الأربعين في أصول الدين للإمام الغزالي | المجلس السادس| أ.د علي جمعة

الأربعين في أصول الدين للإمام الغزالي | المجلس السادس| أ.د علي جمعة - الأربعين في أصول الدين, تصوف
سيدي هل نبدأ. نبدأ. بسم الله الرحمن الرحيم. وبأسانيدكم الصحيحة الرجيحة إلى الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه وأرضاه. الأصل التاسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"
نعم تفضل. حاضر يا سيدي يبدو أن سيدي زكريا سيلتحق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تكونوا في خير سيدي الفاضل. الحمد لله تفضل. بسم الله الرحمن الرحيم، وبإسنادكم
إلى الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه وعلومكم. الأصل التاسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"، وقال الله تعالى. والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقال الله تعالى: "وكانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون". وقال أبو بكر... الصديق رضي الله تعالى عنه في خطبته: "أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده"،
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا أعمالهم أعمال الأنبياء". قالوا: "يا رسول الله، وكيف ذاك؟" قال: "لم يكونوا يغضبون لله عز وجل ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون". عن المنكر وبإسنادكم إلى الإمام الغزالي فصل في بيان واجب من رأى منكراً: كل من شاهد منكراً ولم ينكره وسكت عنه فهو شريك فيه، فالمستمع شريك المغتاب، ويجري هذا في جميع المعاصي حتى في مجالسة من يلبس الديباج ويتختم بالذهب ويجلس على الحرير، والجلوس في دار أو حمام على جدرانها صور أو فيها آنية من ذهب او فضة أو في الجلوس في مسجد يسيء الناس الصلاة فيه فلا يتمون الركوع ولا السجود. أو الجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة. أو في مجلس.
مناظرة ومجادلة يجري فيها الإيذاء والإفحاش بالسفه والشتم، وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقياً في نفسه، إلا أن يترك المداهنة ولا تأخذه في الله لومة لائم يسقط عنه الوجوب بأمرين: أحدهما أن يعلم لأنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر ونظر إليه بعين الاستهزاء، وهذا هو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء ومن يزعم أنه من أهل الدين. فهاهنا يجوز السكوت، ولكن يستحب الزجر باللسان إظهاراً لشعائر الله أو لشعائر الدين، مهما لم يقدر الزجر باللسان، ويجب أن يفارق ذلك الموضع، فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختيار، فمن جلس في مجلس الشرب فهو فاسق وإن لم يشرب، ومن جلس
مع من يغتاب أو لابس حرير أو آكل ربا أو حرام فهو فاسق، فليقم من موضعه. الثاني: أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة. فيها خمر فيرميها فيكسرها أو يسلب آلة الملاهي من يد صاحبها ويضربها على الأرض ولكن يعلم أنه يُضرب أو يُصاب بمكروه، فهاهنا تُستحب الحسبة لقوله تعالى: (وانهَ على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور﴾ ولا تجب ولا تجب إلا أن المكروه الذي يصيبه له درجات كثيرة يطول النظر فيها ذكرناها في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء. وعلى الجملة فلا يسقط الوجوب إلا بخوف مكروه في بدنه بالضرب أو في ماله بالاستهلاك أو في جاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مروءته، فأما خوف استيحاش
المنكر عليه وخوف التعرض له باللسان وعداوته له أو توهم سعيه في المستقبل بما يسوؤه أو يحول بينه وبين زيادة خير يتوقعها فكل ذلك موهومات وأمور ضعيفة لا يسقط الوجوب بها. وبإسنادكم إلى الإمام الغزالي يقول: فصل في بيان عمدة الحسبة، عمدة الحسبة شيئان: أحدهما اللطف والرفق والبداية بالوعظ على سبيل اللين لا على... سبيل العنف والترفع والإدلال بدلالة الصلاح فإن ذلك يؤكد داعية المعصية ويحمل العاصي على المناكرة وعلى الإيذاء ثم إذا آذاه ولم يكن حَسَن الخُلق غضب لنفسه وترك الإنكار لله تعالى واشتغل بشفاء غليله منه فيصير عاصياً بل ينبغي أن يكون كارهاً للحسبة يود لو ترك المعصية بقول غيره فإنه إذا أحب أن يكون هو المعترض كان
ذلك لما في نفسه من دالة الاحتساب وعزته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه". فيما ينهى عنه ووعظ المأمون رحمه الله، واعظ بِعُنفٍ فقال له: يا رجل، ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره بالرفق، فقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. وروى أبو أمامة رضي الله تعالى عنه أن غلامًا شابًا أتى النبي صلى. الله عليه وسلم فقال: "أتأذن لي في الزنا؟" فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقروه، أقروه، ادنوا مني." فدنا منه، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "أتحبه لأمك؟" قال: "لا وجعلني الله فداك." قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟" قال: "لا." قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم حتى ذكر الأخت والعمة والخالة وهو يقول كذلك كذلك الناس لا يحبونه ثم وضع يده على صدره وقال اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه، ولم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنا. وقال بعضهم للفضيل إن سفيان بن عيينة قبِلَ جوائز السلطان. وقال ما أخذ منهم إلا دون حقه، ثم خلا به وعاتبه بالرفق. فقال سفيان: يا أبا علي، إن لم نكن من الصالحين فإننا نحب الصالحين. والثاني أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها وترك ما ينهى عنه أولاً. قال الحسن البصري رحمه الله: "إذا كنت تأمر بالمعروف فكن من آخر الناس به وإلا هلكت". فهذا هو الأولى حتى ينفع كلامه وإلا استُهزئ
به. وليس هذا شرطاً، بل يجوز الاحتساب للعاصي أيضاً. وقال أنس رضي الله عنه: قلنا يا رسول الله، ألا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ونعمل به كله، ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى، مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله". وقال حسن البصري رحمه. الله يريد أن يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة وهي أن لا تأمروا بالمعروف حتى نأتي به كله، يعني أن هذا يؤدي إلى حسم باب الحسبة، فمن ذا الذي يُعصَم عن المعاصي في هذا الأصل، وهو الأصل التاسع. يخبرنا رضي الله تعالى عنه عن هذه الأمور المهمة من الأمر بالمعروف والنهي. عن المنكر
وفي بيانِ واجب من رأى منكراً، ولكن كلما كثر هرج ومرج الزمان، والهرج والمرج في الدنيا، والفتنة تشتد، كلما كان تطبيق هذا الأمر لا بد فيه من تنفيذ الشروط التي وضعها الإيمان. فكل من شاهد منكراً ولم ينكره وسكت عنه فهو شريك فيه بشروطه، يعني لأنه إذا شاعت هذه المعاصي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: "عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة". إذا
كان الناس من أهل الموعظة فإنه يجب عليه أداء ما ذَكر، ولكن إذا اشتد هذا الأمر فلا بد من الرجوع إلى نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت هوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه". برأيه وشحًا مطاعًا ودنيا مؤثرة، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، فكل ما قاله الإمام رضي الله تعالى عنه كلام صحيح، ولكن لا بد أولًا أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولم يُترك المنكر، وهذا شأن غالب أهل زماننا، ونُظر إليه بعين الاستهزاء، وهذا هو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء أصبحت الآن هي الغالبة في المنكرات التي يرتكبها الناس جميعًا.
