الأربعين في أصول الدين للإمام الغزالي | المجلس التاسع| أ.د علي جمعة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته السلام عليكم السلام ورحمة الله وبركاته إلى أين وصلتم يا شباب إلى علاج العُجب؟ أنتم لم تبدأوا بعد. قمنا بقرارنا إذن تحقيقه في المسجد. طيب تفضلوا ابدأ. الأصل التاسع في العُجب، الأصل التاسع في العُجب. قال الله تعالى: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم" الآية. وقال عز وجل: "وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً"، وقال تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع،
وإعجاب المرء بنفسه"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الهلاك في اثنين: القنوط والعجب"، وإنما جمع بينهما لأن القانط لا يطلب السعادة. لقنوطه والمُعجب لا يطلبها لظنه أنه قد ظفر بها، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لخفتُ عليكم ما هو أعظم من ذلك، العُجب العُجب". وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئاً؟ فقالت: "إذا ظن أنه مُحسن". ونظر رجلٌ إلى بِشر بن منصور وهو يطيل الصلاة ويُحسنها. العبادة، فلما فرغ قال: "لا يغرنك ما رأيت مني، فإن إبليس عبد الله تعالى وصلى آلاف سنين، ثم صار إلى ما صار إليه". فصل في بيان حقيقة العجب: حقيقة العجب استعظام النفس
وخصالها التي هي من النعم والوقوف إليها مع نسيان إضافتها والأمن من زوالها، فإن انضاف إليه أن رأى... لنفسه عند الله حقاً ومكانةً سُمي ذلك إدلالاً، وفي الخبر إن صلاة المدل لا ترتفع فوق رأسه، وعلامة إدلاله أن يتعجب من رد دعائه ويتعجب من استقامة حال من يؤذيه، والعجب هو سبب الكبر، ولكن الكبر يستدعي متكبراً يستدعي متكبراً عليه، والعجب يتصور على الانفراد، أما من رأى نعمة الله على نفسه بعمل أو علم أو غيره وهو خائف على زواله وفرح بنعمة الله تعالى عليه من حيث إنها من الله تعالى فليس بمعجب، بل المعجب
من يأمن وينسى الإضافة إلى المنعم. فصل في بيان علاج العجب: العجب جهل محض، فعلاجه العلم المحض، فإنه إن أعجب بقوة وبمال وجمال أو... أمر مما ليس يتعلق باختياره فهو جهل أيضاً إذ ليس ذلك إليه، فينبغي أن يعجب بمن أعطاه ذلك من غير استحقاق، وينبغي أن يتفكر في أن زوال ذلك مخوف على القرب بأدنى مرض وضعف. وإن أعجب بعلمه وعمله وما يدخل تحت اختياره، فينبغي أن يتفكر في تلك الأعمال بماذا تيسرت. له وأنها لا تتيسر إلا بعضو وقدرة وإرادة ومعقولة وأن جميع ذلك من فوق الله عز وجل وإذا خلق الله تعالى العضو والقدرة وسلط الدواعي
وصرف الصوارف كان حصول الفعل ضروريًا فليس للمضطر أن يعجب بما يحصل منه اضطرارًا إذ هو مضطر إلى اختياره فإنه يفعل إن شاء أو لم يشأ مهما خُلقت فيه المشيئة، قال الله تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"، فمفتاح العمل انجزام المشيئة وانصراف الدواعي الصارفة مع كمال القدرة والأعضاء، وكل ذلك بيد الله تعالى. أرأيت لو كان بيد ملكٍ مفتاح خزانة، فأعطاك إياه، فأخذت منها أموالاً، أتعجب بجوده إذا أعطاك المفتاح بغير استحقاق
عطية؟ من العجائب الأخرى أن يعجب العاقل بعلمه وعقله حتى يتعجب إن أفقره الله العلم والعقل وحرمهما الجاهل، فهذه عطية منه، أفتجعلها سبباً لاستحقاق عطية أخرى؟ بل لو جمع لك بين العقل والغنى وحرم الجاهل منهما جميعاً لكان ذلك أولى بالتعجب، وما تعجب العاقل منه إلا كتعجب من أعطاه الملك فرساً وأعطى... غيرته غلاماً فيقول: كيف يُعطي الغلام لفلان وليس له فرس، ويحرمني وأنا صاحب الفرس؟ وإنما صار صاحب
