الخلاف بين الفقهاء والصوفية | أ.د. علي جمعة

الخلاف بين الفقهاء والصوفية | أ.د. علي جمعة - فتاوي
اكتب بحثاً حول الخلاف بين الفقهاء والصوفية. فهل يمكن إطلالة من فضيلتكم حول هذه المسألة؟ الفقهاء يتكلمون عن الحكم الشرعي للفعل البشري: السرقة حرام، الصلاة واجبة، البيع مباح، الزواج سنة مستحبة للقادر عليه. فإذا تأملنا في السرقة والصلاة والزواج والطلاق والقضاء وجدناها أفعالاً بشرية بعضها حرام وبعضها واجب وبعضها مباح. وبعضها مندوب وبعضها مكروه. عندما تقول: أكل البصل النيئ مكروه، فأكل البصل هذا فعل من أفعال البشر، والحكم
صفة لذلك الفعل. الفقهاء هم الذين ينشئون هذه الأحكام الشرعية المرعية. أهل التصوف عندما جاؤوا أخذوا من حديث جبريل الذي تكلم عن مرتبة الإحسان، وكما قال سيدنا: "أن تعبد الله كأنك تراه". فإن لم تكن تراه فهو يراك، أقاموا لذلك نظاماً لتخلية القلب من كل قبيح وتحلية القلب بكل صحيح عن طريق ما أمر الله به ورسوله من الذكر والفكر، ومن السير في درجات إلى الله سبحانه وتعالى يترقى فيها العبد معه كل يوم، وإلى تطبيق الكتاب والسنة من هذا الجانب فهم. يتكلمون عن أعمال
القلوب وعما تُحدثه العبادة من آثار، تكلموا بالتوسع عنها الفقهاء. عندما جاء أولئك يدعون إلى تنقية القلوب، هم ليس لهم عمل في تنقية القلوب، فظنوهم يتكلمون على موهوم. فلما رأوا أدلتهم، اتفق الفقهاء مع الصوفي. أول من تكلم عن هذا المعنى وهذه الدائرة من حياة الإنسان والاهتمام. بها كان سيدنا علي ثم سيدنا أبو بكر على علم هذا للحسن البصري، علّمه كيف ينقي قلبه من القبيح وكيف
يحلي قلبه بالصحيح، علّمه الآداب مع الناس ومع النفس ومع الله. وتلقى الحسن البصري هذا عنه وغير واحد من التابعين تلقى هذا عن أبي بكر، وجاءت الأسانيد وإلى يومنا هذا. لتلك الطائفة المباركة التي تهتم بدرجة الإحسان وتصل بالمسلم عن طريق الكتاب والسنة إليه، ولكن الفقهاء تعجبوا من ذلك أول الأمر، ثم بعد ذلك ركبوا ذلك الطريق، إلا أنه كان في العصور الأولى يسمى زهداً، وكان الإمام مالك
زاهداً في الدنيا، كانت الدنيا في يده ولم تدخل قلبه، والزاهد لا لا يُسمى زاهداً إلا إذا امتلك الدنيا بيده، أما ذلك الذي هو محروم من الدنيا وصابر على بلاء الحرمان فليس بزاهد، إنما هو صابر. والإمام أبو حنيفة كان من الزهاد، كانت حلته تُقدر الآن الحلة الواحدة بمائة وأربعين ألف جنيه. ستقول لي أي ماركة أو علامة تجارية للبدلة بمائة وأربعين ألف جنيه؟ لن تجد هي غاية المراد من رب العباد، ستة أو سبعة آلاف دولار لا تجلب أيضاً هكذا
مائة وأربعين ألف جنيه. الحلة خاصته التي يغيرها كل يوم، هذا هو الزاهد لأن الدنيا في يده وليست في قلبه. أما بعد ذلك و جاء السفيانان والحمدان والشافعي، كلهم كانوا من أهل هذا المعنى. وينسب للشافعي كثير من هذا الكلام: "شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأنبأني بأن العلم نور ونور الله لا يُهدى لعاصي". وكان من أهل القرآن، فكان يقرأ القرآن كثيراً ويختمه كثيراً، وكان القرآن أمام الشافعي
كالسطر الواحد يأخذ منه ما يشاء. الإمام أحمد ذهب إلى الحارث المحاسبي. يستمع إليه فأُغمي عليه وهو يستمع إليه من فوق السطح وقال هذا كلام خطير، إلا أنه بعد ذلك وعلى عهد الإمام الغزالي أصبح الفقهاء من الصوفية، فالغزالي أحد أركان المذهب، الغزالي والجويني ركنا المذهب في القرن الخامس الهجري، الغزالي توفي سنة خمسمائة وخمسة، كان من أهل التصوف وكتب فيه الإحياء. علوم الدين ومكاشفة القلوب وغيرها من هذا المعنى، وبدأ
الفقهاء الكبار يركبون طريق التصوف علناً بعدما فهموا المصطلح الذي كان ملتبساً عليه بين هذه الطائفة وتلك الطائفة، أو بين هذين العِلمَين، فظهر عبد الكريم القشيري إلى أن جاء أبو الحسن الشاذلي، وكان من تلاميذه سلطان العلماء العز بن عبد. السلام وكان من أتباعه المرسي أبو العباس ومن أتباع المرسي ابن عطاء الله السكندري وكان فقيهاً في الإسكندرية وهكذا فالتأم الحال حتى أصبح شيخ الإسلام إبراهيم الباجوري شيخ الجامع الأزهر خاتمة المحققين على
طريقة النقشبندية وهكذا اتفق الطرفان منذ القرن الثاني الهجري وإلى يومنا هذا وما زال ما بينهما. من مصطلح وفهم كل واحد منهم مراد الآخر، إذاً فهناك تصوف سلفي يمثله مالك ومن معه، وهو كان يُطلق عليه الزهد، وهناك تصوف سني يمثله الغزالي ومن معه، وهو الذي يسير إلى يومنا هذا. إلا أنه في الطريق ظهر تصوف آخر وهو التصوف الفلسفي والذي يمثله محيي الدين بن العربي. رضي الله تعالى
عنه وأرضاه حتى قال عنه العلماء الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، وألّف الفتوحات المكية وما له إلى معنى الحب، وبعده جلال الدين الرومي والشمس التبريزي قبل جلال الدين وأستاذه، فانتشر مذهب الحب الذي هو أحد أركان الإحسان عندنا، انتشر في العالم ودخل الناس في دين الله أفواجًا، استطاع أبو يريد أن يدرس عقلية الآخر وأن يخاطبه بخطاب يصل إلى قلبه، فأظهر له الحال وكشف له الستر وبيّن له الأسرار، فتدفقت
الأنوار. محيي الدين بن عربي كان له دور كبير في انتشار الإسلام في العالم شرقاً وغرباً، وذلك من مدخل الحب، والحب ليس من عمل الفقهاء بل هو من عمل. المحسنين