والشرط الثاني أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر. ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفًا على الأمة قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". فنحن عندما نسكت إنما... نسكت لفقدان الشرط وليس نسكت كسلاً أو استمراءً للمعصية والعياذ بالله تعالى، بل نسكت تطبيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة". والزمان يشتد كلما تأخر الزمان، كلما اشتد الناس في هذا المعنى، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير ما للمرء غنيمات". يتتبع بها شِعف الجبال ومواضع القطر،
يفرُّ بدينه من الفتن. يعني سيأتي على الناس زمانٌ لا يُطيع فيه أحدٌ أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، بل يتبعون أهواءهم لدرجة أن خير مال المرء سيكون هكذا. وكلمة "خير" هي أفعل تفضيل، معناها أيضاً أن البقاء بين الناس والصبر على أذاهم والصبر على... هذه الأحوال له أجر عظيم أيضًا وهو غالب على أكثر الناس، حتى إنه في عصرنا هذا إذا حاولت أن تتخذ شاة تتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر، فإن ذلك ممنوع لأنك قد تدخل في منطقة عسكرية، وقد تدخل في منطقة فيها
نوع من أنواع هلاك البدن أو فيها نوع من... أنواع الظلمة والتهمة إلى آخره، ولذلك فهذا عصر فتن وليس عصر تطبيق لهذه الأمور الربانية الإلهية إلا بشروطها. فنسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، ونسأل الله ألا يؤاخذنا بما نسينا أو أخطأنا. الأصل العاشر في اتباع السنة. نعم، وبإسنادكم إلى الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى. الأصل العاشر في اتباع السنة. وليعلم أن مفتاح السعادة اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته حتى في هيئته في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه. ولست أقول ذلك في أمور العبادات فقط فإنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها.
بل ذلك في جميع أمور العادات وبذلك يحصل الاتباع المطلق. قال الله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". وقال الله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". فعليك أن تلبس السراويل جالساً وتضع العمامة واقفاً وتبدأ باليمين في تناولك وتأكل بيمينك وتقص أظفارك وتبدأ بمسبحة اليد اليمنى وتختم بإبهامها وفي الرجل تبدأ بخنصر اليمنى وتختم بخنصر اليسرى وكذلك في جميع حركاتك وسكناتك ولقد كان محمد بن أسلم لا يأكل البطيخ لأنه أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم له وسها أحدهم فلبس الخف فابتدأ باليسرى فكفّر عنه بكر حنطة، ولا ينبغي أن تتساهل في أمثال ذلك فتقول هذا فلا معنى للاتباع فيه إن...
ذلك يغلق عليك باباً عظيماً من أبواب السعادة. وبإسنادكم إلى الإمام الغزالي رحمه الله، فصل في بيان الأسباب المرغبة في اتباع السنة. لعلك على السبب المرغّب في الاتباع في هذه الأفعال وتستبعد أن يكون تحت ذلك سرٌ أو المخالفة، بل يُعلم أن ذكر السر في آحاد تلك السنن طويلة لا يحتمل هذا الكتاب شرحه، لكن ينبغي أن تفهم أن ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع من الأسرار: الأول أننا نبهناك في مواضع على العلاقة التي بين الملك والملكوت، وبين الجوارح والقلب، وكيفية تأثر القلب بعمل الجوارح، فإن القلب كالمرآة لا تتجلى فيه حقائق. الأشياء إلا بتصقيله وتنويره وتعديله، فأما تصقيله فبإزالة خبث الشهوات وكدورة الأخلاق الذميمة، وأما تنويره فبأنوار الذكر والمعرفة، ويعين على ذلك العبادة الخالصة إذا أُدِّيت على كمال
الحرمة بمقتضى السنة وأما تعديله فبأن تُجريَ حركات الجوارح على قانون العدل، إذ اليد لا تصل إلى القلب حتى تقصد تعديله فتحدث فيه هيئة معتدلة صحيحة لا اعوجاج فيها، وإنما التصرف في القلب بواسطة تعديل الجوارح وتعديل حركاتها ولهذا كانت الدنيا مزرعة الآخرة، ولهذا تعظم حسرة من مات قبل التعديل بانسداد طريق التعديل بالموت. إذ تنقطع علاقة فمهما الجوارح، بل حركات الخواطر أيضاً موزونة بميزان العدل. حدث في القلب هيئة عادلة مستوية تستعد لقبول الحقائق على نعت الصحة والاستقامة كما تستعد المرآة المعتدلة لمحاكاة الصور الصحيحة من غير اعوجاج. ومعنى العدل وضع الأشياء في مواضعها، ومثاله أن الجهات مثلاً أربعة وقد خُصت منها جهة القبلة
بالتشريف فالعدل ان تستقبل القبلة في احوال الذكر والعبادة والوضوء وأن تنحرف عنها عند قضاء الحاجة وكشف العورة، إظهاراً فضله، ولليمين اليسار غالباً بفضل القوة، فالعدل أن تفضلها على اليسار وتستعملها في الأعمال الشريفة في أخذ المصحف والطعام وتترك اليسار للاستنجاء وتناول القاذورات. وقلم الظفر مثلاً تطهير لليد وهو إكرام وينبغي أن يبدأ بالأكرم والأفضل. وربما لا يستقل عقلك بالتفطن للترتيب في ذلك وكيفية البداية. فاتّبع فيه السنة، وابدأ بالمسبحة من اليمين لأن اليد أفضل من الرجل واليمنى أفضل من اليسرى، والمسبحة التي بها الإشارة في كلمة التوحيد أفضل من سائر الأصابع. ثم بعد ذلك تدور من يمين المسبحة، وللكف ظهر ووجه، وإذا وجه اليد، كان يمين المسبحة من جانب الوسطى.