الفرس بعطائه، فيجعل عطاءه سبباً لاستحقاق عطاء آخر، وهذا عين الجهل. بل العاقل يكون أبداً تعجبه من فضل الله تعالى وجوده، حيث أعطاه العلم والعقل ووفقه للعبادة من غير تقدم استحقاق منه، وحرم. غيرَه ذلك وسلَّط عليه دواعيَ الفساد واضطرَّه إليه بصرف دواعي الخير عنه، وذلك بغير جريمة سابقة منه. وإذا شاهد ذلك تحقيقاً، غلب عليه الخوف، إذ يقول: "قد أنعم الله عليَّ في الدنيا من غير وسيلة، وخصَّني به دون غيري، ومن يفعل مثل هذا بغير سبب فيوشك أن يعذب ويسلب النعم". أيضاً بغير جناية وسبب، فماذا أصنع إن كان ما أفاضه عليَّ من النعم مكراً واستدراجاً، كما قال تعالى: "فتحنا
عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة"، وكما قال تعالى: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون". فهذا القبيح وهو العجز يعطل كثيراً الإنسان، وهو أمر أيضاً يصعب التعامل. معه لأنه من مجريات الأخلاق اليومية لعموم الناس وهو مثل اللغو بل هو أشد اللغو لا يتخلص منه كثير من الناس إلا من رحم ربي. فكذلك العجب، والعجب مصائبه كثيرة وأغلب البلايا منه. كما أن الكرم هو أساس
الأخلاق الحميدة فإن العجب هو أساس الأخلاق الذميمة. الأصل العاشر، الأصل العاشر. في الرياء قال الله تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون} وقال تعالى: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} وقال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} الآية، وأراد به الإخلاص. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف" إِيَّاكُمْ وَالشِّرْكَ الْأَصْغَرَ. قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَى الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ:
اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاءَ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: يُقَالُ لِلْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْمُنْفِقِ إِذَا قَالَ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، كَذَبْتَ، أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ. فلان عالمٌ أو شجاعٌ أو جوادٌ فيذهب به إلى النار، وقال صلى الله عليه وسلم: "استعيذوا بالله من جُبِّ الحزن"، قيل: ما هو؟ قال: "وادٍ في جهنم أُعِدَّ للقرّاء المرائين"، وقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء". بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله عملاً فيه مقدار ذرة من الرياء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى الرياء شرك"، وقال عيسى عليه السلام:
"إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لكي لا يرى الناس أنه صائم، وإذا..." أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخِ ستر بابه، فإن الله تعالى يقسم الثناء كما يقسم الرزق. ولهذا قال عمر رضي الله عنه لرجل طأطأ رقبته: "يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب وإنما الخشوع في القلوب". وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن المرائي ينادى يوم..." ينادى المرائي يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي، يا غادر، يا فاجر، يا خاسر، اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، فلا أجر لك عندنا. وقال قتادة: إذا رأى العبد، يقول الله تعالى: انظروا
إلى عبدي كيف يستهزئ بي. وقال الحسن: صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة، لو نطق بها نفعته ونفعت. أصحابه وما يمنعه منها إلا الشهرة. حقيقة الرياء طلب المنزلة في قلوب الناس بالعبادات وأعمال الخير. وما يُراءى به ستة أصناف: الأول الرياء من جهة البدن، وهو إظهار النحول والاصفرار ليُظن به السهر والصيام، وإظهار الحزن ليُظن به أنه شديد الاهتمام بأمر الدين، وإظهار شعث الشعر ليُظن به أنه لشدة استغراقه بالدين ليس ليتفرغ لنفسه، وإظهار ذبول الشفتين ليُستدل به على صومه، وخفض الصوت ليُستدل به على ضعفه من شدة المجاهدة.
