استقبال شهر شعبان | أ.د علي جمعة

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدنا رسولِ اللهِ وآلهِ وصحبهِ ومن والاهُ. السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، وكلُ عامٍ ونحنُ جميعاً بخير. دخلَ شعبانُ تهيئةً لرمضان، فاللهمَ يا ربَنا بلغنا رمضان، وهيئنا لرمضان، واجعلنا ممن يعبدونكَ حقَّ العبادة، ويذكرونكَ حقَّ الذكرِ في شعبانَ وفي رمضانَ وفي... سائر الأيام وأقبلنا عندك يا ربنا قبول الصالحين المهديين الذين ترضى عنهم. اللهم يا ربنا استجب
دعاءنا وارحم ضعفنا واغفر ذنبنا واستر عيبنا ويسر لنا أمورنا يا أرحم الراحمين. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر شعبان أكثر من باقي الشهور كما في حديث عائشة رضي الله في شعبان يتهيأ المرء لرمضان سواء بالصيام أو الإفطار، فإذا لم يكن للإنسان عادة في الصيام وجاء النصف من شعبان ولم يصم ولم تكن له عادة، فإنه لا يصوم وجوباً عند الشافعي إلى رمضان تهيئةً لرمضان. وهذا يدلنا على أن العبادة ليست
هي الفعل وحده، بل قد تكون الترك أيضاً عبادة، فعندما تترك المرأة في زمن حيضها الصلاة والصيام فهي تعبد الله، وحينما يرتفع عنها الحيض والنفاس وعوائق هذه العبادات فترجع مرة أخرى للصلاة والصيام والطواف في العمرة أو الحج فهي تعبد الله. فالعبادة قد تكون بالفعل وقد تكون بالترك. استقبل أهل مصر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واستقبلوا صحابته الكرام حتى أن أكثر من ثمانين صحابياً
قد عدَّهم السيوطي في كتاب لطيف الله اسمه "درُّ السحابة فيمن نزل مصر من الصحابة"، عاشوا في مصر وانتسبوا إلى مصر وماتوا في مصر. كذلك أهل البيت الكرام، وشعبان يذكرنا دائماً بمن ورد إلينا من أهل البيت منهم. سيدنا الحسين فإنه وُلِدَ في الرابع من شعبان، ومنهم السيدة زينب أخت الحسين وبنت علي والسيدة فاطمة عليها السلام، وقد وُلِدَت في أواخر رجب. كل هذا الحال في شعبان، وهو يذكرنا بأهل البيت الكرام، ويذكرنا أيضاً بحب
أهل مصر لآل البيت. هذا الحب الذي شهد به القاصي والداني. شعبان فيه... تحولت القبلة ويحاول المسلمون في حضارتهم أن يحولوا المواسم إلى أيام يحتفلون بها تطبيقاً لقوله تعالى: "وذكرهم بأيام الله"، وهذا التطبيق لهذا القول الرباني يأتي في الاحتفال بأول السنة الهجرية وبيوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى، وبالمولد النبوي الشريف، وبليلة الإسراء والمعراج، وكذلك بنصف شعبان والذي فيه استجاب ربنا.
سبحانه وتعالى لمراد النبي ورغبته في تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة حين صلاته يستقبل البيت الحرام ومعه بيت المقدس، وكانت القبلة إلى بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء. بعد ذلك، ولما ذهب إلى المدينة، صار بيت المقدس في جهة الشمال وصار بيت الله الحرام الكعبة في جهة الجنوب وهنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل في ذلك قرآناً: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها". قبل
ذلك قام الله سبحانه وتعالى بتوجيه وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وهي قبلة الدعاء من أجل أن يحول القبلة، وكان ذلك في النصف من شعبان. أيضاً كان شهراً للبطولات التي خاضها المسلمون عبر التاريخ، كان هناك أيام انتصر فيها المسلمون في شعبان. فالحمد لله الذي بلغنا شعبان، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا رمضان. شعبان بعد شهر محرم هو رجب بالأصم والأصب والفرض،
وبعده شهر نزل فيه القرآن. ومن أجل ذلك أمرنا بصيامه وبقيام ليله، أمرنا الله بالصيام نهاره وسنّ لنا رسوله صلى الله عليه وسلم قيام ليله. شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه. أمرنا الله بصيام رمضان تعظيماً لهذه الليلة العظيمة التي نزل فيها القرآن، إنا... أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم. فشعبان وقع بين شهر
محرم وشهر رجب الذي سُمي بالفرد لأنه متفرد عن الثلاثة الشهور المتتالية: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، وسُمي فيه الأصم لأنه وحده، وسُمي فيه لأنه فيه تصب الرحمات وبين رمضان الذي عظمه الله سبحانه وتعالى بنزول القرآن فيه، فشعبان تشعب فيه الخير، شعبان هو التهيئة لشهر عظيم ولليلة مباركة إنما هي عند ربنا سبحانه وتعالى كألف شهر، يعني أكثر من ثمانين عاماً، العبادة فيها والدعاء فيها والذكر فيها يعدل كل هذه المدة توفيراً
على المسلم الذي قصرت أعماره فكانت بين الستين والسبعين في غالب الأمر مقارنةً بما كان في الأمم السابقة من طول الأعمار كسيدنا نوح ونحوه من الأنبياء. شعبان هيئ فيه نفسك من أجل أن تصوم صوماً صافياً جميلاً، هيئ فيه نفسك لأن تقرأ القرآن الكريم وتختمه، هيئ فيه نفسك على الذكر. الله سبحانه وتعالى هيّأ فيه نفسك على العبادة وابدأ بها من الآن، فشعبان هو مدخل وتهيئة لرمضان
حتى إذا دخلت وجدت نفسك متدرباً على هذه الأفعال من أفعال الخير من ذكرٍ ومن تلاوةٍ ومن دعاءٍ ومن صلاةٍ ومن صيامٍ ومن فعل الخير ومن التصدق بمجهودك وبمالك، هيّئ نفسك من... أجل رمضان فإنه قد قرُب، فاللهم بلغنا رمضان. كل عام وأنتم بخير، وإلى لقاء آخر. أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.