الحكم العطائية | من 36 - 41 | أ.د علي جمعة

الحكم العطائية | من 36 - 41 | أ.د علي جمعة - الحكم العطائية, تصوف
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. قال رضي الله تعالى عنه ونفحنا الله بعلومه في الدارين آمين: شعاع البصيرة يشهدك قربه منك، وعين البصيرة تشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجوده لا عدمك ولا وجودك. إذاً فهي درجات ثلاث بعضها فوق بعض بحسب سير السالك في طريق الله إلى الله في
الأولى تعمل البصيرة وعمل البصيرة يُعلِم بأننا قد بدأنا السير إلى الله وقلنا إن اليقظة هي أول الطريق واليقظة معناها القيام من الغفلة والغفلة أن تنسى من أنت أيها الإنسان وأنك مخلوق لله سبحانه وتعالى وأنه لا يكون في كونه إلا ما أراد وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأنه لو اجتمع العالم على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك
وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك بشيء إلا وقد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت وطويت الصحف وانتهى الأمر فإذا عرفت ذلك والله أعلم بما هنالك فقد بدأت اليقظة فبدأت البصيرة تعمل فصدر منها شعاع ينير لك الطريق. هذا الشعاع يُشهدك قربه منك، أي كأنك تشعر وتفهم أن الله موجود وأنك موجود وأن الله قريب منك. "فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان". يشعر
الإنسان باثنين: الله الخالق والعبد المخلوق. تشعر بوجودك وتعلم أن وجود الله هو... الحق والشعاع الذي يصدر من بصيرتك يهديك إلى الله سبحانه وتعالى ويجعلك توقن بأنه هو الحق. شعاع البصيرة يشهدك قربه منك، قربه منك يثبت وجودين: وجود حق لرب العالمين ووجود فانٍ للعبد الضعيف، ثم يترقى في طريق الله. وعندما يرى ذلك
الشعاع تشتغل عين البصيرة، وعين البصيرة. اشهدوا أن الله هو الأول الذي لا قبله شيء، وهو الآخر الذي ما بعده شيء، وهو الظاهر الذي هو أظهر من الكائنات، وهو الباطن الذي هو وراء كل شيء، وأنه
سبحانه وتعالى بكل شيء عليم وبكل شيء محيط. أما أنت فلك بداية حيث ولدت، ولك نهاية حيث تموت. قائمٌ بالله لا بنفسه، فعندما تعمل عين البصيرة يحتقر الإنسان نفسه أن يسمي نفسه مع الله موجوداً، فإن وجوده مستمد من وجود الله وبأمر الله، والله سبحانه وتعالى يخلقه كل لحظة وكل حين، فإذا قطع عنه الإمداد فني، لا يموت، يفنى جسمه، يفنى، يتلاشى، لا وجود له، عدم، فأنت
تُخلق. شيئاً فشيئاً ولحظةً من بعد أخرى، اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، لأنه لو وكَلك إلى نفسك لا تستطيع أن تخلق نفسك وبذلك تفنى. فاللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك. عين البصيرة إذا اشتغلت شعرت بعدمك وبأن الذي يستحق أن يُسمى موجوداً. هو الله وحسب، أما أنت فتراب ابن التراب، وعدم ابن عدم، أما أنت فخيال، أما أنت فلا وجود لك في هذا الكون إلا به
