2011 11 25 الهجرة النبوية دروس وعبر

شكراً.
أرحب بضيوفي الأجلاء فضيلة مفتي الديار المصرية العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة، أهلاً بك فضيلة المفتي، أهلاً وسهلاً بكم. ومعنا أيضاً لأول مرة عالمنا الجليل فضيلة الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث عضو الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، أهلاً بك فضيلة الشيخ محمد. نشكر وجودك معنا، بارك الله فيكم. فضيلة المفتي، إذا أردنا بداية أن نوضح للسادة المشاهدين من باب التذكرة معنى الهجرة في اللغة والشرع، وهل كانت هناك هجرة للأنبياء قبل رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. كلمة هجرة... هي من جذر
لغوي الهاء والجيم والراء "هجرة" نعم، وهي في اللغة العربية الجذور فيها خاصية عجيبة غريبة وهو ما أسموه بالاشتقاق الكبير، أن هناك معنى مشتركا بين الحروف مهما كان ترتيبها. فعندنا هذه الحروف الثلاثة: الهاء والجيم والراء، لكنها مرتبة: الهاء أولاً والجيم ثانياً والراء ثالثاً. فإذا جعلنا الجيم... أولاً إذا جعلنا "ج هـ ر" فإذا جعلنا الراء أولاً أصبحت "ر هـ ج". إذا جعلنا مثلاً "رجه"، يعني الترتيب -
آه - الثلاثة، ثلاثة حروف هي في الحقيقة تُكوِّن ستة احتمالات. نعم، الخليل بن أحمد تنبه إلى هذه الخاصية العجيبة الغريبة التي لا توجد في لغة على وجه الأرض قط. نعم، نحن... عندنا عدد اللغات على وجه الأرض نحو خمسة آلاف لغة، ليس هناك لغة واحدة فيها هذه الخاصية سوى العربية. ولعل أن يكون هذا من أسرار نزول كلام الله في عهده الأخير، القرآن الكريم، بتلك اللغة العجيبة الغريبة التي فيها هذه الخاصية. ليست هذه الخاصية موجودة في لغة قط سوى العربية. قال الخليل: وجدنا أن بعض هذه التكوينات مستعملة وبعضها غير مستعمل مهمل، وليس كل الستة في كل جذر
ثلاثي هكذا يكون مستعملًا. نعم، ثم لما تأملنا في المستعمل وجدنا أن هناك معنى يجمعه، فحتى نفهم الهجرة بعمق فيجب علينا أن نفهم المعنى الذي يربط تلك الحروف الثلاثة: هاجر ورهج. وَجَهْر ونحو ذلك، نعم، يتأمل علماء اللغة ثم يخرجون بشيء فيقولون: الحركة والانتقال هي التي تضبط هذه الحروف. يقولون لك: أصل تلك الحروف الحركة والانتقال. جَهَرَ يعني صوته انتقل فهو جهوري الصوت، أي مرتفع الصوت. وتقول
جَهْوَرِيّ ولا تقول جُهُورِيّ كما شاع على الألسنة، إنما هو جَهْوَرِيّ مثل... ما هو خطأ شائع؟ إنه خطأ شائع أن الجهر بالدعوة يعني انتقال الدعوة. لا بد فيها من انتقال من حركة هجر صاحبها، يعني كانوا مع بعض وبعد ذلك انتقل عنه وتحرك بعيداً عنه. هاجر إلى مدينة أو بلد أخرى، يعني انتقل إليها. المهاجر هو من هجر ما نهى الله عنه في الحديث، يعني انتقل. عن نطاق المعصية ودائرة المعصية إلى دائرة طاعة الله هناك انتقال حسي وهناك انتقال معنوي وهناك انتقال حتى بالتأثير كانتقال الصوت
في الهواء، يقولون لك إنه يُحدث ترددات واهتزازات في طبقات الهواء. إذاً، الهجرة هي الانتقال. الهجرة أصبح لها مفهوم في الشرع وقد تكون الكلمة لها مفهوم في اللغة. ثم يعرض لها مفهوم آخر في الشرع مثل الصلاة، فالصلاة معناها في اللغة العطف. كذلك الهجرة جاء لها معنى آخر غير مجرد الانتقال، وهي انتقال سيدنا صلى الله عليه وسلم أو جماعة المؤمنين من ديار ضُيِّق عليهم فيها أمر الدين إلى ديار فيها سعة، والهجرة بذلك في الشرع. على نوعين: هجرة الأمن
وهجرة الإيمان. هجرة الأمن هي ما حدث من انتقال الصحابة مرتين في هجرتين إلى الحبشة، نعم، فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد. فرّوا من طغيان أهل الشرك في مكة إلى الحبشة حيث النجاشي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد أسلم في آخر حياته. لا يُظلم عنده. عنده أحد فهذه هجرة أمان. لم تكن الحبشة أرض إسلام، ولم يكن النظام الحبشي دولة إسلامية، ولكنها كانت دار أمن. ولذلك الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة، كثير منهم لم يرجع وكوَّنوا عائلات هناك. والمسلمون في الحبشة،