الأمر الثاني: الرياء بالهيئة، كحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وتغميض العينين ليُظن به أنه في الوجد والمكاشفة، أو غائص أو متأمل. غائص في الفكر، الأمر الثالث: الرياء في الثياب، كلبس الصوف والثوب الخشن وتقصيره إلى قريب من نصف الساق، وتقصير الكمين، وترك الثوب مخرقاً ووسخاً ليظن أنه مستغرق الوقت عن الفراغ له، ولبس المرقعة، والصلاة على السجادة ليظن أنه من الصوفية مع إفلاسه عن حقائق التصوف، ولبس الضراعة. والطيلسان وتوسيع الأكمام ليُظَنَّ أنه عالم، والتقنُّع فوق العمامة بإزار، ولبس الجوارب ليُظَنَّ أنه متقشف لشدة
ورعه، ولشدة ورعه من غبار الطريق. ثم منهم من يطلب المنزلة في قلوب أهل الصلاح فيلازم الثوب الخَلِق، ولو كُلِّفَ لبس ثوب جديد حسن مما يباح في الشرع ولبسه السلف لكان عنده. كالذبح إذ يخاف أن يقول الناس قد بدا له من الزهد، ومنهم من يطلب المنزلة من السلاطين والتجار بنفيس ثياب الصوف المرقعة، ولو لبس ثياباً بالية لازدروه، ولو لبس فاخر الثياب لم يعتقدوا زهده، فيطلب المرقعات المصبوغة والفوط الرقيقة والأصواف الرفيعة، فتكون ثيابهم في القيمة والنفاسة كثياب الأغنياء وفي اللون. والهيئة كثياب الصالحين، ولو كُلِّفوا أن يلبسوا الثياب البالية
لكان ذلك عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط من أعين الأغنياء. ولو كُلِّفوا لبس الحرير والثياب المزركشة والأقمشة الرفيعة وما يُباح لبسه وقيمته أقل من قيمة ثيابهم، لاشتد عليهم الأمر خوفاً من سقوط منزلتهم من قلوب الصالحين، إذ يقولون: بدا له من الزهد. الرابع: الرياء بالقول كرياء أهل... الوعظ والتذكير في تحسين الألفاظ وتسجيعها والنطق بالحكمة والأخبار وكلام السلف مع ترقيق الصوت وإزهاء وإظهار الحزن مع الخلو عن حقيقة الصدق والإخلاص في الباطن بل ليظن به ذلك فهو يظهر الحزن في الملأ ويعصي الله في الخلوة وكدعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والمبادرة إلى الحديث أنه صحيح أو سقيمٌ ليظن به غزارة العلم، وكتحريك الشفتين بالذكر، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الناس مع خلو القلب عن التفجع بالمعصية، وكإظهار الغضب على المنكرات والأسف على المعاصي مع خلو القلب عن التألم به. الأمر الخامس الرياء بالعمل كتطويل القيام وتحسين الركوع والسجود وإطراق الرأس وقلة الالتفات والتصدق والصوم والحج. والإخباث في المشي وإرخاء الجفون مع أن الله تعالى يعلم من باطنه أنه لو كان خالياً لما فعل شيئاً من ذلك، بل تساهل في الصلاة وأسرع في المشي، وقد يفعل ذلك في المشي، فإذا شعر باطلاع غيره عليه عاد إلى السكينة كي يُظن به الخشوع. السادس: الرياء بكثرة التلاميذ. والأصحاب وكثرة ذكر الشيوخ ليُظَنَّ أنه لقِيَ شيوخًا كثيرين وكمَن يحب أن يزوره العلماء والسلاطين ليُقال
إنه ممن يُتبرك به، فهذه مجامع مما يُراءى به في الدين، وكل ذلك حرام بل هو من الكبائر. وأما طلب المنزلة في قلوب الناس بأفعال ليست من العبادات وأعمال الدين فليست بحرام ما لم يكن فيها تلبيس كما ذكرناه في طلب الجاه، فأهل الدنيا قد يطلبون الجاه بكثرة المال والغلمان وحسن الثياب الفاخرة وحفظ الأشعار وعلم الطب والحساب والنجوم والنحو واللغة وغير ذلك من الأعمال والأحوال، ولم يُحرم ذلك ما لم ينتهِ إلى الإيذاء بالتكبر وإلى أخلاق أخرى مذمومة، وإنما استقصينا أقسام ما به. الرياء لأنه أغلب الأخلاق الذميمة على النفوس، فمن لا يعرف الشر ومواقعه لا يمكنه أن يتقيه. أصل