فقدر اليدين متقابلتين بوجهيهما وقدر الأصابع كأنها أشخاص فيدور المقراض من المسبحة إلى أن يختم بإبهام اليمنى، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكمة في ذلك. ما ذكرناه، فإذا اعتدت رعاية العدل في دقائق الحركات، صارت العدالة والصحة هيئة راسخة في قلبك، واستوت صورته، وبذلك تستعد لقبول صورة السعادة. ولذلك قال الله ولذلك قال الله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي, فروح الله مفتاح أبواب السعادة، ولم يكن نفخها إلا بعد التسوية ومعنى التسوية يرجع إلى التعديل، ووراءه سر يطول كشفه، وإنما نريد الرمز إلى أصله. فإن كنت لا تقوى على فهم حقيقته فالتجربة تنفعك، فانظر إلى من تعوّد الصدق كيف تصدق رؤياه غالباً، لأن الصدق حصل في قلبه هيئة صادقة تتلقى لوائح الغيب في النوم على الصحة، وانظر كيف تكذب
رؤيا الكذاب، بل رؤيا الشاعر الذي تعوّد التخيلات. الكاذبة فاعوج لذلك صورة قلبه، فإن كنت تريد أن تلمح جناب القدس فاترك ظاهر الاثم وباطنه، واترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واترك الكذب حتى في حديث النفس أيضاً، السر الثاني أن تعلم. أن الأشياء المؤثرة في بدنك بعضها إنما يُعْقَل تأثيره بنوع من المناسبة إلى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، كقولك إن العسل يضر المحرور وينفع البارد مزاجه، ومنها ما لا يُدرك بالقياس ويعبر عنه بالخواص وتلك الخواص لا يوقف عليها بالقياس بل مبدأ الوقوف عليها وحي أو إلهام، فالمغناطيس يجذب الحديد والسقمونيا تجذب خلط الصفراء من أعماق العروق لا على القياس بل بخاصية
وُقِفَ عليها إما بإلهام أو تجربة، وأكثر الخواص عُرِفَت بالإلهام وأكثر التأثيرات في الأدوية وغيرها من قبيل الخواص. فكذلك فاعلم وليعلم أن تأثير ينقسم إلى ما يُفهم وجه مناسبته كعلمك بأن اتباع الشهوات الدنيوية يؤكد علاقته مع هذا العالم ويخرج من هذا العالم منكوس الرأس مولياً إلى هذا العالم إذ فيهِ وكعلمك أن المداومة على ذكر الله تعالى تؤكد تعالى وتوجب الحب به عند فراق الدنيا. والقدوم على الله سبحانه إذ اللذة على قدر الحب والحب على قدر المعرفة والذكر، ومن الأعمال ما يؤثر في الاستعداد لسعادة الآخرة أو لشقاوتها بخاصية ليست على القياس، لا يوقف عليها إلا بنور النبوة. فإذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل عن أحد المباحين إلى الآخر وآثره
عليه، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، قد عدل عن أحد... المُباحَيْن إلى الآخَر وآثَرَهُ عليه مع قُدرَتِهِ عليهما فلْيَعلَمْ أنه اطَّلَعَ بنورِ النُبُوَّةِ على خاصِيَّةٍ فيه وكُوشِفَ به من عالَمِ المَلَكوت كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمَرَني أنْ أُعَلِّمَكُم مِمَّا عَلَّمَني وأُؤَدِّبَكُم مِمَّا أدَّبَني، لا يُكْثِرَنَّ أحَدُكُم الكلامَ عند المُجامَعة". فإنه يكون منه خرس الولد، ولا ينظرن أحدكم إلى فرج امرأته إذا هو جامعها فإنه يكون منه العمى، ولا يقبلن أحدكم امرأته إذا هو جامعها فإنه يكون منه صمم الولد، ولا يديمن أحدكم النظر في الماء فإنه يكون منه ذهاب العقل. وهذا مثال، هذا حديث غير صحيح، ولذلك فعند... ظن الصحة فما
دام قد قاله سيدنا صلى الله عليه وسلم فهو حق، أما عند ضعف السند بهذه الطريقة التي هي عليها فهو ليس مما يُلتفت إليه في هذا المقال. نعم، وهذا مثال واضح ينبهك على اطلاعه على خواص الأشياء بالإضافة إلى أمور الدنيا لتقيس به اطلاعه صلى الله. عليه وسلم على ما يؤثر بالخاصية في السعادة والشقاء، ولا ترضى لنفسك أن تصدق محمد بن زكريا الرازي المتطبب فيما يذكره من خواص الأشياء في الحجامة والأحجار والأدوية، ولا تصدق سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبرك عنها. وأنت تعلم أنه صلى الله عليه وسلم مُكاشف من العالم الأعلى بجميع الأسرار وهذا ينبهك على الاتباع فيما لا تفهم وجه الحكمة فيه على ما
ذكرناه في السر الأول. السر الثالث أن سعادة الإنسان في أن يتشبه بالملائكة في النزوع عن الشهوات وكسر النفس الأمارة بالسوء، ويبعد عن مشابهة البهيمة المهملة السدى التي تسترسل في اتباع الهوى بحسب ما يقتضيه طبعها من. غير حاجز ومهما تعود الإنسان في جميع أموره أن يفعل ما يشاء من غير حاجز، ألِف اتباع مراده وهواه وغلب على قلبه صفة البهيمة. مصلحته أن يكون في جميع حركاته مصادمات على بعض ومن لم يكن تصرفه وتردده بحكم طبعه بل بحكم غيره، فنفسه أقوم وإلى قبول الرياضة الحقيقية أقرب ممن