وهم الآن أكثرية من أبناء هؤلاء الصحابة، حتى بعد أن انتصر سيدنا وفتح. مكة وقضى قبل ذلك على خيبر أو بعد ما انتقل إلى المدينة فإن بعضهم قد عاد وبعضهم بقي هناك وكوّن جماعة المسلمين التي كانت عبر التاريخ هي أغلب السكان بعد ذلك حتى لو كانت الحبشة الآن يعني الديانة الرسمية فيها هي المسيحية ولكن القضية هي أن عدد السكان الموجودون أغلبهم من المسلمين وهجرة الإيمان هي الهجرة التي حدثت من مكة إلى المدينة إلى ديار هي ديار أمن وإيمان وليس إيماناً فقط ولا أمناً فقط، هاجر فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الطائف كما سنرى وكما هو معلوم. إذاً فالهجرة لها معنى لغوي وهو الانتقال. والحركة لها معنى شرعي وهو الانتقال من ديار قد ضُيِّقت فيها أمور الديانة على المسلمين، أما هجرة أمن كما في الحبشة وإما هجرة إيمان كما حدث في مكة، فهذا ملخص تصنيف الهجرة. أما ما حدث مع الأنبياء فيكاد كل نبي أن تكون له هجرة، فرأينا كيف هاجر موسى فراراً. من فرعون، ورأينا كيف هاجر إبراهيم فراراً بدينه من قومه بعد هذا
التحدي القوي الذي واجهوه، ورأينا كيف هاجر يوسف هجرة قسرية بخطفه ومجيئه إلى مصر، ورأينا كيف هاجر أبوه عليه السلام بعد ذلك ودخل مصر هجرة أيضاً من ضيق الحال في فلسطين، ورأينا كيف هاجر سيدنا لوط فآمن له. قال لوط: "إني مهاجر إلى ربي"، وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام. وقال: "إني مهاجر"، أي أخذ معه لوطاً. وهكذا لو تتبعنا لوجدنا أن كثيراً من الأنبياء هاجروا. فسيدنا عيسى عليه السلام هاجر إلى مصر فراراً من بطش الرومان الذين كانوا يريدون أن يقتلوا كل طفل خوفاً من
ملك بني إسرائيل الذي سيأتي كما في نبوءاتهم. فينهي دولتهم أو ينهي سلطانهم هاجر، وفي كل الهجرة من تلك الهجرات معنى. هاجر سيدنا نوح بالسفينة مع قومه وبدأ حياة جديدة. على كل حال، كان الأنبياء قد كُتبت عليهم الهجرة، وفي كل هجرة درس ومعنى، وفي كل هجرة بيان لنوع جديد من أنواع الهجرات، إلا أن اتم ذلك. وأعلاه وأحلاه وأجمعه هو هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد جمعت بين هجرات الأنبياء كما جمعت معجزاته معجزات الأنبياء. نعم، في كل هجرة عبرة ودرس ومستفاد، وهذا هو ما نطرحه على فضيلة الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث: الدروس المستفادة من هجرة المصطفى صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة فضيلة. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد، فإن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه ومشاهده لا بد من أن يتلمح فيها بعض العبر وبعض الدروس التي ينبغي أن يفيد منها في حياته. وأن يستلهم منها قوته في مواجهة التحديات والصعاب، ولا تخلو الحياة من هذه المكدرات أو من هذه المنغصات التي يواجهها الإنسان بتقدير الله سبحانه وتعالى ليبلونا في مواقفنا. والهجرة
كانت حدثاً فارقاً نستفيد منه عبراً، ولعل من أعظم هذه الدروس أو من أعظم هذه العبر هو حسن التوكل على الله. سبحانه وتعالى، حسن التوكل على الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر نتلمسه في خروجه عليه الصلاة والسلام عندما خرج من بيته على القوم وهو يعلم أنهم يرصدون خروجه عليه الصلاة والسلام. أي شخص ليعلم أن عدواً يتربص به أو أن عدواً يرصد خروجه من بيته ثم يخرج مع علمه بهذا الموقف. فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم توكل على الله، كان عظيم التوكل على الله سبحانه
وتعالى، واثقاً بموعوده جل جلاله. وهذه قيمة في حياة الإنسان، قيمة عظيمة في حياة الإنسان، أن يكون ذا توكل على الله سبحانه وتعالى. ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا وعد لا. يتخلف لأنه وعد ممن لا يخاف الفوات، وعد من الله سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء وبيده الأمر كله. فإذا كان الإنسان واثقًا بربه سبحانه وتعالى، معتمدًا عليه أو متوكلًا عليه، فلا جرم أنه سيواجه كل هذه المواقف وكل هذه الأزمات بثبات وصمود وصبر وتحمل لتلك الشدائد مع إيمانه. بأن الفرج قرين الصبر أو بأن موعود الله سبحانه وتعالى سيتحقق كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه
عندما جاءوا يطلبون منه الدعاء وكان مستظلاً بظل الكعبة وقالوا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أن الرجل ممن كان قبلهم كان يؤتى به فيحفر له حفرة في الأرض ثم يوضع ثم يؤتى بالمنشار فيشق من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه فما يصرفه ذلك عن دينه ثم قال ولكنكم تستعجلون ولعل الآية في سورة البقرة تشير إلى هذا: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول" الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، وأرى أن الآية تشتمل على ما يُعرف عند البلاغيين باللف والنشر، لأنه لا ينبغي أن يشترك الرسول معهم في استعجال النصر، يعني لا ينبغي أن يكون قوله سبحانه "متى نصر الله" هو من قول النبي وقول الذين آمنوا، بل هو
من قول الذين آمنوا أما قول الرسول إلا إن نصر الله قريب فهذا ما يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم ولكنكم تستعجلون فهذا الموقف الذي وقفه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من بيته وهو واثق بموعود الله سبحانه وتعالى وقد أخذ كفا من تراب ونثره على رؤوس القوم وهو يتلو قوله سبحانه وتعالى: "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أفرغ كل همّه في باب الله سبحانه وتعالى، معتمداً على سابق أو على صادق موعوده جل جلاله عندما دخل النبي صلى الله عليه. وسلم الغار ولبث فيه ثلاث ليالٍ هو والصديق رضي الله عنه، وقد جاء القوم إلى نقب الباب ووقفوا متحيرين.
وهذا لفتني إلى أمر، وهو أنهم كانوا يقولون في حقه صلى الله عليه وسلم ساحر، فلماذا لم يفكروا في أنه ضرب سحراً؟ آه، في أنه نسج هذا العنكبوت وأن هذا... من صنيعه أو أن هذا من فعله أو من سحره، وذلك أنهم اخترقوا أو يخترقون نسج العنكبوت. لم يفعلوا هذا، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا مصدقين لأنفسهم فيما زعموه من أنه ساحر. فلو كانوا مصدقين لهذا الزعم لاخترقوا الغار أو لدخلوا الغار أو لفكروا على الأقل في... اقتحام الغار، ولكن لماذا لم يفكروا؟ لأنهم يعلمون أن هذا ليس بسحر، وأن هذا ليس من فعله وليس من صنيعه، بل هو أمر
آخر، فلذلك لم يقل. وهنا نشهد الأثر الذي يترتب على كمال الثقة بالله سبحانه وتعالى أو حسن التوكل عليه. الآية تقول: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه". إن... الله بالغُ أمرِه، وأرى أنَّ الضميرَ في "أمرِه" يعودُ إلى العبد، ولا يعودُ إلى الحق، لأنه ليس هناك تخصيصٌ في أن يعودَ الضميرُ إلى أمرِ الحقِ سبحانه وتعالى، مع أنَّ كلَّ شيءٍ يجري بأمرِه سبحانه، كما في قولِه: "فسخَّرنا له الريحَ تجري بأمرِه"، لماذا لم يقل "بأمرِنا"؟ نقول: لأن... كل شيء يجري بأمر الله فلا وجه للتخصيص إلا إذا أضيف الضمير إلى سليمان عليه السلام "تجري بأمره"، فكذلك هنا "إن الله بالغ أمره" أي: بالغ أي مدرك أمر العبد فيما يؤمله وفيما
يرجوه من الخير والنصر والتأييد والتمكين والتثبيت والفتح، هذا كله بموعود الله سبحانه وتعالى، فهذا أثر عظيم. من الآثار التي من الممكن أن يجنيها الإنسان من وراء ثقته بالله أو حسن توكله على الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال للصديق: "لا تحزن إن الله معنا". وهنا نشهد اتساع هذه المعية أو دائرة المعية، خلافاً لما يقيده بعض الناس، حيث يقول لك: "ربي معنا بعلمه، ربي". معنا بعلمه، فما حظك أنت من معية العلم؟ ما نصيبك من معية العلم؟ أو يقول: من قال أن الله معي بلطفه يكون حظه اللطف، والله معي بمعونته يكون حظه المعونة، والله معي بتوفيقه