في بيان درجات الرياء: الرياء على درجات، إحداها ألا يكون بالأمور الدينية والعبادات، كالذي يلبس عند الخروج ثياباً حسنة خلاف ما يلبسه في الخلوة، وكالذي ينفق في الضيافات وعلى الأغنياء أموالاً ليُعتقد أنه... سخي لا ليعتقد أنه ورع صالح فذلك ليس من صفاته، فإن تملك القلوب كتملك الأموال، نعم القليل منه صالح نافع والكثير منه يلهي عن ذكر الله تعالى كالكثير من المال، ومهما انصرفت الهمة إلى سعة الجاه فإنه يجر ذلك إلى الغفلة والمعاصي فيكون محظوراً لذلك لا لنفسه، وأما إظهار الشمائل التي ذكرناها. ليعتقد الناس فيه الدين والورع فحرام
لسببين: أحدهما أنه تلبيس إذا أراد أن يعتقد الناس أنه مخلص مطيع لله تعالى محب، وهو بهذه النية فاسق ممقوت عند الله تعالى. ولو سلّم الرجل دراهم إلى جماعة يُخيّل إليهم أنه يجود عليهم بها، وإنما هي ديون لازمة، عصى بذلك لتلبيسه وإن لم يطلب به أن يُعتقد صلاحه لأن كسب القلوب بالتلبيس حرام. والثاني أنه إذا قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ، ومن وقف بين يدي ملك في معرض الخدمة وليس غرضه ذلك، بل غرضه ملاحظة عبد من عبيد الملك أو جارية من جواريه، فانظر ماذا يستحقه. من النكال لاستهزائه بالملك فكأنه إذا قصد العباد بالعبادة فقد اعتقد
أن عباد الله أقدر على نفعه وخيره من الله تعالى إذ عظمة العباد في قلبه دعته إلى أن يتجمل عندهم بعبادة الله تعالى ولهذا سمي الرياء الشرك الأصغر ثم يزداد الإثم بزيادة فساد القصد والنية إذ من المرائين من لا يطلب إلا مجرد الجاه، ومنهم من يطلب أن يودع الودائع ويُولى الأوقاف ومال الأيتام ليختزل منها، وذلك أخبث لا محالة. ومنهم من يرائي ليقصد أن يتقرب إليه النساء والصبيان ليتمكن من الفجور، أو ليكثر عنده المال ليصرفه إلى الخمر والملاهي، وهذا هو الأعظم إذ... جعل عبادة الله تعالى وسيلة له إلى مخالفته والعياذ بالله تعالى. نعم، إنه أصل
أمر عظيم وهو اتخاذ العبادة وسيلة إلى المخالفة، وهذا يحدث كثيراً عندما يُستغل الدين واسم الدين في أمور الاقتصاد أو في الأمور الاجتماعية أو في الأمور السياسية. وهذا معنى قوله تعالى: "مخلصين له الدين"، فيجب أن يُخلصها. المسلم لله. الدين فصل، فصل في بيان ما تكون به المراءاة. كما يعظم الرياء ويتغلظ إثمه، ويتغلظ إثمه بسبب اختلاف الغرض الباعث عليه، فيعظم أيضاً بما به المراءاة وبقوة قصد الرياء. أما ما به المراءاة فهو على ثلاث درجات، أغلظها أن يرائي بأصل الإيمان كالمنافق يظهر أنه مسلم ولم يسلم. بقلبه وكالملحد ومعتقد الإباحة
يُظهر أنه مستديم الإيمان وقد انسلخ منه باطنه. الثانية: الرياء بأصل العبادات، كمن يصلي ويخرج الزكاة أمام الناس، والله يعلم من باطنه أنه لو خلا بنفسه لم يفعل ذلك. الثالثة وهي أدناها: أن لا يرائي بالفرائض بل بالنوافل. وأما تغليظه بدرجات القصد فهو أنه قد... يتجرد قصد الرياء حتى يصلي مثلاً على غير طهارة لأجل الناس، ويصوم ولو خلا بنفسه لأفطر، وقد ينضاف إليه قصد العبادة أيضاً، وله ثلاثة أحوال، إحداها أن تكون العبادة باعثة مستقلة لو خلا بنفسه لفعل، ولكن زاده رؤية غيره ومشاهدته نشاطاً وخف عليه العمل بسببه، فأرجو ألا يحبط ذلك القدر. عمله بل تصح عبادته ويُثاب عليها