جعل زمامه في يد هواه. يسترسل استرسال البهيمة، وتحت هذا أيضاً سر عظيم في تزكية كيفما وضعه. والفائدة الحِكَمية أو الخاصية لا تتغير بالوضع، وهذا يتغير بالوضع. إن المقصود ألا يكون مخلىً مع اختياره وذلك يحصل بالمنع عن أحد الجانبين أي جانب كان، وفي مثل هذا يُتصور أن تختلف الشرائع لأنه من ثمرة الوضع. وتكفيك هذه التنبيهات الثلاثة على فضل ملازمة الاتباع في جميع الحركات والسكنات. إسنادكم قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" الذي مر أمران: أولاً ما حدث بين أهل الغرب وأهل الشرق من أهل العلم في قولهم الحِرمة
والحُرمة، وكلاهما جائز في اللغة. سيدي زكريا قرأ الحِرمة، وكان بعض العلماء المغاربة ينكرون على المشارقة أنهم يقولون عليها الحُرمة، حتى ثبت لهم أن النطقين صحيحان: الحُرمة والحِرمة، وذلك للإلف والتعود وكثرة الاستعمال. هذا مما يُنَبَّه إليه أن هذه الأشياء جائزة باللغة، والطبيب الرازي كان متهماً بالإلحاد، فهو يعني كأنه يقول: كيف تطيع الطبيب الرازي أبا بكر الرازي ولا تطيع
أو تصدق سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟ وكل ذلك موكول بالثبوت على أي درجة كانت هذا الثبوت، فلا بد من ثبوت الحديث عن سيدنا. صلى الله عليه وسلم ومن اعتقد عدم الثبوت فإنه ليس مكلفاً بالاتباع تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. فصلٌ في ترك السنة: بإسنادكم إلى الإمام الغزالي رحمه الله يقول: فصلٌ في ترك السنة في العبادات من غير عُذر هذا التحريض الذي ذكرتُه إنما هو في العادات وأما في العبادات فلا أعرف لترك السنة من غير عًذر وجهاً إلا كفر خفياً أو حمقٍ جَلياً. بيانه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال تَفضُل
صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فكيف تسمح نفس المؤمن بتركها من غير عذر، نعم يكون السبب في ذلك إما حُمقًا أو غفلةً بأن لا يتفكَّر في هذا التفاوت العظيم، ومن يستحمق غيره إذا آثر واحدًا على اثنين، كيف لا يستحمق نفسه إذا آثر واحدًا على سبع وعشرين، لا سيما فيما هو عماد الدين ومفتاح السعادة الأبدية. أما الكفر فهو أن يخطر بباله أن هذا ليس كذاك، وإنما ذكره للترغيب في... الجماعة وإلا فأي مناسبة بين الجماعة وبين هذا العدد المخصوص من بين سائر الأعداد وهذا كفر خَفي قد ينطوي عليه الصدر وصاحبه لا يشعر به. وما أعظم حماقة من يصدق المنجم والطبيب في أمور أبعد من ذلك ولا يصدق النبي المكاشف بأسرار الملكوت. وما أعظم حماقة من يصدق المنجم والطبيب في أمور أبعد من ذلك ولا يصدق النبي المكاشف بأسرار
الملكوت. فإن المنجم لو قال لك إذا انقضى سبعة وعشرون يوماً من أول تحول طالعك أصابتك نكبة. فاحترس في فلا تزال في تلك المدة تستشعر وتترك جميع أعمالك. ولو سألت المنجم عن سببه لقال: إنما قدرت ذلك بهذه المدة لأن بين درجة الطالع وموضع زحل سبعاً وعشرين درجة فتتأخر النكبة بكل درجة يوماً أو شهراً وإذا قيل لك هذا هوس من قائله إذ لا مناسبة له فلا تصدقن به فلا يخلو قلبك عن الاستشعار. وتقول في أفعال الله تعالى عجائب لا تعرف مناسبتها ولعلها خواص لا تدركها وقد عُرف بالتجربة أن ذلك. مما يؤثر وإن لم تعرف مناسبته. ثم الغيب أنكرت مثل هذه الخواص وطلبت المناسبة الصريحة فهل لهذا سبب إلا شرك خفي. لا بل كفر جلي إذا لا محمل له سواه.
وسبب هذا التكاسل كله أنك لا يهمك أمر آخرتك، فإن أمر دنياك لما كان يهمك وتحتاط فيه بقول المنجم والطبيب وبالاختلاج والفأل والأمور البعيدة عن المناسبة غاية البعد وتنقاد للاحتمالات البعيدة. لأن الشفيق بسوء الظن مولع، ولو تفكرت لعلمت أن هذا الاحتياط بالخطر الأبدي أليق. فإن قلت: ففي أي جنس من الأعمال ينبغي أن تتبع السنة؟ فأقول: في كل ما وردت فيه. السنة والأخبار فيه كثيرة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من احتجم يوم السبت والأربعاء فأصابه برص فلا يلومن إلا نفسه". وقد احتجم بعض المحدثين يوم السبت فقال: "هذا الحديث ضعيف" فأصابه البرص وعظم ذلك. عليه حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فشكا إليه ذلك فقال: لم احتجمت يوم السبت؟ فقال: إن الراويَ كان ضعيفاً.