يكون حظه التوفيق، وهكذا. ولذلك سيدنا موسى عندما قيَّد المعية بالهداية قال: "إن معي ربي سيهدين". فقال اضرب بعصاك البحر معي بدايةً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال إن الله معنا ولم يقيدها فكان واسعاً واسعاً من غير قيد، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم، فهذه هي النتيجة أو... ثمرة من ثمرات الاعتماد أو التوكل على الله سبحانه وتعالى والذي توكل والذي لا يتعارض أبداً مع أخذ الإنسان بالأسباب أو قيام الإنسان بالأسباب، فلا بد أن نفرق بين القيام بالسبب وبين الإخلاد إلى السبب، فلا يلزم من القيام بالسبب أن يكون المرء مخلداً إليه
أي معتمداً عليه. عليه دون المسبب وهنا نشهد غفلة أو نقصاً في توكل كثير من الناس، فالناس دائماً لا يلتفتون إلا إلى النسبة القائمة بين الأسباب والمسببات. فعندما تأمرهم أو ترشدهم إلى التوكل على الله، يقول أحدهم: "نعم، أنا أتوكل ولكن كل شيء له سبب". فهو دائماً يعوّل على ارتباط السبب بالمسبب أو المسببات بالأسباب لكن ما رأينا أحداً يلتفت إلى العلاقة القائمة بين الأسباب والمسبب. يعني دائماً الإنسان يقول كل شيء له سبب، إنما لم يقل لكل سبب مسبب، فلا التفات له إلى هذه. فهذه غفلة تجعل توكله ناقصاً، فالقيام بالسبب لا يعني أن يتفرغ الإنسان من حسن التوكل
على الله. الله سبحانه وتعالى وإنما يعني أن يكون قيامك في السبب مع شهود المسبب، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله معنا"، وقال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، فهذا معنى "معنا" ينبغي أن يستحضره الإنسان دائماً. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت. وَلَكِنْ قُلْ عَلَى رُكَيْمَا وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسَانُ فِي مَوَاقِفِهِ وَفِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا أَنَّ أَمْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَاضٍ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِيمَا قَدَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنْ كَانَتْ فِي ظَاهِرِهَا مِمَّا يُعَكِّرُ أَوْ مِمَّا يُكَدِّرُ صَفْوَ الْحَيَاةِ وَلَكِنَّهُ سَيَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَى رُشْدٍ أَوْ إِلَى مَا يحب الإنسان إذا ما كان من أرباب التسليم أو التفويض أو التوكل على الله، سنتوقف
في التفصيل أيضاً مع مجموعة من هذه الهيبة والدروس فضيلة المفتي، ولكن بعد هذا الفاصل نواصل كلمة حق بمشاهدينا الكرام، أي أيضاً دروس هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نتوقف أمامها في هذه الحلقة من... كلمة حقٍ، لو تود فضيلتك أن تعطينا أيضاً ملمحاً من بعض هذه الدروس فيما يتعلق بالإخلاص والسلامة من الأغراض الشخصية، وأيضاً دور المرأة في هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. دروس الهجرة كثيرة جداً، وهي معين لا ينضب في استنباط الأحكام الشرعية أيضاً، نعم.
والمواقف التي علمنا إياها سيدنا صلى الله عليه وسلم هيَّا بنا سريعاً إلى مجموعة من الأحكام وبعد ذلك نعرج على دور المرأة. انظر مثلاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام علياً مكانه في رد الأمانات إلى أهلها من المشركين، انظر إلى هذا الدرس وهو في بلاد غير... مسلمة والذي وضع عنده الأمانة غير مسلم، فلم يُجِز صلى الله عليه وسلم أن تُؤخذ هذه الأمانات، ولم يستبح دماءهم وأموالهم، ولم يستبح أماناتهم، بل ردها عليهم
حتى بعدما هاجر. في المقابل، لما فتح مكة بعد ذلك قالوا له: "أتنزل في بيتك؟" قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟" عقيل ابن عم أبي طالب باع الدنيا، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما دخل مكة لم يجد مكاناً له، فكل أملاكه باعها عقيل وهو في الخارج. في الجاهلية هكذا، كان ابن عمه يتصرف في أمواله وليس في ذلك أي بأس. بالطبع هذا فيه نوع من الافتيات على سيدنا صلى الله عليه وسلم. ولكن لم يسترجعها من الناس ويقول هذه ملكي والبيع باطل وهذا التصرف غير سليم وغير شرعي ولا شيء من هذا أبداً، وهل ترك لنا عقيل من دور؟ انظر الفرق بين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات وبين هذا الموقف.