ويُعاقب على قصد الرياء، أو ينقص من ثوابه. الثانية أن يكون قصد العبادة ضعيفاً بحيث لو انفرد عن الناس ما استقل بالحمل على العبادة، فهذا لا تصح عبادته، والقصد الضعيف لا ينفي عنه شدة المقت. الثالثة أن يتساوى القصدان بحيث... يستقل كل واحد بالحمل إذا انفرد، أو لينبعث الفعل بأحدهما، بل بمجموعهما. فهذا قد أصلح شيئاً وأفسد مثله، بل أكثر منه. فالغالب أنه لا يسلم رأساً برأس. ويُحتمل أن يُقال: إذا تساوى القصدان فأحدهما كفارة للآخر. وقوله تعالى: "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" يدل على أنه لا يقبله ولا يثيبه. عليه أما أنه يعاقبه عليه ففيه نظر، فالأغلب
عندي والعلم عند الله تعالى أنه لا يخلو عن إثم وعقاب. فأُفصِّل في بياني أن الرياء جلي وخفي. اعلم أن بعض الرياء جلي وبعضه خفي، وبعضه أخفى من دبيب النمل. أما الجلي فهو ما يبعث على العمل حتى لو لولاه لم يرغب في. العمل وأما الخفي ألا يستقل بالحمل عليه ولكن يخفف العمل ويزيد في نشاطه كالذي يتهجد كل ليلة وإذا كان عنده ضيف زاد نشاطه وأخفى منه ألا يزيد نشاطه ولكن لو اطلع غيره على تهجده قبل فراغه أو بعده فرح به ووجد في نفسه هزة وذلك يدل على أن الرياء كان مستكناً في باطن القلب استكنان النار
تحت الرماد حتى يترشح منه السرور عند الاطلاع وقد كان غافلاً عنه قبله، وأخفى منه أن لا يُسَر بالاطلاع لكن يتوقع أن يُبدأ بالسلام ويُوقر ويتعجب ممن يسيء إليه ولا يسامحه في المعاملة ولا يحترمه، وذلك يدل على أنه يمن على الناس بعمله فكأنه يتوقع احترامهم وتوقيرهم لعبادته مع إخفائه عنهم، وأمثال هذه الخفايا لا يخلو منها إلا الصديقون، وجميع ذلك إثم ويُخشى منه إحباط العمل. نعم، لا بأس أن يفرح باطلاع غيره عليه إذا كان فرحه بالله تعالى من حيث أظهر منه الجميل وستر منه القبيح، مع أنه قصد سترهما جميعاً فيفرح بلطف. صنع الله تعالى وكذلك يفرح لأنه يبشره بأنه حيث
أحسن صنعه به في الدنيا فكذلك يصنع به في الآخرة، أو يفرح ليقتدي به من يراه، أو يطيع الله بحمله له عليه. وعلامة هذا أن يفرح أيضاً إذا اطلع على غيره ممن ترجى قدوته، ومن أجل خفاء أبواب الرياء وشدة استيلائه. على الباطن احترز أولو الحزم فأخفوا عبادتهم وجاهدوا أنفسهم، وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: "إن الله عز وجل يقول للقرّاء يوم القيامة: ألم يكن يُرخص عليكم في السعر؟ ألم تكونوا تُبدؤون بالسلام؟ ألم تكن تُقضى لكم الحوائج؟ لا أجر لكم فقد استوفيتم أجركم". فاجتهد إن أردت الخلاص أن... ليكن الناس عندك كالبهائم والصبيان، ولا تفرّق في حق عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقنع
بعلم الله تعالى وحده، واطلب الأجر منه، فإنه لا يقبل إلا الخالص، كي لا تُحرم من فائدته في أحوج أوقاتك إليه. فصلٌ في بيان أحكام وارد الرياء. لعلك تقول: ما أقدر... على الانفكاك عن الرياء الخفي كما وصفته، وإن قدرت على الرياء الجلي، فهل تنعقد عبادتي مع ذلك؟ اعلم أن وارد الرياء لا يخلو إما أن يرد مع أول العمل أو في دوامه أو بعد الفراغ منه. أما ما يقارن الابتداء فيبطله ويمنع انعقاده إن صار باعثاً مؤثراً في الحمل عليه. على العمل بل أول العقد يجب أن يكون خالصاً وإنما يبطل بالرياء الباعث على أصل العمل، وأما إذا لم يحمل إلا على المبادرة في أول