فقال له: أليس كان قد نُقِل عني؟ فقال: تبت يا رسول الله. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفاء فأصبح وقد زال ما به. يضا: "من احتجم يوم الثلاثاء سبعة عشر من الشهر كان دواءً لسنة. وقال صلى الله عليه وسلم: "من نام بعد العصر فاختُلس عقله فلا يلومن إلا نفسه". وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمشِ في نعلٍ واحدة حتى يصلح شسعه". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولدت إمرأة فليكن أول ما تأكل الرطب، فإن لم يكن فتمرٌ، فإنه لو كان شيئ أفضل منه لأطعمه الله عز وجل مريم حين ولدت عيسى عليه السلام". وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أوتي أحدكم بالحلواء فليصب منه، وإذا أوتي بالطيب فليمس منه" وأمثال ذلك في العادات كثيرة ولا يخلو شيئ منها عن سر. وهنا كل هذه الأحاديث صحيح، بعضها فيه ضعف، ولكنه ليس شديد الضعف، الذي ننكره شديد الضعف. أما الصحيح والحسن والضعيف، والضعيف الذي ليس في الباب غيره، والضعيف المقوى بغيره، كل ذلك إنما هو يكون منقولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كروايات الإمام الحاكم وروايات الإمام البيهقي، وأبي يعلى وهكذا والبزّار ونحو هؤلاء. فكل هذا يصدُق عليه قوله في المنام: "ألم ينقل عني. أليس كان قد نُقل عني". فهذا يعني العمل ولو بالحديث الضعيف في هذا المقام. أما الذي لا يُعمل به فهو الحديث الذي لاسند له، أو سنده وصل إلى ضعف شديد أو خالف أصلاً من الأصول، أو كان موضوعاً مكذوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أصل له، وكل هذه الأشياء لا تكون قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما هذا الذي يتكلم عنه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فهو ممن يجيز جماهير جماهير جماهير الأمة العمل بالحديث الضعيف. خاتمة. خاتمة: في ترتيب الأوراد تنعطف على الأصول العشرة: وليُعلم أن هذه العبادات التي فصّلناها، منها ما يمكن الجمع بينها، كالصوم والصلاة والقراءة. ومنها ما لا يمكن الجمع بينها كالقراءة والذكر والقيام بحقوق الناس، والصلاة. وينبغي أن يكون من أهم أمورك توزيع أوقاتك على أصناف الخيرات من صباحك إلى مساءك، ومن مساءك إلى صباحك. تعلم أن مقصود العبادات تأكيد الأنس بذكر الله عز وجل، للإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، ولن يسعد في دار الخلود إلا من قَدِمَ على الله سبحانه محباً له، ولا يكون محباً لله إلا من كان عارفاً بالله مُكثراً لذكره، ولا تحصل المعرفة والحب إلا بالفكر والذكر الدائم، ولن يدوم الذكر في القلب إلا بالمذكّرات،وهي العبادات المستغرقة للأوقات على التعاقب. وباختلاف أصنافها زيادة تأثير في التذكير، ومنع الملال وسقوط أثره عن القلب بالدوام الذي ينتهي إلي حد الاعتياد. نعم إن كنت والهاً بالله عز وجل، مستغرقاً به، لم تفتقر إلى ترتيب الأوراد، بل وردك واحد وهو ملازمة الذكر. وما أُراك تكون كذلك، فإن ذلك من أعز الأمور. فإذا لم تكن والهاً مستهتراً به، فعليك أن ترتب أورادك، وأحد الأوراد هو من وقت انتباهك من النوم، إلى طلوع الشمس. وينبغي أن تجمع في هذا الوقت الشريف بعد الفراغ من الصلاة بين الذكر والدعاء والقراءة، والتفكر، فإن لكل واحد أثر آخر في تنوير القلب، وتعرف كيفية ذلك وتفصيله من كتاب (بداية الهداية) وكتاب (ترتيب الأوراد) من الإحياء وكذلك تفعل..فإذا لم تكن والهاً بالله مُستَهتَراً به. كما ضبطها عياض والنووي وغيرهما، فهي بفتح التاءين (مُستَهتَراً) وليس مُستَهتِراً، مُستَهتَراً به. نعم تفضل. وكذلك تفعل بنا الطلوع بين الزوال والغروب، وبين الغروب والعشاء، فإنه من أشرف الأوقات، لأن النشاط إنما يتوفر بأن تميز وِرد كل وقت لتكون في كل وقت عبادة أخرى تنتقل من بعضها إلى بعض، هذا إن كنت من العُباد. فإن كنت معلماً أو متعلماً أو والياً، فالاشتغال بذلك في بياض النهار، أفضل من العبادات البدنية، لأن أصل الدين العلم الذي به يحصل التعظيم لأمر الله سبحانه، والنفع الذي يصدر عن الشفقة علي خلق الله تعالى. وكذلك إن كنت مُعيلاً مُحترفاً، فالقيام بحق العيال بكسب الحلال أفضل من العبادة البدنية، ولكنك في جميع ذلك لا ينبغي أن تخلو وتنفك عن ذكر الله تعالى، بل تكون كالمُستَهتَر بمعشوقه، المدفوع إلى شغل من الأشغال لضرورة وقته، فهو يعمل ببدنه، وهو غائب عن عمله، حاضر بقلبه مع معشوقه. حُكي عن أبي الحسن الجُرجاني أنه كان يعمل بالمسحاة دائماً وكان يقول: "أعطينا اليد واللسان والقلب، فاليد للعمل، واللسان للخلق، والقلب للحق". ولنقتصر على هذا القدر في قسم الطاعات الظاهرة ففيه الكفاية إن شاء الله تعالى وهكذا أتممنا القسم الثاني وندخل في القسم الثالث في
تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة. بإسنادكم للإمام الغزالي رحمه الله تمهيد. قال الله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى" وقال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا". والتزكية هي التطهير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان". فافهم منه أن كمال الإيمان بتزكية القلب عما لا يحبه. الله عز وجل وتحليته بما يحبه الله تعالى، فالتزكية شطر الإيمان، وكيف يشتغل بالطهارة من لا يعرف النجاسة. فنذكر ترجع شُعَبُها عشرة أصول الأصل الأول في شره الطعام وهو من الأمهات العظيمة الضرر