نحن نشاهد الآن للأسف أن بعض مذاهب المسلمين الغافلين وليس مذاهب. الأئمة المجتهدون يستبيحون وهم في ديار غير المسلمين أموال غير المسلمين، وهذه مصيبة كبرى وبلية عظمى تشوه صورة الإسلام. لكن يجب علينا أن ننتقد أنفسنا من داخلنا، وهؤلاء أبناؤنا يجب علينا أن نضرب على أيديهم من فعلهم الخبيث هذا، ونقول لهم إن سيدنا صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا. بل في ظل كل هذا الإيذاء وفي كل هذا البلاء كانوا يثقون فيه وكانوا يضعون عنده الأمانات ورد هذه الأمانات وهو مهاجر إلى ربه سبحانه وتعالى. فبم وبماذا تستحلون أموال الناس وقد فتحوا لكم بلادهم، وجعلوكم تحت
رايتهم وأرزاقهم، حتى ترى الشخص فيهم يعمل ثم يأخذ التأمين الاجتماعي؟ والتأمين الاجتماعي لمن لا يعمل ويرى أن هذا يعني نوعًا من أنواع استحلال أموالهم، هذا كلام فاسد وعقيدة فاسدة، وليس هذا هو الإسلام، وليس هذا ما عليه الأئمة، وليس هذا هو التأويل الصحيح بل هو تخليط، وهذا التخليط لا ينبغي أن نسكت عليه، يجب علينا أن نأمرهم بالمعروف وأن ننهاهم عن المنكر. الهجرة، هذا يعني يعطينا شيئاً من هذا مشهد آخر وهو أنه يستعمل عبد الله بن أريقط وهو مشرك كدليلٍ له. عبد الله بن أريقط لم يثبت أبداً
في أي كتاب ولا في أي رواية أنه أسلم. يا سبحان الله! يعني فتشنا الكتب ها بعد الهجرة، حتى بعد الهجرة فتشنا. الكتب تشير إلى أن من أسلم ودخل الإسلام، لكن عبد الله بن أريقط ليس معدودًا من الصحابة في أي كتاب من كتب المسلمين. فالاستعانة بغير المسلمين، مثل عبد الله بن أريقط، الذي ليس من أهل الكتاب ولا شيء آخر، بل هو مشرك يعبد وثنًا. ومع ذلك، فإنه صاحب خبرة من أهل الخبرة، فلم يميزه هذا. يذكرني بالبلاء الذي نلقاه عندما تقدم أحد المسلمين للانضمام إلى فريق المطافئ في إحدى الدول الأوروبية، فقال له رئيس الفريق: "على فكرة، نحن نطفئ الحرائق في بيوت المسلمين
وبيوت غير المسلمين". إذن هذا الرجل الرئيس الإطفائي في ذهنه صورة سيئة عن المسلمين، وأنهم كأنهم يتصفون بالعصبية، وهذا مخالف للإسلام تماماً. التي تجعلهم يتعاملون بحيث أنه عندما يجد بيت المسلم يحترق يطفئه وبيت غير المسلم لا يطفئه، ولذلك يجب علينا أن ننبه إلى مثل هذه الدروس وإلى هذا الشباب الذي تلاعب بعقله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عبد الله ابن أريقط هذا ولم يسلم وكان مشركًا، لماذا استعمله؟ استعمله لأنه خبير، لأنه كما يقولون في اللغة "خِرِّيت"، والخرِّيت يعني العليم بمسالك الصحراء. ولأنه صلى الله عليه وسلم
لم يسر بجوار الساحل، فإنه يحتاج إلى هذا الخِرِّيت، إلى من يعرف الاتجاهات وأكثر الطرق حتى لا يتم الإجهاد. هذه المسافة ما بين مكة والمدينة تُقطع في عشرة. أيام سيراً على الأقدام أو سيراً على الأقدام، نعم، لأنها كانت الطريق مع غبار هكذا أربعمائة كيلومتر، وكل يوم يستطيع الإنسان أن يسير أربعين كيلومتراً، وهذه سموها المرحلة، وجعلوا المرحلتين توجب أو تبيح قصر الصلاة، فالمرحلة من أربعين إلى اثنين وأربعين كيلومتراً أو
شيء كهذا، فتكون المرحلتان أربعة وثمانين كيلومتراً. خمسة وثمانين كيلومتراً، المرحلة تستغرق يوماً، فإذا كانت الأربعمائة ستستغرق عشرة أيام، عندما مكث في غار ثور ثلاثة أيام، ويوم الخروج ويوم الدخول، ونزل في قباء وهكذا، فهم خمسة عشر يوماً تقريباً استغرقها، لكن عندما عاد مرة أخرى من المدينة إلى مكة فاتحاً، ولأنهم كانوا يسيرون بقوة وانتظام وعدم. توقف وكذلك إلى آخره، وهم فرسان في هذه الحال، استغرقها في عشرة أيام لأنه خرج في اليوم العاشر من رمضان من المدينة ووصل مكة في اليوم العشرين من رمضان الذي هو يوم الفتح، فأخذ هنا عشرة أيام فقط أو أقل قليلاً. هنا استغرق خمسة عشر يوماً لهذه الأسباب، لالتواء الطريق. وكذلك إلى آخره،
إذاً فهناك هذا حكم وجوب التدبير والأخذ بالأسباب، وإنني قد ألجأ إلى الطريق الطويل وأترك الطريق القصير لأن الطريق الطويل فيه فوائد أكثر من الطريق القصير. نعم، بعض الناس لا يفعلون هذا. هذه حكمة، يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. جَرِّدِ الْمَسْأَلَةَ تَجِدْهَا غَايَةً فِي الْحِكْمَةِ، يَعْنِي يَقُولُ لَكَ: تَدَبَّرْ أَمْرَكَ، وَاعْمَلْ خُطَّةً. كَانَ سَيِّدُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدَّخِرُ قُوتَ عَامٍ لِأَهْلِهِ، لِلْأُسَرِ هَذِهِ يَدَّخِرُهَا قُوتَ عَامٍ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُ إِلَّا أُسْبُوعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، يَعْنِي لَا تَتَعَدَّى الشَّهْرَ،