سبحانه وتعالى، فأنت موجود حاصل في الكون به لا بنفسك. كل يوم هو في شأن، فإنها أمور يبديها ولا يبتديها، يبديها من علمه وقدرته وإرادته فيظهر. هذا الكون ويظهر استمراره، لكن الحقيقة أن الله لو قطع عنا الإمداد لفنينا. فإذا صار السالك في طريق الله أكثر من هذا، وصلت البصيرة إلى درجة الحق، وحق البصيرة يشهدك وجوده وحده لا إله إلا هو، وتغيب
عن عدمك ووجودك معاً. يعني عين البصيرة تغيبك عن وجودك، وحق البصيرة يغيبك. عن عدمك أنت لا شيء، أنت بالله تماماً حتى شعورك هذا إنما هو من الله، إذا حدث لك فالذي فجر شعاع البصيرة هو الله، والذي جعل الإنسان لم يدخل طريق الله هو الله، والذي وفق هو الله، فكيف نحمده سبحانه وتعالى؟ نعجز عن حمده وشكره، فيقول رسول الله صلى الله. عليه وسلم يعلمنا: "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"،
لأنك كلما حمدت الله سبحانه وتعالى كلما استوجب ذلك منك حمداً مجدداً، لأنه وفقك أن تحمده. فكيف ننتهي وهل أوقاتنا تسمح بذلك؟ إذاً فأنت مخلوق عاجز، ولذلك يسجد المسلمون. أنت في الركعة تقول ماذا؟ "الحمد لله رب العالمين". وبعد أن تنتهي من قراءة الفاتحة، من الذي وفقك؟ ربنا. فتخرّ له راكعاً. من الذي وفقك لأن تركع؟ الله. فتخرّ له ساجداً. انظر كيف أنك في الصلاة ماذا
تفعل؟ أنت لا تعرف ماذا تفعل. الحمد لله، أليس هذا كافياً؟ حسناً، أركع ها أنا ذا إظهاراً للخضوع لك وحدك لا شريك لك. حسناً، فمن... لديه طب سأسجد شكراً للركوع، طب هو أيضاً من عنده، إذن سأكرر السجود، فأنا لا أعرف ماذا أفعل، أُدخِل نفسي تحت الأرض، ماذا أفعل؟ فأسجد مرة أخرى شوقاً لحمده وتسبيحه وتنزيهه، ليس كافياً، فأقول له إذن لنعيش مرة أخرى، فأقوم وأحمد مرة أخرى، وآتي بركعة ثانية وثالثة ورابعة، ولو
كان فتح بجانبنا. كنا نصلي باستمرار لكن الحياة كانت صعبة، إذ إن لدينا أمورًا أخرى نهتم بها، "وجعلنا لهم أزواجًا وذرية" أي جعلنا لهم روابط في الدنيا لإعمارها. حقُّ البصيرة ينتفي معه وجودك وعدمك، وتراه وحده لا شريك له. قال رضي الله تعالى عنه ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين، كان الله. كان الله قبل الخلق ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. كان الله قبل الخلق ولا شيء معه، وقال
للخلق كن فكان، وأمره بين الكاف والنون. أمره بين الكاف والنون أي أنه قادر على أن يخلق السماء والأرض وما بينهما وما فيهن في لحظة، لا بل في أقل من لحظة، لأن كلمة "كن" تستغرق... لحظة تستغرق أقل من لحظة، ولكن ما معنى لحظة؟ إنها نظرة أو طرفة عين، وكم مدتها في الزمن؟ أقل من ثانية. وتلك انقضت بسرعة، أي أقل من ثانية أيضاً، أقل من اللحظة. فالأمر بين الكاف والنون، لكنه علّمنا أن الأشياء تُبنى واحدة واحدة، وأهل الطريق سمّوه طريقاً. لماذا؟ لأنه خطوة خطوة،