في الدين. لأن المعدة ينبوع الشهوات إذ منها تتشعب شهوة الفرج، ثم إذا غلبت شهوة المأكول والمنكوح انشعب منها شره المال إذ لا يتوصل إلى قضاء الشهوتين إلا به، وينشعب من شهوة المال شهوة الجاه إذ يَعسُر كسب المال دونه، ثم عند حصول المال والجاه وطلبهما تزدحم الآفات كلها كالكبر والرياء والحسد والحقد والعداوة وغيرها. ومنبع جميع ذلك البطن ولهذا عَظَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الجوع فقال: ما من عمل أحب إلى الله تعالى من الجوع والعطش وقال: لا يدخل ملكوت السموات من ملأ بطنه وقال: سيد الأعمال الجوع. وقال عليه الصلاة والسلام: الفكر نصف العبادة، وقلة الطعام هي العبادة. وقال
عليه الصلاة والسلام: "أفضلكم عند الله تعالى أطولكم جوعاً وتفكراً، وأبغضكم إلى الله تعالى كل أكول نؤوم شروب". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن كان لا محالة وقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا لكم. قالت: كيف نديم؟ قال: بالجوع والظمأ؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة". وبإسنادكم إلى الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، فصلٌ في بيان فوائد الجوع، لعلك
تشتهي أن تعلم السر في تعظيم الجوع. ووجه مناسبته لطريق الآخرة فاعلم أن له فوائد كثيرة ولكن يرجع أصولها إلى سبعٍ إحداها صفاء القلب ونفاذ البصيرة فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب، قال صلى الله عليه وسلم. من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه، وتنوره, فلذلك كان الجوع قرع باب الجنة. الثانية: رقة القلب حتى يُدرك لذة المناجاة ويتأثر بالذكر والعبادة. قال الجُنيد: يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. والرقة والمناجاة والانكسار والهيبة من مفاتيح أبواب الجنة، وإن كان باب المعرفة فوقه الجوع قرع لهذا الباب أيضًا. والثالثة
ذل النفس وزوال البطر والطغيان منها، فلا تكسر النفس بشيء كالجوع. والطغيان داعٍ إلى الغفلة عن الله تعالى، وهو باب الجحيم والشقاوة. والجوع إغلاق لهذا الباب، وفي إغلاق باب الشقاوة فتح باب السعادة. ولذلك عندما عُرضت الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا، بل أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت صبرت وتضرعت، وإذا شبعت شكرت". الرابعة أن البلاء من أبواب الجنة، لأن فيه مشاهدة طعم العذاب، وبه يعظم الخوف من عذاب الآخرة. ولا يقدر الإنسان على أن يعذب نفسه بشيء كالجوع؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تكلف، ويرتبط به فوائد أخرى. ويكون مشاهداً بلاء الله تعالى على الدوام، وذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام. والشبعان في غفلة عن ألم الجائع. الخامسة وهي من كبار الفوائد كسر سائر الشهوات التي هي منابع المعاصي والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء قال ذو النون رضي الله عنه ما شبعت
قط إلا عصيت أو هممت بمعصية. ما شبعت وقضيت حاجتي إلا عصيت أو هممت بمعصية. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبع. إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا، وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها، فمن شبع لا يملك فرجه، فإن منعه التقوى. ولا يملك كما أن الفرج يزني. وجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة الشبع. صبر على أكل الخبز البحت سنة. لا يخلط معه شيئًا من الشهوات ويأكل بنصف بطنه، رفع الله تعالى عنه مؤنة شهوة النساء. السادسة خفة البدن للتهجد والعبادة وزوال النوم المانع من العبادة، فإن رأس مال السعادة العمر، العمر، والنوم ينقص.
العمر إذ يمنع من العبادة وأصله كثرة الأكل. قال أبو سليمان الداراني: "من شبع دخلت عليه ست خصال: فقد حلاوة العبادة، وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق؛ لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعًا، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد وهو يدور حول المزابل". السابعة. خفة المؤونة وإمكانية القناعة بقليل من الدنيا وإمكانية إيثار الفقر، فإن من قنع تخلص من شره بطنه ولم يفتقر إلى مال كثير فتسقط عنه أكثر هموم الدنيا، فمهما أراد أن يستقرض لقضاء شهوة البطن. استقرض من نفسه ترك
شهوته. كان إذا قيل لإبراهيم بن أدهم في شيء إنه غالٍ قال: أرخصوه بالترك. باب فصل في كيفية التقليل من الطعام. لعلك تقول قد صار الشبع والإكثار من الأكل لي عادة فكيف أتركها؟ فليعلم أن ذلك يسهل على من أراده بالتدريج، وهو أن ينقص كل يوم من طعامه لقمة حتى ينقص رغيفاً في مقدار شهر، فلا يظهر أثره ويصير التقليل عادة. ثم إذا رغبت بالتقليل فلك نظر في القدر والوقت والجنس. أما القدر فله ثلاث درجات، أعلاها وهي درجة الصديقين: الاقتصار على قدر القوام، وهو الذي يخاف من النقصان منه على العقل أو الحياة، وهو اختيار سهل التستري. وكان يرى أن الصلاة قاعداً لضعفه للجوع أفضل من...