لِأَنَّهُ كَانَ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. فكان كل من يسأله إذا كان يخطط، فلا بد من التخطيط. المشي ليس كما يظنه كثير من الناس أنه توكل، ولكن الهجرة كلها مليئة بالترتيب والتدبير والخطة. ولذلك يجب علينا أن نعود إلى هذا المستوى من التفكير مع حسن التوكل على الله سبحانه وتعالى. جاءت السيدة أسماء وساعدت في التوصيل. الزاد إليه في المرحلة الأولى، فسيدنا رسول الله حينما جاء كانت المرأة في عالم الأشياء وليست في عالم الإنسان، فنقلها صلى الله عليه وسلم من الأشياء إلى الإنسان. لا تتصور ثورة أنها ترس، هذه ثورة على
الجاهلية. كيف تكون المرأة ترساً ولماذا؟ هذه المرأة كانت متاعاً يُنقل ويُباع ويُشترى وهكذا. إلى آخره وهي طفلة يقتلونها، وإذا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بأي ذنب قُتِلَت، فحرّم عليهم ذلك وكذا إلى آخره. وكان يأتي بالسيدة فاطمة عليها السلام ويقول: "ما لكم وما لي، زهرة أشمها". فالمرأة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاملها كإنسان. ولو تأملت رواية القرآن لأصل الخلقة، لعرفت مكانة المرأة. المرأة ليست في الهجرة فقط بل في الإسلام كله. "فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه"، القرآن يقول أن الشيطان أضلّ آدم وحواء. في كتب أخرى تقول: لا، بل أضلّ
حواء فقط، وحواء هي التي أغوت آدم واتفقت مع إبليس. الله عز وجل يقول: "فأزلهما الشيطان عنها" فجعل في أصل... الخلقة قضية الذنب وقضية التكليف وقضية التشريف وقضية الحقوق وقضية الواجبات وقضية المراكز القانونية وما إلى ذلك، كلها فيها مساواة حقيقية، ليس فيها تساوٍ. "وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً"، لكن بالرغم من عدم التساوي إلا أن هناك مساواة. فتبقى إذاً هذه مكانة المرأة التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمنها ويجعلها تأتي بالزاد والمؤونة، وكان من الممكن أن يكلف أحد أصحابه الرجال لهذا. إذاً أنا أمام معين لا ينضب من الجزئيات
التي نريد أن نتأمل فيها لبيان المواقف، لبيان المناهج، لبيان الأحكام الشرعية. وسؤالي أو الحديث الآن لفضيلة الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث عن مجموعة أخرى من العبارة والدروس إضافة إلى حُسن التوكل ومجموعة الدروس التي ساقها لنا مفتي الديار المصرية، أي أن الصبر يأتي دائماً بالنصر والعاقبة دائماً للمتقين، ومجموعة أخرى من الدروس، لو تفصلها لنا. وبلا شك الصبر يمثل قيمة في حياة الإنسان، بل في حياة الشعوب، لا سيما في زمن المحنة الذي تُبتلى فيه. السرائر وتتميز فيه المواقف ما بين التفاعل مع الحدث وما بين التسليم والسكون تحت مجاري أحكامه سبحانه وتعالى رضاً باختياره أو ثقة بموعوده. ولعل ابن الجوزي يشير إلى هذا المعنى في
صيد خاطره يقول: "ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله، فإن العارف بالله مستأنس به". في خلوته أُنعمت عليه نعمة علم من أهداها، وإن مر عليه ما هو مر حلا مذاقه في فمه لمعرفته بالمبتلي. وإن سأل فتأخر مقصوده صار مراده ما جرى به القدر، علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة وثقته بحسن التدبير. فإيمان الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى حكيم، وبأن الله غير متهم على عباده فيما يجريه. عليهم من شؤونه التقديرية وإن كانت مخالفة للطبع في الإنسان. إيمان الإنسان بهذه القضية هو من دواعي استكانته في باب الله سبحانه وتعالى لا سيما عند الأزمات، كما قال سبحانه: "ولقد أخذناهم بالعذاب". وانظر إلى جمال الالتفات في الآية، كان من الممكن أن يقول: "فما استكانوا لنا"، مع
