاء الذي فعله لك أنت. ولا تسبن شيئاً كان الرسول.
الله ليس بسبّاب ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء. نرى كثيراً من الدعاة يُفتَن فيهم بعض الشباب، دائماً السب واللعن، والمصيبة أنه يبرر ذلك بأنه قال: "رسول الله مرة كذا ومرة كذا"، كأنه ينتقي ويريد أن يصور للناس أن النبي كان يسب أو أن النبي كان يتفحش بالقول. النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه فاحش قط ولم يتكلم بالسوء قط ولم يكن بذيئاً قط، كان إنساناً كاملاً. انظر إلى وصاياه التي كان يوصي بها. قال سليم: والله ما
سببت بعد ذلك دابة أو إنساناً، لا شتمت حيواناً ولا شتمت إنساناً. مرة ابن الإمام العراقي جالس أمام الباب هو... وجاء كلب كأنه يريد دخول البيت فقال له: "اذهب يا ابن الكلب". فقال العراقي: "سببته"، يعني انظر إلى مراعاة حقوق الحيوان، فما بالك بالإنسان؟ قال: "أو ليس ابن كلب؟" قال: "أردت انتقاصه، وأنت عندما تقول له: اذهب يا ابن الكلب، لم ترد وصفه بأن أباه كلب أبداً". أنت لم ترد هذا إنما أردت انتقاصه، وحينئذ
فقد انتقصت مخلوقاً من مخلوقات الله، فتدخل في النهي في هذا الحديث. هكذا فهم الأئمة كلام سيدنا صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من وصايا سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الوصية الجامعة: عليك باتقاء الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو. أن تفرغ دلوك في إناء مستقيم وتكلم أخاك ووجهك إليه بانبساط، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه منه، ولا تسب شيئاً. ست وصايا هي هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الاهتمام بإحسان العلاقة
بين الإنسان وربه والعلاقة. بين الإنسان ومجتمعه وغيره، والعلاقة بين الإنسان ونفسه، عبادة لله وعمارة للدنيا وتزكية للنفس إلى اللقاء.