الصلاةُ قائماً مع قوة العقل. الثانية أن تقنع بنصف مُدٍّ كل يوم وهو ثلث البطن، وهو عادة عمر رضي الله تعالى عنه وجماعة من الصحابة، إذ كان قوت أحدهم في الأسبوع صاعاً من شعير. الثالثة المُدُّ الواحد، وما جاوز ذلك فهو مشاركة. مع أهل العادة وميل عن طريق السالكين من المسافرين إلى الله تعالى، وقد يؤثر في المقادير اختلاف الأحوال والأشخاص، وعند ذلك فالأصل فيه أن يمد اليد إذا صدق جوعه ويكف وهو بعد صادق الاشتهاء، وعلامة صدق الجوع أن تشتهي أي خبز كان. مِن غيرِ إدامٍ، فإذا استثقل الأكل بغيرِ إدامٍ فهو علامة الشِبَع. وأما الوقت، ففيه أيضاً ثلاثُ درجاتٍ، أعلاها أن يطوي ثلاثة أيامٍ فما فوقها، فقد كان الصِّدِّيقُ رضي الله تعالى عنه يطوي ستة أيامٍ. وإبراهيم بن أدهم والثوري صاما سبعة أيام، وبعضهم انتهى إلى أربعين
يوماً، وقيل إن من صام أربعين يوماً فتظهر له حتماً أشياءٌ من عجائب الملكوت، ولا يمكن ذلك إلا بالتدريج. وأما المتوسط فهو اليومان، والحد الأدنى أن يأكل المرء في اليوم مرة واحدة، فمن أكل في اليوم مرتين لم تكن له حالة جوع مطلقاً. فيكون قد ترك فضيلة الجوع. وأما الجنس فأعلاه خبز القمح مع الإدام، وأدناه خبز الشعير من غير إدام، والمداومة على الإدام مكروه جداً. قال عمر رضي الله تعالى عنه لوله كُل مرة خبزاً ولحماً ومرة خبزاً وسمناً ومرة خبزاً ولبناً ومرة خبزاً وملحاً، ومرة خبزاً قفاراً. فهذا تنبيه على الأحسن في أهل العادة. وأما السالكون الطريق فقد بلغوا في ترك الإدام، بل في ترك الشهوات جملة، حتى كان بعضهم يشتهي الشهوة عشر سنين. وعشرين سنة وهو يخالف نفسه ويمنعها شهوتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شرار
أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليهم أجسامهم، وإنما همتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدقون في الكلام". وقد شرحنا طريق السلف في ترك الشهوات في كتاب كسر الشهوتين من الإحياء: قلة الطعام وقلة الكلام وقلة الأنام. وقلة المنام هي الأصول التي بُني عليها الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الأصل تكلم الإمام الغزالي عن قلة الطعام بمثل هذه المرويات والأفعال للصالحين من السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وسيتكلم في الأصل الذي بعده عن قلة الكلام، وقد نبه على
وجوب أو لزوم الأنام وذلك بالخلوات وبالاعتكاف وبتقليل العُلقة مع خلق الله سبحانه وتعالى حتى لا يصل خاصة وهو في بدايات الطريق إلى هذه الأمراض. ونبّه قبل ذلك على قلة المنام وذلك بقيام الليل واشتغاله بالليل بالعبادات والذكر والقراءة والدعاء ونحو ذلك. الأصل الثاني، الأصل الثاني في شره الكلام، وذلك لا بد من قطعِهِ فإن الجوارح كلها تؤثر أعمالها في القلب، لكن اللسان أخص به لأنه يؤدي إلى عن القلب ما فيه من الصور، فتقتضي كل كلمة صورة في القلب محاكية لها.
فلذلك إذا كان كاذباً حصل في القلب صورة كاذبة وأعوج به وجه القلب، وإذا كان في شيء من الفضول مستغنى عنه. اسودّ به وجه القلب وأظلم حتى تنتهي كثرة الكلام إلى إماتة القلب، ولذلك عظّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اللسان وقال: "من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة"، وسُئل عن أكثر ما يُدخِل الناس النار فقال: "الأجوفان: الفم والفرج"، وقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يَكُب الناس على وجوههم في النار إلا بسبب حصائد ألسنتهم، وقال: "من صمت نجا"، وقال معاذ رضي الله تعالى عنه: "أي الأعمال أفضل؟" فأخرج صلى الله عليه وسلم لسانه ووضع عليه يده وقال: "إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه، ومن كثُر سَقَطه كثُرت ذنوبُه، ومن كثُرت ذنوبُه فالنار أولى
به". ولهذا كان الصديق رضي الله تعالى عنه يضع حجراً في فيه ليمنع نفسه من الكلام. فصلٌ في بيان الاقتصار على المهم من الكلام. اعلم. أن يعلم أن اللسان أن للسان عشرين آفة شرحناها في كتاب آفات اللسان من الإحياء، ويطول ذكرها هنا. ويكفيك العمل بآية واحدة، قال الله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس"، ومعناه أن لا تتكلم فيما لا يعنيك وتقتصر على... المهم ففيه النجاة قال أنس رضي الله تعالى عنه استشهد غلام منا يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: "هنيئاً لك الجنة، هنيئاً لك الجنة يا بني"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعله كان يتكلم في ما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره، والمقصود بما لا يعنيه هو الذي لو تركه لم يَفُت به ثواب
ولم يقع له ضرر بسببه. وإن اقتصر من الكلام على هذا القدر قلّ كلامه. فليحاسب العبد نفسه عند ذكره ما لا يعنيه، إذ إنه لو ذكر الله تعالى بدلاً من تلك الكلمة لكان ذلك كنزاً. من كنوز السعادة، فكيف يسمح العاقل بترك كنز مكنوز وأخذ مدره؟ هذا لو لم يكن فيه إثم، فإن كان فيه إثم فهو كترك كنز وأخذ شعلة من نار. ومن جملة ما لا يعنيه حكاية أحوال الأسفار وأحوال أطعمة البلاد وعاداتهم وأحوال الناس وأحوال الصناعات والتجارات. ومن جملة ما ترى الناس... يخوضون فيه فصل في تفصيل بعض آفات اللسان. هكذا هذا الفصل يطول فتجعله للمرة الثانية إن شاء الله تعالى، ونقف عنده في تفصيل بعض آفات اللسان وهي كثيرة كما قال وذكر أنها منضبطة بالنهي