أن الأسلوب أسلوب. تكلم، ولقد أخذناهم. المتكلم هو الله، ولقد أخذناهم بالعذاب. كان من الممكن أن يقول: "فما استكانوا لنا"، إنما حصل التفات إلى الغيبة إلى ذكر الربوبية التي هي مظهر الإنعام ومظهر الإمداد، فقال: "فما استكانوا لربهم". أي أن استكانة العبد في وقت الأزمات ليست لعدل وليست لند وليست لخصم وليست... إنما هي استكانة لرب العالمين الذي قدَّر فهدى، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي لا ينبغي أبداً أن يُتَّهم على عباده فيما يواجهون به من تلك الأحداث أو من تلك الصروف أو الظروف. نعم، هذه قيمة من الدروس أيضاً في الهجرة: وجوب التحمل بتبعات الأمر فيما أُقيم. الإنسان فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة هاجر بنفسه
كما أُرسِل له في الإسراء والمعراج، لكن الشأن مختلف. مسألة الإسراء والمعراج هذه هي مسألة رحلة تكريمية، يعني أبرز الله من خلالها وتسريعاً للنفس شرف مكانته صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عنده، لكن الهجرة الشأن فيها هو. التحمل والشأن فيها أن يدرك الإنسان بأنه مُبتلى في هذا الأمر أي ممتحن ومختبر في هذا الأمر، وهناك حكمة أخرى لعلها تصدق على اختياره صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه الصديق إحدى الراحلتين فأبى إلا أن يأخذها بالثمن. يا سلام! لتكون الهجرة من خالص ماله صلى الله عليه وسلم. ومن
خالص جهده ولم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يهاجر بطريقة لكي يقال إن محمداً هاجر إلى المدينة أرسل الله له براقاً، أما نحن فنحن الذين تحملنا أعباء السفر ومشقة السفر، فنأخذ من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يشارك أصحابه في كل ما كانوا. يؤدونه من الأدوار، وهذه قيمة ينبغي أن نتمثلها في القائد الحكيم الرشيد الذي يخشى الله سبحانه وتعالى، والذي يؤدي ما أُنيط به من المسؤولية. فهذه قيمة أو هذا قدر في حياة الإنسان لا ينبغي أن نغفله في كل ما يأتي وفي كل ما يذر في شؤونه، في دوره الذي أُنيط به أو في عمله الذي يؤديه، حتى البعد النفسي هنا بارز عندما
وقف النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إلى مكة وقال: "الله يعلم أنك أحب أرض الله إلى الله، وأنك أحب أرض الله إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت". هذا يشير إلى البعد النفسي، يعني النبي. صلى الله عليه وسلم يعني لم يهجر، وهذا الفرق بين الفعل "هاجر" والفعل "هجر"، فالهجر يكون عن قلة، لكن المهاجر من باب "فاعل" لا يكون عن قلة. فهو صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة عن قلة أي عن بغض لها، ولكنه هاجر إلى المدينة التي هي مهاجره. صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من دعائه: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد". فهذه دعوة تدل على أنه ما فارق مكة زهداً فيها ولا رغبةً عنها، وإنما هاجر لِما أصابه ولِما
أصاب أصحابه من التضييق، إذ ضيقوا عليهم كل السبل. وضربوا عليهم الحصار بضع سنين فكان من حرصه صلى الله عليه وسلم على سلامة أصحابه وعلى سلامة الوجود الإسلامي أن أمر أصحابه بالهجرة فأرسلوا فهاجروا أرسالًا أو جماعات ومنفردين وبقي هو صلى الله عليه وسلم لا وهذا لم ينته بعد حتى يرجع هو لم يخرج أولًا لم يخرج أولًا ولو شاء لصحب الفاروق ولكن لأن يقال أنّ محمداً خرج في حماية أو في منعة، خرج في حماية عمر بن الخطاب، وإنما خرج في صحبة هذا الرجل الذي عُرف بالرفق وعُرف بالضعف بين القوم، خرج معه ليؤكد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معتمداً في خروجه إلا على... سابق
الوعد كما في قول "إلا تنصروه فقد نصره الله"، ولم يقل سبحانه: "لم يأتِ بالجواب هنا"، والشرط موضوع للمستقبل. لم يقل "إلا تنصروه ينصره الله"، أي لم يكن نصر الله له نتيجة للتخاذل عن نصرته، لأنه ما ينبغي أن يتأخر أو أن يتخلف نصر الله للنبي حتى يقع التخاذل. من أصحابه أو ممن حوله، وإنما أتى بجملة خبرية زمنها في الماضي مع أن الشرط موضوع للمستقبل، نعم، لكنه قال: "فقد نصره الله"، فقد نصره الله أي فهو غني عن نصرتكم بنصرته سبحانه وتعالى الذي نصره إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما، وهذا يشبه قوله تعالى وأن. وإن تتعاونوا عليه فإن الله هو مولاه. يعني سألني شاب: كيف هذا الاحتشاد من أجل امرأتين؟ تعاونوا على هذا الاحتشاد.
