وصايا الرسول | حـ 29 | أ.د علي جمعة

وصايا الرسول | حـ 29 | أ.د علي جمعة - سيدنا محمد, وصايا الرسول
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة من وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. نختم هذا الشهر الكريم بما ختم به. رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصاياه في حجة الوداع وصية جامعة
نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون لنا نبراساً في حياتنا وأن يفيق أهل الغفلة من غفلتهم وأن يدركوا مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن العبادة لله ومن حسن عمارة الأرض ومن حسن تزكية النفسُ ووسيلةُ ذلك ذِكرُ اللهِ كما ذكرَنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فيما يَرويهِ الرُواةُ منهم جابرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُ، يقولُ في حَجةِ الوداعِ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في حَجةِ الوداعِ: "إنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم بينَكم حرامٌ كحُرمةِ
يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا". ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه ولا يجني والد على ولده ولا مولود على والده. متفق عليه. صلى الله عليه وسلم. العلماء عندما تأملوا الدين واستنبطوا قواعده ومناهجه وما وراء ألفاظه من نصوصه ومن تفسيرها وجدوا إن هناك ما يسمى بمقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة أول ما تحافظ تحافظ على بنية الإنسان ثم على عقله حتى يدرك التكليف. بنية
الإنسان حتى يعمل، لأنه لو هلك، من الذي سيصلي؟ من الذي سيعمر؟ من الذي سيزكي؟ ذهب، مات، راح. ولكن أول شيء هو حفظ النفس، ثم بعد حفظ النفس. يأتي حفظ العقل لأن الإنسان غير العاقل لا يوجه إليه خطاب ولا تكليف ولا أمر ولا نهي، ثم بعد حفظ العقل حتى يدرك الإنسان مراد الله من أوامره ومن نواهيه وكيف يطبقها، يأتي الدين الذي فيه قوام الإنسان، والدين فيه قداسة للزمان وللمكان وللأشخاص وللأحوال، فنحن
نقدس القرآن ونقدس الكعبة. المشرفة ونقدس سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ذُكر أمامنا نقول صلى الله عليه وآله وسلم، ونقدس ليلة القدر، ونقدس شهر رمضان. عندنا الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، نقدس الدعاء والذكر، ولذلك هذا حديث جامع يبين لنا مقاصد الخلق، مقاصد الرب من الخلق: حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ الدين وحفظ. العرض وكرامة الإنسان كنا نسميها قديماً بالعرض، والآن في الأدبيات الحديثة يسمونها كرامة الإنسان، والمال. وهذا
هو ما يذكره لنا رسول الله في هذا الحديث المبارك: أن دماءكم (النفس)، وأموالكم (الملك والمال)، وأعراضكم (كرامة الإنسان). ويتبقى العقل الذي هو مناط التكليف، ويتبقى الدين الذي حرَّم الله فيه وقدَّس لنا الزمان. والمكان والأشخاص والأحوال بينكم حرام كحرمة يومكم هذا. يتحدث عن الزمان في شهركم هذا في بلدكم هذا، يتحدث عن المكان. لا يجني جانٍ إلا على نفسه. أي أن فكرة ونظرية الجريمة والعقاب هي أن كل من سيرتكب الجريمة سوف يعاقب، ولكن هذا العقاب درءاً
للجريمة ومنعاً لها، لعل الناس تخاف من ذلك. إيقاعهم للجريمة وفسادهم في الأرض في العدوان على الدماء بالقتل، وفي العدوان على الأموال بالسرقة، وفي العدوان على الأعراض بالفاحشة، وفي العدوان على العقل بشرب المسكرات، وفي العدوان على الدين بتشويش وتشويه صورة الإسلام والمسلمين. ولا يجني والد على ولده ولا مولود على والده، فإذاً لا تزر وازرة. وزر أخرى يبقى إذا كل وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك ليس كتاب أخيك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل
امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه لا تزر وازرة وزر أخرى لا يتحمل الإنسان خطيئة أبيه ولا يحمل الإنسان خطيئته لابنه استقلال ذاتي، وهذا الاستقلال الذاتي سيؤدي إلى ما نسميه الأخلاق النشطة. سيؤدي إلى احترام النفس، وسيؤدي إلى تحمل المسؤولية، وسيؤدي إلى أنه مَن تواضع لله رفعه. سيؤدي إلى الصدق مع الله ومع الناس ومع النفس، وسيؤدي إلى الإخلاص. سيؤدي إلى مجموعة كبيرة جداً مما نسميه بالأخلاق. النشطة وصية جامعة أمرنا فيها بعدم العدوان على الدماء وبعدم العدوان على هذه الخمسة المقدسة من المقاصد
الشرعية وبعدم إخلال المصالح المرعية وباعتبار المآلات حتى نضع أقدامنا في أماكن معروفة معلومة، كل هذا في هذه الوصية الخاتمة التي ختم بها حجة الوداع والتي نختم بها لقاءنا في هذا الشهر الجليل. الكريم عسى أن تتحول وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا في مسيرتنا وفي طريقنا إلى الله إلى برنامج عملي نلتزم به جميعاً، وتصل هذه الكلمات، ونرجو الله أن تكون قد خرجت من القلب إلى قلوب الناس، لأن ما خرج من اللسان وقف عند الآذان، وما خرج من القلب وصل إلى القلوب. وصل إلى الفؤاد
والجنان فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يرحمنا، فاللهم يا ربنا ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، ضم مسيئنا لمحسننا، واغفر لنا جملة واحدة، وتقبل منا صيامنا وقيامنا وذكرنا ودعاءنا وتلاوتنا وصدقتنا وزكاتنا وسائر صالح أعمالنا، وانقلنا من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك، وافتح علينا. افتح لنا يا رب فتوح العارفين بك وعلِّمنا الأدب معك واسلك بنا الطريق إليك وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إن هذا الشهر الكريم أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار،
فاعتق قلوبنا وعقولنا وأنفسنا من النار يا أرحم الراحمين. ربنا إننا في حاجة إليك ولست في حاجة إلينا فاغفر لنا ذنوبنا. وكفّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار واحشرنا تحت لواء نبيك يوم القيامة واسقنا من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً ثم أدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم واجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وحزننا ونور أبصارنا وصدورنا واجعله اللهمّ اجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا. اللهمّ كن لنا ولا تكن علينا، فارحم حيّنا وميتنا، وحاضرنا وغائبنا، وارزقنا رزقاً واسعاً، وعلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، وعيناً من خشيتك دامعة، ونفساً قانعة، وشفاءً
من كل داء. وصلّ اللهمّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كل عام وأنتم بخير، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.