عن اللغو وبقوله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم"، وفي فضل الصمت وفي محاسبة اللسان. كما أشار سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم، هناك بعض الأسئلة: هل الاتباع يزيد في المحبة أم المحبة تزيد في الاتباع؟ هذه كالدائرة، فإذا زادت المحبة زاد الاتباع، وإذا زاد الاتباع زادت المحبة. ويعبر عنها أيضًا أهل الله بكلمة المجذوب السالك أو السالك المجذوب، فالسالك هو المتبع والمجذوب هو المحب. فقد يكون من اتباعه الحب أو من حبه الاتباع، فليس هناك بداية أو نهاية، بل هي أنواع
حسب ما يقدر الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا سالكاً مجذوباً أو مجذوباً سالكاً. هل الحديث الذي ثبتت صحته في المنام يكون حجة؟ لا، الحديث الذي ثبتت حجته في المنام لا يكون حجة. إنما يكون دافعاً لمزيد من البحث عن سند أو غير ذلك كثير. يقول الإمام العراقي في تخريج الإحياء: "لا أصل له"، ثم يجده بعد ذلك المحدِّثون والفقهاء، بالرغم من أن الإمام العراقي كان حافظاً وكان أستاذاً لابن حجر العسقلاني، وهو الذي تخرج به ونشأ على يديه، وابن حجر كان أعجوبة زمانه. في هذا الأمر وكان تلميذاً للحافظ العراقي رحم الله الجميع. المرتضى
الزبيدي في كتابه "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" كثيراً ما وجد أحاديث يقول عنها الإمام العراقي: "لم أجده"، "لا أعرفه"، "لا أصل له"، ويرى أنه قد أخرجه أمثال الإمام البيهقي في الزهد. رجعنا. من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وكذلك كثير من العلماء ومنهم ابن تيمية رحمه الله تعالى كان ينكر هذا الحديث ويقول إنه من كلام ابن علية ثم بعد ذلك تبين أنه مروي في "الزهد" للبيهقي وأن له سندًا وأن سنده لا بأس به وهكذا فوق كل ذي علم عليم ولكن ليس
من الرؤيا في المنام لا تصحح الحديث في ذاتها، وروي عن الإمام السيوطي أنه كان لا يدخل على الحكام، وكان يقول: أفضّل مصلحة الأمة على مصلحة هذا الشخص الذي يريد أن أقضي حاجته عند الحاكم، لأنني كلما دخلت على أحدهم لم أرَ رسول الله وأنا أصحح عليه الحديث. فهذه المشاهدة التي كان يراها الإمام السيوطي إنما هي نوع من أنواع الفتح ونوع من أنواع التحفيز، فإنه كان يرى في مثل هذه المشاهدات انفتاحاً ينبهه إلى صحة
ذلك السند أو إلى حسنه، أو إلى أن الأمر ليس كذلك، أو يرشده إلى غيره من الأسانيد حيث يكون البحث صعباً للوصول. إليها ونحو هذا من الأمور، فهذه المشاهدات وتلك الرؤى تدفع المحدِّث إلى مزيد من البحث المنضبط، لأن النائم حاله على غير انضباط، فلم يجعلوه حاكماً على الأحاديث. هناك بعض الأسئلة تظهر على الشاشة من شخص، فهل سيدي، هناك من
يقول يكفي الاتباع والدليل خير لي من صحبة. المشايخ يعني على كل حال نحن هنا نتكلم عن أهل الله وعن الفتوح وعن التوفيق وعن الانشراح وعن الفرح، ومثل هذا أمره مع نفسه، لا يريد أن يكون شافعياً ولا مالكياً ولا حنفياً ولا غير ذلك، يكفي أن أكون مسلماً. ربنا يوفقه، لكن هذا منهج خاطئ ومنهج فيه تعالٍ وفيه كِبر. وفيه عدمُ التزامٍ بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقضيةُ الصحبة قضيةٌ واردةٌ في الشريعة ومأمورٌ بها، ويجبُ على الإنسانِ أن يضعَ نفسَه في مقامِها الصحيحِ، وليسَ أن يتكبرَ كلَّ هذا الكِبر، فهو
لا يفهمُ لغةً ولا يفهمُ قرآناً ولا يفهمُ فقهاً، ولا هو من الملازمينَ للعبادة. حتى يفتح عليه، فإذا لازم لم يقل هذا الكلام لأن سادات الأمة لما لازموا، لازموا العبادة كالإمام النووي وابن دقيق العيد والإمام السيوطي وأمثال هؤلاء الذين أفنوا حياتهم، بل الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أبو حنيفة وغيرهم من الأئمة العظام. الحقيقة أنهم توجهوا إلى هذا المنحى الذي نتكلم فيه وإلى حديث جبريل الذي علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة من الإسلام والإيمان والإحسان، فهذا يريد أن يكون مسلماً وحده هكذا مثل الأعراب، قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا. فهو يريد
أن يكون مسلماً، فمرحباً به في الإسلام، ولكن يتركنا في حالنا ونتركه في حاله لأنه هذا من شأنه أن يشرح الله سبحانه وتعالى الصدور بمثل هذه المعاني وليس بالإقناع العقلي والإقناع بإقامة الدليل والجدل. وأنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال ولو كان محقاً. فاللهم يا ربنا اشرح صدورنا واجمعنا على الخير وعلمنا العلم النافع واجعل لنا قدوة حسنة في سيدنا صلى الله عليه وسلم. وسلم وفي من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعزكم الله يا سيدي ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله، بارك الله فيكم سيدنا، شكراً لكم، مع السلامة، جزاكم الله.