انظر الكلام يقول لك سِرْ في طريق الله. حسناً، طريق الله سمّوه طريقاً لماذا؟ أهذه بدعة؟ قال له: لا، ليست بدعة، هذا الطريق معناه يعني سِرْ خطوة خطوة. لا تتعجل، فإن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. سيدنا رسول الله سمى السير إلى الله الطريق، ألا إنه سماه الطريق. قال: كان الله، وما دام أنت شعاع البصيرة وعين البصيرة وحق البصيرة، فتنبه أنه كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فما نحن إذن؟ نحن مجرد فيلم. لا حول ولا قوة إلا بالله. بالله الذي صنعه وأمر به وأوجده وأخرجه وأبرزه وأظهره، هو الله، لا
تتعدى نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال، الله كريم، فكن ذكياً واقعياً، تطلب من غيره؟ ستطلب ممن؟ الناس الذين ستطلب منهم؟ إذا طلبت من العبد سيتلاعب بك ستين لعبة، وإذا طلبت من نفسك فأنت عاجز وأنت قادح. عندما تريد أن تفعل شيئاً، اطلب من الكريم الذي لا يرد من ترك بابه الواسع، سبحانه وتعالى، الجواد الذي يعطي بلا حدود وبلا محاسبة
وبلا حساب. الله سبحانه وتعالى، لا تتخطاه همتك ونيتك ونية همتك إلى غيره، فإن الكريم لا تتخطاه الآمال إذا عرفت الحقيقة وأنه لا يكون في كون الله إلا ما يريد. ما أراد وأن هذا الوجود كله بإذن الله. عرفت ممن تطلب، فإذا كان الله قد قدَّر بعض الأرزاق فهو فعَّال لما يريد، لكنه كريم، ولم يقل عن نفسه ومن أسمائه أنه المُضيِّق، بل هو الواسع الكريم الذي
لا يرد من سأله ودعاه، وقال: "ربكم ادعوني أستجب لكم". والله إذا حررنا... لو طهَّرنا قلوبنا من غير الله واتجهنا إلى ربنا بالدعاء لاستجاب لنا، لكن كثير من الناس حين تدعو تتعجل، أو حين تدعو يميل قلبها إلى غير الله. ماذا يعني "سوى"؟ أي ما عدا الله. يميل قلبه إلى غير الله، فيصبح قلبه مائلاً هكذا، يقول: يا رب اجعله... أي يعطف قلبه على قلبه وما شابه، يا رب افعل كذا هو... على الفور تذكروا آية "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون". إن سيدنا موسى صنع الله به أمراً عجيباً حيث ألقى عليه
المحبة "وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني" وهو في المهد وهو كبير وفي كل شيء. ماذا فعل فرعون؟ فرعون كان يعلم أن هذا سيقتله. فرعون كان جباراً مما... قيل عنه أنه كان يقتل بالنظرة، أي ينظر هكذا للحارس بعينه، فقط يحرك عينه، ولا يقول "اقتل هذا" ولا بنصف كلمة. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "من أعان على قتل أخيه ولو بشطر كلمة استوجب النار". قالوا إن شطر الكلمة هي "اق"، فبعض الجبابرة يكون بينه... وبين السياف الخاص به وقتال جنوده توجد مماثلة، فما يقول اقتل
فلاناً، بل يقول "اق" فقط. يُقال لك إن فرعون لم يكن يقول "اق"، بل كان ينظر فقط فيأتون على الفور قاتلينه. خلاص عرفنا أن هذا الجبار هو جبار متكبر عاتٍ كافر. حين يرى سيدنا موسى يقول له ماذا؟ إلا من ربك فينا. وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين. أإلى الله أنت تتكلم أم ماذا؟ لماذا لا تقتله؟ ألست قادراً؟ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وألقيت عليك محبة مني. انظر إليه هكذا، إنه يحبه. لماذا تحبه؟ اقتله، فإنه سيقتلك. أنت جبار غير قادر. يقول له يا.
