إذا اختلفت الفتاوى فأي رأي يعمل به؟ | أ.د. علي جمعة

إذا اختلفت الفتاوى فأي رأي يعمل به؟ | أ.د. علي جمعة - فتاوي
يسأل سائل فيقول إذا اختلفت الفتاوى فأي رأي يُعمل به؟ تكلم العلماء عن أدب المستفتي وقالوا أنه لو استفتى عالماً لا يستفتي آخر ويكتفي بذلك لأن العامي لا مذهب له بل مذهبه مذهب مفتيه. أما أن يأتي بالفتوى ويلف بها على العلماء ويأخذ من كل واحد فتواه ثم يضطرب لا. لديه قواعد الاختيار الفقهي ولا يملك آلية للترجيح بين الآراء ولا يملك قدرة على النظر إلى الدليل ولا شيء، إنما هو عمى يضطرب.
ولذلك أولاً وقبل كل شيء فإنه لا يسأل إلا واحداً، واجعلها في رقبة عالم واخرج أنت منها سالماً. وتقليد أحد الأحبار من أهل المذاهب العظمى جائز باتفاق. الأمة أما المفتي فله في عصرنا أن يتخير بين المذاهب المختلفة بما علمه الله سبحانه وتعالى من العلم وبما جعله يدرك الضوابط الشرعية المرعية للاختيار الفقهي والتي كانت تسمى في أصول الفقه قديماً بالتلفيق ولها شروط مذكورة في الأصول وهذا
الاختيار الفقهي يراعي فيه مصالح الناس ويراعي فيه المآلات المعتبرة. حتى لا تقر الفتوى بظروف عصرنا على الديانة بالبطلان، وحتى لا يُصوَّر الإسلام تصويراً مشوهاً، فكل ذلك يتيح الانتقال من المذهب الذي قد أعمل به في خاصة نفسي عندما أُسأل من الأمة بالاختيار الفقهي، فأنتقل من مذهب إلى آخر، ولكن هناك حالة ثالثة وهي شيوع ذلك من غير طلب من المستفتي في السماء المفتوحة
من الفضائيات ومن بلاء العصر من الإنترنت فإنه يستمع لموعظة في الدين فيرى رأياً في الفقه فيستمع إلى موعظة أخرى فيرى رأياً آخر دون أن يكون له سعي التردد والانتقال من عالم إلى عالم ولا من مذهب إلى مذهب وهو عامي إذا فهذا عليه أن يعلم تلك الضوابط الثلاث التي وضعها العلماء في كتبهم، منهم الإمام السيوطي في قواعده المسمى بالأشباه والنظائر، ومنهم الإمام البيجوري شيخ الإسلام في حاشيته على ابن القاسم على شرح أبي شجاع، وتتلخص في أنه إنما
ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فإذا كان الأمر متفقاً. عليه بين المسلمين كحرمة الخمر ووجوب حجاب المرأة ونحو ذلك مما اتفق عليه الشرق والغرب والسلف والخلف بكل طوائف المسلمين وفرقهم عبر التاريخ حتى صار ذلك معلوماً من الدين بالضرورة وحتى صار ذلك اتفاقاً عاماً يمثل هوية الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عن المتفق عليه بهذه الصفة كهذه الأمثلة أما لو حدث خلاف بين الأئمة المجتهدين من قراءة البسملة في الفاتحة أو عدم قراءتها أو الجهر بها أو عدم الجهر بها أو القنوت في الفجر من
عدمه إلى آخر هذه المسائل التي كثيرا ما يختلف الأئمة فيها لاختلافهم بأسباب تصل فوق الثلاثين فإنه يجوز أن يقلد من يشاء وهو لم يَسعُ للسؤال ولم يَسعُ أيضًا للانتقال الذي نُهينا عنه في الخطوة الأولى، بل إنه أُلقي عليه كلام متضارب بين العلماء. إنما يُنكر المتفق عليه ولا يُنكر المختلف فيه، حتى إذا ما رأيت أحدهم يقع في المختلف فيه فلا تنكر عليه وإن خالف مذهبك أو اختيارك؛ لأنه لا يُنكر المختلف فيه.