الوقت مثلاً فأظن والعلم عند الله تعالى أن أصل الصلاة يصح وإنما تفوته فضيلة المبادرة ويعصي بقصد المراءاة به ولكن يسقط الفرض عنه وأما ما يرد في دوام الصلاة أنه إذا طال باعث الصلاة فتبطل الصلاة، مثال ذلك أن يحضر في أثناء الصلاة نظارة ويتذكر نسيان شيء، ولو كان وحده لقطع الصلاة لكنه أتمها حياءً من الناس، فهذا لا يُسقط الفرض لأن النية قد انقطعت وانقطع باعث العبادة. وأما إذا لم تنقطع نيته لكن صار مذموراً مغلوباً كما... لو حضر قوم فغلب على قلبه الفرح باطلاعهم وانغمر باعث العبادة، فغالب الظن أنه إن انقضى ركن ولم يعاوده الباعث الأصلي فسدت صلاته، بأننا نستصحب نية البداية
بشرط ألا يطرأ ما لو قارن ابتداءها لمنع، وإن لم ينغمر باعث العبادة ولكن حصل مجرد سرور ولم يؤثر في العمل بل في... تحسين الصلاة فقط، فغالب الظن والله أعلم أن الصلاة لا تفسد ويتأدى الفرض. وأما ما يطرأ بعد الصلاة من ذكر وسرور ومرآة فلا ينعطف على ما مضى، ولكن يعصي به ويأثم ويكون عقابه بقدر قصده وإظهاره. ومهما ظهرت له داعية ذكر العبادة إما بالتصريح وإما بالتعريض فذلك يدل. على أنَّ الرياء كان خفياً في باطنه. فصلٌ في علاج داءَي الرياء: إذا عرفت حقيقة الرياء وكثرة مداخله، فعليك بالتأمل لمعالجته. وعلاجه
دفع الأسباب الباعثة عليه وهي ثلاثة: حبُّ المدح، وخوف الذم، والطمع. أما حبُّ المدح، فكمن يهجم على صف القتال ليُقال إنه شجاع، أو يُظهر العبادات ليُقال إنه ورع. فعلاجه ما ذكرناه في علاج حب الجاه، وأن يعلم أنه كمال وهمي لا حقيقة له. وعلاجه في الرياء خاصة أن يقرر على نفسه ما فيه من الضرر، فإن العسل وإن كان لذيذاً فإذا علم أن فيه سماً سهل تركه، فليقرر على نفسه أنه يقال له في يوم فقره بسبب. ريائه يا فاجر يا غاوٍ، استهزأت بالله عز وجل وكفى اللعب
سبباً في المنع منه، كيف وقد انضم إليه العقوبة وإحباط العبادة، وأنه ربما يترجح به كفة السيئات بعد أن قارنت كفة الحسنات، فيكون سبب هلاكه. وليعلم أن رضا الناس غاية لا تُدرك، ومن سعى إلى الناس بسخط. الله تعالى أسخطهم عليه فكيف يتقرب إلى الله بما لا يطمع في حصوله. وأما الباعث الثاني وهو الخوف من ذمهم، فليقرر على نفسه أن ذمهم لن يضره إن كان محموداً عند الله عز وجل. فلماذا يتعرض لذم الله ومقته خوفاً من ذم الخلق؟ ويكفيه أن الناس لو علموا ما... في باطنه من قصدِ الرياء لمقته، ويأبى الله إلا
أن يكشف سرَّه حتى يُعرف نفاقه، فيمقته الناس أيضاً بعد أن مقته الله تعالى. ولو أخلصَ وأعرضَ بقلبه عنهم وجعل نظره إلى الله تعالى، لكشفَ لهم إخلاصَه له فأحبوه. وأما باعث الطمع فيدفعه بأن يعلم أن ذلك أمرٌ موهوم، وفوات رضا. الله تعالى ناجز ويعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب وأن من طمع في الخلق لم يخل عن الذل والمهانة والمنة ومن أعرض عن الطمع في الخلق كفاه الله تعالى وسخر له القلوب فإذا أحضر في قلبه نعيم الآخرة والدرجات الرفيعة وعلم أن ذلك يفوت بالرياء