يا بني ليس هكذا، ما هذا؟ قال "ألم نربك فينا وليداً"، وهذا كلام فرعون. هذا كلام شخص يلوم ابنه. وأيضاً "وفعلت فعلتك التي فعلت"، فأنت متهم بقضية. وأي قضية؟ فكذّبه موسى فقضى عليه، قضية قتل عمد. والله يعني كان يجب إذن أنا أيضاً معي قضية تستوجب قتلك. يا موسى، بغض النظر عن قصة أنني خائف منك وأنك ستقتلني وأمور كهذه، لا أعرف ماذا. حسناً، اقتل إذن. لكن ألم نربك فينا وليداً، ومكثت فينا من عمرك سنين؟ يقول له: يا أخي، العِشرة لا تهون إلا على ابن الحرام. الله الله الله! ما هذا؟ ما هذا الكلام؟ من أين أتى هذا الكلام؟ من أين أتى؟ ممن حيل بينه وبين قلبه، جاء
من إلقاء حب الله عليه، يقول لك ماذا أيضاً؟ ربنا... ثق بالله ولا تتعدى نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال. يبدو أن هذا الرجل كان مفتوحاً عليه، الشيخ ابن عطاء قلبه رأى الحقائق فصاغها بتوفيق الله. حرام على من وحد الله ربه. وافرده أن يستجدي أحداً عطاءً، ويا صاحبي قِف بي مع الحق وقفةً أموت بها وجداً وأحيا بها وجداً، وقل لملوك الأرض تجهد جهدها،
فهذا المُلك مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدى. قال رضي الله تعالى عنه ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين: لا ترفعنَّ إلى غيره حاجةً، هو موردها عليك أنت. ماذا تطلب؟ هذا قادم إليك، قادم إليك، لكن ليس من نصيبك إلا الذل للعبد، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعًا؟ هل هناك أحد يفعل شيئًا سيُفعل رغمًا عنه؟ اطلبه بعزة النفس وجمّله في الطلب: "لو سمحت". أتوقع لي هذه، سأوقعها، لن يوقعها، فلنتجنب الذنب إذًا، إنه لن يوقعها، أنا أعمل له. من
لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعة. إذا كانوا يسمونها قضاء الحاجة، فالإنسان إذا لم يستطع قضاء حاجته، فإنه يموت من الضرورات، لو أن الله ابتلاه فمنع خروج حاجته منه لمات. فإذا كان هو لا يعرف أن يفعل ذلك. هذا عن نفسه إلا بفعل الله فيه. كان سيدنا أبو الحسن الشاذلي يقول: "نأكل بالأرطال ونشرب بالأسطال" - الأسطال التي هي الجرادل، ليست كوب ماء، بل هي سطل، الجردل الكبير - "ونشرب بالأسطال ونذكر
مع الرجال". فكان الذكر يحرق الطعام في جسمه، فكان كل شهر أو شهرين يخرج منه مثل... البعرة شيء صغير هكذا من ذهب إلى أين بإذن الله فإن الذكر يحرق فبإذن الله تُقضى الحاجات ولكن غير هذا يبقى لم يحدث بعد لا شعاع ولا عين ولا بصيرة حصلت حق البصيرة قال رضي الله تعالى عنه إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه أنه هو رب العالمين لأجل وصفه أنه القادرُ على كلِّ شيءٍ واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فأحسِنْ ظنَّكَ به لأجلِ معاملتِهِ معكَ ما دمتَ لا تزالُ لا تعرفُ أن تعبدَهُ من
أجلِ ما هو له وما هو أهلُه. اسعَ لمصلحتِكَ يا أخي ما دمتَ مقيَّداً في الدنيا، هو لا يعرفُ الخروجَ، فخُذها خطوةً خطوةً، فهذا هو الطريقُ. والطريق خطوات، فواحدة واحدة خذها، واحدة واحدة واعبده لمصلحتك أولاً، وبعد ذلك ترتقي إلى أن تعبده لذاته لأنه يستحق العبادة. فهل عوَّدك إلا حسناً؟ أليس طوال النهار جالساً ينعم عليك وأنت طوال النهار تبارزه بالمعصية وبالتقصير وبالقصور، ومع ذلك سترك وغفر ذنبك ويسَّر غيبك وأنعم عليك نعماً لا تُعد
ولا تُحصى، وهل آذى؟ إليك أن منا إذا لم تعرف أن تتأمل وتتدبر في نفسك، ستجده كريماً. فإن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه، فحسن ظنك به لأجل معاملته معك. أليس يكرمك؟ أليس يؤيدك؟ أليس يسترك؟ تخيل هكذا لو أن كل ذنب فعلته افتضحت فيه! فاللهم سلم سلم. ستكون الحالة سيئة، ستكون سيئة جداً. العجب كل العجب ممن. يهرب مما لا فكاك له عنه ويطلب ما لا بقاء له معه، أنت
الآن شخص غريب جداً، تفر من الموت والموت لا بد منه لأنه يلقاك.