الأمر الثاني يقول على ما أورده الإمام البجيرمي في حاشيته أن من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليقلد من أجاز ذلك، تكلم عندما شاع في الأوساط تقليداً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في جواز جعل آنية الفضة حاملاً لفنجان القهوة، فأبو حنيفة يجيز هذا لأنه لا يشرب في الحامل إنما. يشرب
في الفنجان الذي هو من الخزف، إذاً فهو لا يشرب في الفضة وينهى عن ذلك الشافعية. وبناءً عليه حدث خلاف داخل كل أسرة؛ الأب والأم يريدون أن يشربوا بحامل الفضة، والولد عائد من المسجد حديثاً وقد سمع الشيخ يقول إن هذا حرام. فعرضوا الأمر على الإمام الباجوري فقال: "من ابتلي" يعني... أبي وأمي يفعلان هكذا، ماذا سنفعل؟ من ابتلي بشيء من ذلك فليقلد من أجاز. إذاً إذا كان هناك مرونة فلا يوجد عدوان على الأسرة ولا على الأب ولا على الأم، وهذا لا يقدح حتى في انتمائك الشافعي،
وإنما يسهل الحياة على المسلمين. من ابتلي بشيء من ذلك فليقلد من أجاز، أما... الثالثة فهي مبناها الاحتياط، والاحتياط يأتي من الاشتباه، والاشتباه على ثلاثة أنواع: اشتباه في المحل، والاحتياط فيه واجب. دجاجة أمامي ولا أعرف هل هي مذبوحة أم مخنوقة أم ميتة أم ما هي القضية. الاحتياط واجب، وهذا ما شاع بين الناس، يقولون في الأمثال: الاحتياط واجب. فالاحتياط إذا كانت... الشبهة شبهات محل واجب والفاعل
الاشتباه في الفاعل، هذا يعني أن هناك صورة ذهنية قائمة في عقلي مخالفة للحقيقة، فظننت أن هذا السائل عصير فكان خمراً. لا أستطيع أن أتحرز من هذا لأنه ليس عندي إدراك ولا وعي بحقيقته، فإذا شربته فليس هناك تكليف أصلاً. هذا خطأ وإذا شربته على هذه الهيئة فلا إثم عليّ، لماذا؟ لأنني غير مدرك، أنا لا أعرف. رجل
تزوج وبعدما أنجب طفلاً واثنين وثلاثة، تبيّن أن زوجته أخته من الرضاعة. ماذا يفعل؟ الأولاد يُنسبون إليه، ويصبح هذا وطء شبهة وليس حراماً، لأنه لو كان قاصداً، وإنما الأعمال بالنيات، لكان حراماً وباطلاً، لكنه... لم يقصد، إذاً فهو في شبهة الفاعل، ولا احتياط فيها. الثالث: شبهة المذهب. أبو حنيفة يقول: حينما تسلم على الأجنبية لا تتوضأ ولا شيء، اذهب وصلِّ، جائز، لم يحدث شيء. جماعة الشافعية يقولون لك: لا، يجب أن تتوضأ وقد انتقض وضوؤك. يا سيدي، هذه زوجتي! قال لي: زوجتك
ليست زوجتك ما دامت أجنبية. يجب عليك أن تذهب للوضوء يا أخي. تأتيني مرتدياً القميص المكوي والأساور مكوية وواضعاً المانشيت وما إلى ذلك، وتسلم على امرأة ثم تقول لي: "هكذا أنا لا أعرف كيف أتوضأ"! حقاً لم أصلِّ منذ أن ابتُليت بشيء من ذلك، فليقلد من أجاز. فاحتياطه مستحسن، مستحسن هنا عند الخلاف، يكون أفضل. إن نخطط للذهاب للوضوء إن كان ذلك مقدوراً، وإن كانت هناك بلوى نقلد من أجاز لأن العامية لا مذهب لها،
فنحن إذاً على ثلاثة أنحاء: أولاً لا ننتقل بالفتوى بين العلماء بل نجعل من نثق فيه في ديننا هو مصدر فتوانا، ثانياً على المفتي أن يتخير. للناس ما هو صالح: ثالثًا، مَن وقع في حيرة الخلاف بين الآراء فعليه هذه الثلاثة يحفظها: أنه إنما يُنكر المتفق عليه ولا يُنكر المختلف فيه، وأنه من ابتُلي بشيء من المختلف فيه يُقلِّد مَن أجاز، وأن الاحتياط مستحسن، إن احتياط الاحتياط الذي هو في المذهب وليس الذي هو في
المحل. الاحتياط في المحل واجب وأظن أن هذا يكفي وفتح الله عليكم أن تحفظوه