بغتة لعلك تقول إنني قررت هذا كله على نفسي ونفرت عن الرياء قلبي، ولكن ربما هجم عليّ وارد الرياء بغتة في بعض العبادات عند اطلاع الخلق، فما العلاج عند هجومه؟ فاعلم أن أصل هذا العلاج أن تخفي عبادتك كما تخفي فواحشك، ففيه السلامة. رُوي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال... لهُ أظهرتَ ما كان ينبغي عليك أن تُخفيه، لا تجالسنا بعد هذا، واعلم أنّ إخفاء العبادة إنما يَشُقُّ في البداية، فإذا صار ذلك عادةً، ألِفَ الطبعُ لذة المناجاة في الخلوة، ومهما هجم والد الرياء، فعلاجه أن تُجدِّد على قلبك ما رَسَخَ فيه من قبل من المعرفة
بالتعرض لمقت الله عز وجل. مع عجز الناس عن نفعك وضرك حتى تنبعث منه كراهية لداعية الرياء، ثم الشهوة تدعو إلى إجابة الرياء بتحسين العمل والفرح به، والكراهية تدعو إلى رده والإعراض عنه، وتكون الغلبة للأقوى. فإن قويت الكراهية حتى منعتك من الركون إليه واستصحبت حالتك التي كنت عليها فلم تزد ولم تنقص ولم تتكلف. إظهار الفعل وانتشاره فقد اندفع عنك الإثم ولم تكلف أكثر من ذلك، وأما دفع الخواطر ودفع الطبع عن الميل إلى قبول الناس فلا يدخل تحت التكليف، وإنما منتهى التكليف الكراهية والإباء عن إجابة الداعي. فصل في إظهار الطاعات لأجل الاقتداء أو إخفائها خوفًا من الرياء، يجوز
إظهار الطاعات لأجل اقتداء. الناس وترغيبهم إذا صحت النية ولم يكن معه شهوة خفية، وعلامته أن يقدر أن الناس لو اقتدوا بأحد أقرانه وكُفي مؤونة الترغيب وأُخبِر بأن أجره في الإسرار كأجره في الإظهار، فلا يرغب في الإظهار. فإن كان ميله إلى أن يكون هو المقتدى به أكثر، ففيه داعية الرياء لأنه إن... كان يطلب سعادة الناس وخلاصهم، ولا بأس بفرحه باستتار معاصيه وحزنه بانكشافها، إما فرحًا بستر الله تعالى عليه، وإما فرحًا بموافقة أمر الله تعالى، فإنه تعالى يحب كتمان المعاصي وينهى عن المجاهرة بها، وإما لأنه يكره أن يُذم فيتألم به، إذ التألم بذم الناس ليس بحرام، بل يوجبه الطبع، وإنما... الحرام الفرح
الذي يمنح الناس إياه بالعبادة فإن ذلك كأجر يأخذه على العبادة، وإما لأنه يخاف أن يُقصد بسوء إذا عُرفت معصيته، وإما لأنه يستحيي من ظهورها، والحياء غير الرياء ولكنه قد يمتزج به. وأما ترك الطاعة خوفاً من الرياء فلا وجه له. قال الفضيل: "من الرياء ترك العمل خوفاً من". الرياء وهو العمل لأجل الناس فهو شرك، بل ينبغي أن يعمل المرء ويخلص، إلا إذا كان العمل فيما يتعلق بالخَلْق كالقضاء والإمامة والوعظ، فإذا علم من نفسه أنه بعد الخوض فيه لا يملك نفسه، بل يميل إلى دواعي الهوى، فيجب عليه الإعراض والهرب، كذلك فعل جماعة من السلف رحمهم الله، وأما... الصلاةُ والصدقةُ فلا يتركهما إلا إذا لم تحضره
أصلاً نيةُ العبادةِ، بل لو تجردت نيةُ الرياءِ فلا يصحُّ عملُه فليتركه. أما معتادُ فعلِه فحضر جماعةً فخاف على نفسِه من الرياءِ فلا ينبغي أن يتركه، بل ينبغي أن يستمرَّ على عادتِه ويجتهدَ في دفعِ باعثِ الرياءِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين. وهذا المنقول عنه، وأما ترك الطاعة خوفًا من الرياء فلا وجه له. قال الفضيل، وهو الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى، وسنلتقي إن شاء الله في الأسبوع القادم، وسيكون آخر لقاء بالنسبة لي، ثم تُكملون بقية الكتاب، وقد أجزتكم به، والإجازة المطوَّلة ستكون في الحلقة القادمة إن شاء الله يوم... الأحد القادم ونرجو الله لكم
كل التوفيق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. جزاكم الله خيراً يا سيدي. بارك الله فيكم وكل عام وأنتم بخير. أنتم بالصحة والسلامة. جزاكم الله خيراً.