قبل التعاون، قبل التعاون يقول: "وإن تتعاونوا عليه فإن الله هو مولاه". هذه جملة خبرية "فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير". لهذه العناية الكبرى بالنبي. صلى الله عليه وآله وسلم كان ثابت الجأش، كان مطمئناً، كان ساكناً إلى اختيار الله سبحانه وتعالى في شأنه كله، حتى أنه قال مقفله من الطائف بعد أن فعل به ما فعل: "إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي". شكراً جزيلاً فضيلة الشيخ. محمد رافض ينتقل للحديث مع فضيلة مفتي الديار المصرية وكيف كانت الهجرة إلى المدينة هي بداية حقيقية لبناء الدولة الإسلامية. فضيلة المفتي: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ووصل إلى المدينة بنى الدولة. نعم، الدولة أساسها
المال. نعم، لما لم يكن هناك مال في مكة لم تُبنَ الدولة. بل ولم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني دولة، فالدولة لها مقتضيات لأنها دولة مؤسسات، ولأنها دولة فيها نظام. ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن المال مهم، ولذلك أمرنا بالحفاظ عليه، وإلا كما ورد في القرآن: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، المال لما جاء. في المدينة فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين وكوَّنوا دولةً محورُها هو كتاب الله، نعم، وسنة سيدنا صلى الله عليه وسلم هي المذكرة التفسيرية المعصومة في تطبيق ذلك المطلق في
واقع الناس. ولذلك لا معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حفظه الله سبحانه وتعالى. والله يعصمك من الناس، فحفظه وعصمه وجعله ركناً ركيناً من الأخذ، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. قامت الدولة على محور وهو القرآن الكريم، هذا القرآن الكريم خُدِم بالسنة وجعلناه محوراً بمعنى أن منه الانطلاق وإليه العود وله الخدمة وبه التقويم، يعني كيف نعرف الخير من الشر من... القرآن كيف نعرف الحق من الباطل من القرآن، كيف نعرف نسير أو لا نسير من القرآن، والقرآن عندما تكلم تكلم بقواعد عامة ومبادئ عامة وسنن كونية إلهية ربانية خلقها الله سبحانه وتعالى في
الآفاق وفي الأنفس وفي التاريخ. الله سبحانه وتعالى علمنا الفكر المستقيم فلا بد في الدولة من الفكر. المستقيم، ونحن في هذه الأيام التي نستشرف فيها المستقبل، نريد فكراً مستقيماً، ونريد حفاظاً على هويتنا. وهويتنا كما سبق أن ذكرنا مرات هي العروبة والإسلام. هذا بلد تشبع بالعروبة والإسلام عبر القرون من غير قهر ومن غير إكراه، ولذلك فهي هويته التي لو أراد المتلاعبون أن يتلاعبوا بها فشلوا وأفشلوا. البلاد والعباد معهم. لماذا ليس هذا تعصباً للعربية ولا تعصباً للإسلام؟ هذا حكاية حال، هذا شعب ينتمي إلى العروبة وينتمي إلى الإسلام قطعاً في كله حضارة، وفي معظمه وأغلبه ديانة. إذاً كيف تتناسى
هذا وتقول إنك وطني؟ يعني سننشئ شعباً غير الشعب ووطناً غير الوطن من أجل سمادير السكرانين؟ هذا! كلام لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين، نحن أمام شعب يمكن أن نفجر فيه الطاقات من خلال هويته. هذا درس كبير جداً من دروس الهجرة في بناء الدولة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى الدولة بناها أيضاً على المواطنة كصحيفة المدينة، وفي صحيفة المدينة واضح المواطنة نحن. أمامنا أربعة نماذج تركها لنا رسول الله: نموذج مكة وكيف نعيش في وسط أناس يكرهوننا، ونموذج الحبشة وكيف نعيش في بلاد غير بلادنا وهم يوفرون لنا الأمن والأمان ويقبلوننا،
وكيف نعيش في بلد إسلامي متنوعين إخوة متحابين، لنا ما لهم ولهم ما لنا، وعلينا ما عليهم وعليهم ما علينا. ما حدث في المدينة أولاً ثم في المدينة ثانياً حدث بعد خيانة اليهود وبعد طردهم والأحكام القضائية التي صدرت ضدهم. أصبحت الغالبية العظمى الكاسحة في المدينة هي للمسلمين. هذه النماذج الأربعة يعيش بها المسلم حياته في العالم كله إلى يوم الدين، ولذلك فالهجرة فيها ما فيها من دروس ونرجو الله. سبحانه وتعالى أن يجعل سيدنا دائمًا إمامًا لنا في الهداية وشفيعًا لنا في الآخرة.
شكرًا فضيلة المفتي. في ختام هذا اللقاء، أيها الأحباب في الله، نتقدم بخالص الشكر والتقدير للضيوف الكرام: فضيلة مفتي الديار المصرية العلامة الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة، وأيضًا فضيلة الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث عضو الرابطة. العالمية لخريج الأزهر، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ محمد ونشكركم أيضًا على حسن المتابعة. ولعلنا نتوقف عند مجموعة من العبر والدروس أوضحها علماؤنا الأجلاء عن الهجرة النبوية المشرفة لرسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي أكدت لنا أن الهجرة ليست فقط ترك الأوطان ولكنها هجر المعاصي. نترككم في أمان الله ورعايته ونلقاكم. على